قضايا وآراء

سوريا.. عقد من المأساة

عمر القباطي
1300x600
1300x600
دخل النزاع السوري عامه الحادي عشر، مثقلا بحصيلة قتلى تقدر بنصف مليون إنسان، وعشرات الآلاف من المفقودين، ونحو 6.6 مليون شخص نازح خارج البلاد بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، عدا عن النازحين داخليا الذين وصل عددهم إلى 6.1 مليون شخص.

وذنبهم الوحيد هو أنهم قبل عشر سنوات قام عدد من الأطفال في محافظة درعا جنوب البلاد بتحطيم صور لرئيس دولتهم، ورفع لافتات مكتوب عليها "جاك الدور يا دكتور"، ولم يعلم أولئك الأطفال الأبرياء ما الذي كان ينتظرهم، وما الذي سيحل بمدنهم وأهاليهم.

وتوقع الكوارث والمخاطر والمدلهمات هو الذي أحجم كثيرا من الشباب والرجال سلفا عن القيام بحركة أو بثورة، إذ ما زالوا يستذكرون جيدا ما حل بمدينة حماة عام 1982م، فلم يفكروا لفترة زمنية طويلة بالانتفاضة والخروج واستنكار ممارسات النظام، الذي يراقب تحركات الناس وأنفاسهم ولا يقبل أي انتقاد لرئيسهم، ولا وجود عنده للرأي والرأي الآخر، ولا يسمح بإنشاء جمعيات أو أحزاب، ويضع المساجد تحت الرقابة الصارمة، ويمارس التعذيب الوحشي بحق المعتقلين في سجونه، واختتم أعماله المشينة بفتح الباب على مصراعيه للإيرانيين لنشر التشيع وإقامة الحسينيات والحوزات.

لكن شجاعة الأطفال جعلت الكبار يحذون حذوهم، فخرجت مظاهرات في أغلب المدن السورية، كحمص وحلب ودرعا ودير الزور والرقة وحماة، مطالبة بالتغيير وإصلاح النظام.

وفي مواجهة ذلك، أعلن بشار الأسد إلغاء قانون الطوارئ ومحكمة أمن الدولة، وسن قانون التظاهر السلمي، وإطلاق سراح بعض المعتقلين، وتشكيل حكومة جديدة ومنح الجنسية لعشرات الآلاف من الأكراد، غير أن المتظاهرين لم يروا إلا القتل والسحل والملاحقات ولم يلمسوا من تلك الوعود شيئا، فطالبوا بإسقاط النظام وذهابه كله، فرد النظام بالإمعان في ظلمه وجبروته وتجاهل مطالب شعبه، ولم يجد حرجا في حصار المدن ودكها وقصفها من البر والجو ببراميله المتفجرة وقنابله المحرمة، فوجد أبناء الثورة أنفسهم بين خيارين: إما أن يستسلموا ويسلموا أنفسهم، أو أن يستلوا أسلحتهم ويدافعوا عن كرامتهم ومدنهم، فاختاروا السلاح؛ لا سيما بعد انشقاق كثير من قوات النظام والتحاقهم بالثورة.

كان النظام يفقد المناطق شيئا فشيئا، وفي بداية 2013 تدخل حزب الله اللبناني وتبعته مليشيات إيرانية من بلاد مختلفة، كلهم يعملون تحت إشراف الحرس الثوري، ووصل تعدادهم لحوالي 70 ألفا توزعوا في مختلف الجبهات، لا سيما في حمص ودمشق وحلب، وشنوا هجمات مكثفة ودموية وارتكبوا الكثير من الفظائع والمجازر، منها تسويتهم لحي بابا عمرو في حمص بالأرض، وقتل وتهجير آلاف من سكانه، ومجزرة بلدة الحولة شمال المحافظة، ومجازر عدة في محافظتي طرطوس واللاذقية، وهي من معاقل النظام، وحصار حي اليرموك وداريا والبنداني في دمشق وريفها، حتى اضطر الناس لأكل أوراق الشجر وذبح القطط والكلاب، ووصل به الأمر في آب/ أغسطس 2013م إلى استخدام السلاح الكيماوي لأول مرة في غوطتي دمشق الشرقية والغربية وغيرهما، ما أدى إلى سقوط نحو 755 من الضحايا أغلبهم من المدنيين.

ومع ذلك كله، لم يستطع النظام ومن معه قلب المعادلة واستعادة زمام المبادرة، بل ازداد السخط الشعبي وتأسست عشرات الألوية العسكرية لمواجهته وهزيمته، وانكشفت وحشيته للعالم أجمع، ولما استيقن فشله، لجأ إلى خطة بديلة ليحافظ على ما تبقى لديه من أرض.

داعش وتصفية الثورة

من القواسم المشتركة بين البلدان التي شهدت ثورات، هو حرص الأنظمة على نقل الصراع بين شعب يطالب بحقوقه الأساسية، ونظام فاسد جبار مستأثر بالسلطة، إلى حيّز آخر لا علاقة له بأسباب الثورة سعيا لإفشالها. وفي الحالة السورية، كان تنظيم داعش هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير، والحيلة التي خربت الثورة وميّعتها.

يقول "دونالد ترامب"؛ إن "أوباما" هو الذي صنع التنظيم. أما السيناتور الراحل "جون ماكين" فقال؛ إن "بشار" هو الذي صنعه. وأيا كان الصانع، فإن ظهوره صب لمصلحة النظام؛ فقد كان سلاح التنظيم مصوبا نحو المدن التي خرجت عن سيطرة النظام. وبحلول منتصف عام 2014م، سيطر التنظيم على نحو 35 في المئة من الأراضي السورية بمساحة متصلة جغرافيا، شملت أجزاء واسعة من محافظات حلب وإدلب والحسكة والرقة ودير الزور، وحقول النفط شرقي البلاد.

ومع تمدد التنظيم اتجهت جميع الأنظار إليه، وحاز على تغطية واسعة من مختلف وسائل الإعلام، ودارت النقاشات حول أسباب ظهوره وسيطرته وأصل أفكاره ومقدرته على تجنيد شباب من مختلف أصقاع الأرض. ونسي العالم أو بالأحرى غض الطرف عن بطش النظام ومجازره، وهذه كانت الخطوة الأولى لإلغاء فكرة رحيل النظام واستبداله، مع الحرص في الوقت نفسه على تصويره وكأنه حمل وديع مقابل داعش، مع أن جرائم الأخير لا تضاهي 5 في المئة من مجازر النظام. ولأنه كان أحد أعداء داعش، فهذا يعني أنه سيكون وجماعته ضحية للإرهاب، العدو المشترك للجميع والخطر الأكبر الذي يهدد العالم بأسره كما يقولون، وقبل أن يستفحل وينتشر لا بد من وأده والقضاء عليه وهو ما يزال في المهد، لذا كونت أمريكا تحالفا دوليا مكونا من 60 دولة مطلع آب/ أغسطس 2014م.

والحدث الآخر الذي حافظ على وجود النظام، هو التدخل العسكري الروسي مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2015م بالذريعة ذاتها (محاربة الإرهاب)، غير أن السبب الحقيقي يكمن في تدهور النظام وزحف فصائل الثورة على أماكن سيطرته، ولولا هذا التدخل لذهب النظام أدراجه في غضون أسبوعين كما قال وزير خارجية روسيا حينها. غير أن تشرذم الفصائل المقاتلة وتعدد ولاءتها واختراقها من قبل بعض الدول وقلة الدعم، مكّن روسيا من تمهيد الطريق أمام النظام والمليشيات الإيرانية للسيطرة مجددا على أغلب المناطق؛ كدمشق وريفها ودرعا وحمص وأجزاء من حلب وإدلب.

الواقع بعد مرور عشر سنوات

تسيطر حاليا ثلاث قوى أساسية على الأراضي السورية، أولها ما تعرف باسم قوات سوريا الديمقراطية التي تغلب عليها النسخة المحلية من حزب العمال الكردستاني، بدعم ورعاية أمريكية من خلال جنود وقواعد عسكرية ترسم الخطط وتحمي حقول النفط شمال شرقي البلاد، ولها أيضا وجود جنوب شرق البلاد في قاعدة التنف.

وجراء هذا الدعم، تم الإعلان عن "الإدارة الذاتية" الكردية في 2016، مع اتهامات بأن الهدف النهائي هو إقامة دولة تشمل أجزاء من سوريا والعراق وتركيا وإيران على أسس اشتراكية علمانية.

وثانيها، النظام برعاية روسية إيرانية في غرب البلاد وأجزاء من دير الزور والرقة. وترى كل من روسيا وإيران في سوريا خطا أماميا لها، فالأولى بنت قاعدة بحرية وأخرى جوية، وبقاؤها هناك يحفظ مكانتها كدولة عظمى، والثانية تعدّ سوريا أحد أقاليمها ومنصة مهمة تستخدمها وتنطلق منها لاستكمال مشروع الإمبراطورية الفارسية الجديدة، ولا علاقة للمقاومة والممانعة بتحركاتها كما تصف محورها. ولا مانع عندهما من تسوية المدن بالأرض وتدمير المستشفيات وتهجير السكان، وفعل ما لا يخطر على البال لتثبيت وجودهما.

وبعد عقد من الزمن، أضحت سوريا مقسمة بين أصحاب المشاريع الظلامية، وبقي الشعب السوري وحيدا لا عائل له، ولم تنفعه مؤتمرات جنيف وسوتشي وأستانا، ولا قرارات الأمم المتحدة ولا مبعوثوها، ويرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة. ولم تقدم إيران ولا روسيا ولا أمريكا شيئا لتخفيف معاناتهم؛ فهؤلاء يريدون ولا يعطون، وهمهم الوحيد إما نشر التشيع وتحقيق الانفصال أو أمن إسرائيل.

ولا يلوح في الأفق حل لهذه المأساة، وليس أمام السوريين سوى الالتفاف حول تركيا؛ الدولة الوحيدة التي أيدتهم منذ البداية ووقفت بجانبهم وقاتلت معهم واستضافت الهاربين منهم، ومنعت الكارثة عن إدلب.
التعليقات (0)