إرث الإمامين الشافعي وابن حنبل بعيون معاصرة.. قراءة في كتاب

الكتاب: أئمة الفقه التسعة
الكاتب: عبدالرحمن الشرقاوي
الناشر: دار الشروق، 2020

تنهي الكاتبة والباحثة المصرية رباب يحيى اليوم في الجزء الثالث والأخير من قراءتها لكتاب "أئمة الفقه التسعة" للكاتب والباحث عبد الرحمن الشرقاوي، إلقاء الضوء على مسيرة كل من الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل، ثم تنتهي إلى قراءة تقييمية لآراء أئمة الفقه الإسلامي ومكانتهم في التاريخ الإسلامي.
 
الإمام الشافعي.. قاضي الشريعة وخطيب الفقهاء:

على الرغم من أن الإمام الشافعي لم يكن قاضياً في مصر قط، فإن أهل مصر يسمونه "قاضي الشريعة"، ومازال العديد من أصحاب الحاجات الذين لم ينالوا حظاً من التعليم يتجهون إلى ضريح الشافعي في الحي المعروف باسمه في القاهرة، فيقدمون التظلمات، ويسألون الله تعالى أن يقضي لهم حاجاتهم، متوسلين بالإمام الشافعي قاضي الشريعة.

وقد شاع بين أهل مصر أن الإمام الشافعي هو قاضي الشريعة، منذ قدم إلى مصر عام 179 هـ، وهو يخطو إلى الخمسين، وقد اتخذ مجلساً للفتيا في جامع عمرو بالفسطاط، وبهره ما استطاع أن يصل إليه وأن يتعلمه من فقه الليث بن سعد وآرائه وفتاواه، وعرف آراء جديدة للإمام علي بن أبي طالب لم يتح له الاطلاع عليها من قبل، ثم أنه عرف حضارة وتقاليد وأعرافاً كلها جديدة عليه، ليس كمثلها شئ مما رأى في مكة أو المدينة أو اليمن أو سوريا أو العراق.

مهما تختلف آراء هؤلاء الأئمة العظام فيما بينهم، فقد احتفظ كل واحد منهم باحترامه لصاحبه أو لمن سبقه، فكانوا مثالاً في أدب الخلاف، كما كانوا بحق منارات. كلهم جاهدوا الظلم والقهر، ودافعوا عن حق الإنسان في الحرية والعدل والسعادة والحياة الكريمة الفاضلة، وكلهم قاوموا قاذورات عصرهم، من النفاق، والكذب، والزيف والاستغلال.

يقول المؤلف في (صفحة 131): "بهر الشافعي بما شاهد في مصر من مظاهر الحضارة والتقدم والتزاوج الفكري بين الإسلام ومعطيات الحضارات التي تشكل الوجدان المصري... ثم الفهم العميق لروح الشريعة الإسلامية، وتطويع الأحكام لكل مقتضيات الحاجة الإنسانية المشروعة، مما يقيم المجتمع الفاضل الذي هو هدف الشريعة ومقصدها الأسمى. حتى إذا انتهى الإمام الشافعي من إعادة صياغة كتبه وتصحيح آرائه على أساس العنصر الجديد الذي تدخل في صياغة وجدانه وعقله، أعلن للناس أن آراءه ليست إلا التي كتبها في مصر، أما كتبه السابقة فلا يحق لأحد أن ينسبها إليه، وكتب بذلك إلى أقرب أصحابه وتلاميذه إليه أحمد بن حنبل، فكان الإمام أحمد يقول: "خذوا عن أستاذنا الشافعي ما كتبه في مصر".

ومن أبرز الآراء التي ظهر فيها التأثير المباشر للبيئة المصرية رأيه في الماء، فقد كان يرى كالإمام مالك أن من حق صاحب الأرض التي بها بئر أن يبيع الماء، لكنه في أرض النيل، تابع رأي الإمام الليث، في أن صاحب الأرض التي بها بئر ليس له إلا حق السبق في الاستعمال، أي الامتياز فقط، وللغير بعد ذلك حق الشرب وسقي الأرض بلا مقابل.

ونشر كتاباً عن خلافه مع الإمام مالك في الأصول والفروع وقال أنه مع الليث في خلافه مع مالك. وأعاد في نحو خمسة أعوام كتابة ما ألفه في نحو ثلاثين عاماً، وزاد على ذلك كتباً جديدة كتبها، وجمع معظم ما ألفه في مصر في كتاب "الأم".

وفي مصر تحدث الشافعي عن الشورى ومكانتها في الإسلام، واعتبرها فرضاً على الحاكم والمحكوم، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من ولى من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين".

والشافعي يرى أن الحاكم واجب الطاعة مادام الناس قد اختاروه باختيار حر، وبيعة لا إكراه فيها ولا زيف، وهو يكتسب الشرعية من مبايعة الرعية فإن رأوا في أمر الحاكم ما يخالف الله ورسوله فلهم ألا يطيعوه.

الإمام أحمد بن حنبل.. الإمام المفترى عليه

كانت حياته نضالاً متصلاً ضد الفقر، منذ أن شب ووجد حوله دنيا عجيبة يشقى فيها عالم الأمر بجاهله، وتكتظ خزائن بعض الناس بالذهب والفضة بحيث لا يعرفون كيف ينفقونها، وتعلو أصوات خادعة تحبب الناس في الإنصراف عن طيبات الحياة مما أحل لهم، باسم الورع أو الزهد، وتحضهم على ترك الحقوق لهاضميها أو مغتصبيها، فما كان منه إلا أن أعلن إنكاره لهذا كله، وسمى كل ما يحدث بدعة، ونذر نفسه لمقاومتها ولإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتهموه بالتزمت.

هكذا عاش حياته، أما بعد موته فقد ابتلي ببعض أتباع نسبوا إليه ما لم يقل وما لم يصنع، وفرعوا على أصوله ما هو برئ منه، وأسرفوا على الناس حتى لقد كانوا يطوفون بمدائن المسلمين يغيرون بأيديهم ما يحسبونه بدعة، أو منكراً، وغالوا في هذا حتى نال الناس منهم أذى وعنت، فكرههم الناس ونسبوهم إلى ضيق الأفق والحماقة، وأصبحت كلمة الحنبلي أو الحنابلة تعني التبلد والتحجر والتعصب المذموم.

وما كان الإمام أحمد متعصباً لرأي ارتآه بل كان يحاور، ويرجع عن رأيه إن تبين له ما هو أصح، حتى أنه نهى عن كتابة فقهه لأنه كثير العدول عن آرائه.

فعلى الرغم من أن الإمام أحمد بن حنبل كان يرى أول الأمر أن طاعة الخليفة واجبة وإن كان ظالماً أو فاجراً، إلا أنه عاد واعتبر طاعة الخليفة الظالم لوناً من النفاق يجب أن يبرأ منه المؤمن، ذلك أنه سمع قصة عن شيخه عبدالله بن المبارك ظلت تضنيه إلى آخر العمر.

اللافت أنهم عاشوا كلهم في سنوات متقاربة، بفكر خصب، كحلقات ذهبية نادرة في سلسلة نورانية، عاشوا كلهم خلال قرن واحد من الزمان، في أواخر العصر الأموي وأواسط العباسي، وعرفوا البلاء والمحنة فما وهنوا، وما نزلوا عن رأي، وما أحنوا رأساً، بل كانوا كمعدن الحديد تزيده النار صلابة، وكالذهب يكسبه اللهيب نقاءً. كم نفتقدهم في مثل هذا الزمان.

يقول المؤلف في (صفحتي 192، و193): "سمع أحمد فيما سمع أن شيخه ابن المبارك مر وهو في طريقه إلى الحج بمزبلة قوم، فرأى فتاة تأخذ طائراً ميتاً وتلفه، فسألها عن أمرها فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شئ إلا هذا الإزار وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ ثلاثة أيام (أي أن الجوع اضطرهما إلى أكل الميتة)، وقد كان أبونا له مال، فظُلم وأُخذ ماله وقُتل، فقال ابن المبارك لوكيله: كم معك في النفقة؟، قال:ألف دينار، فقال: عد منها عشرين ديناراً تكفينا إلى مرو، وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجتنا هذا العام، ورجع".

ما ذكر الإمام أحمد هذه القصة إلا بكى، فما فتواه إذن بوجوب طاعة خليفة ظالم؟، أيطاع خليفة يظلم رجلاً فيقتله ويستولي على ماله ويترك أبناءه جياعاً ينقبون في المزابل عن الطعام، فلا يجدون إلا الميتة؟.

وما الإسلام إن كان على وجه الأرض من يلتمس القوت في المزابل؟، وفي الأمة مسلمون يملكون آلاف الألاف، وفيها فوق ذلك علماء يمجدون الفقر ويدعون إليه باسم الزهد، أي زهد هذا؟ إنه إعانة للظالم على ظلمه، ثم ما الانشغال الكامل بالقضاء والقدر وخلق القرآن والجبر والاختيار؟، ما الاهتمام بهذه الأمور والحوار الصاخب حولها والعدل معطل؟، كم من العلماء فكر في هؤلاء الجياع والمظلومين؟، أعلماء وفقهاء هم، أم أوتاد مسندة يرتكن إليها الباغون؟. إن كل ما في أيدي الخلفاء والأمراء والأغنياء حرام عليهم، مادام في الأمة جياع.

إن هؤلاء الحاكمين يشجعون الزهاد على تمجيد الفقر والانصراف عن هموم الحياة، وكان الإسلام دعوة إلى الفقر، وفي الوقت نفسه يحضون أهل الفقه والعلم على الانصراف عن الواقع إلى ما وراء الواقع، عن الحياة إلى ما قبل الحياة وما بعد الحياة، فمن إذن يحاسب الحكام على ما لم يفعلوه للرعية، وعلى ما يقترفون؟، ومن ذا الذي يدافع عن العدل والحق ومصالح الناس؟.

يقول المؤلف في (صفحة 201): "وفي الحق أن الإمام أحمد بن حنبل لم يهاجم ظلم الحاكم علناً، كما فعل من قبله أبو حنيفة الذي حرض صراحة على الثورة، ولكن آراء الإمام أحمد عن العدل وعن الأسوة الحسنة، وعن حقوق ذوي الحاجة، ثم فتاواه، كل أولئك قد أوغر ضده الصدور".

من ذلك فتواه بأنه إذا هلك أحد من العطش أو الجوع في بلاد المسلمين، فكل أثرياء المسلمين آثمون، وعليهم الدية، وولي الأمر مسئول وعليه الدية، وهي دية المقتول عمداً، نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض، فمن قتلها فكأنما قتل الناس جميعاً. ثم أخرج الإمام الأحاديث الشريفة التي تأثم الاحتفاظ بالمال وفي الأمة فقراء. وظل في سجن المعتصم نحو عامين ونصف عام، يُضرب بالسياط، ويًعذب بالسف، ويوطأ بالأقدام عندما يسجد في الصلاة، ويغرونه خلال هذا التعذيب بكل طيبات الحياة إن هو عدل عن رأيه في خلق القرآن، وهو يهمهم لنفسه: إنه لبلاء في الله شديد.

وبعد:

هؤلاء هم العلماء العظام الذين اجتهدوا بعد عصر الصحابة والتابعين، واختلفوا في مناهجهم، فمنهم من خرج بسيفه على الحاكم الظالم كما صنع الإمام زيد بن علي، ومنهم من دعا إلى إعمال العقل، وحض على التفكر في خلق السموات والأرض واستعمل معطيات العلوم والمعارف الكونية للاستدلال على حقائق الدين، كما صنع الإمام جعفر الصادق مع فهم دقيق للقرآن والسنة، ومقاصد الشريعة والعمل على تطبيق مبادئها في الحياة اليومية، حتى أنه رفض الخلافة ليتفرغ للعلم والفقه. ومنهم من اتجه إلى الأخذ بالرأي وتوسع فيه وأفاد من النظر العقلي كالإمام أبي حنيفة النعمان، ومنهم من عول على الحديث وحده، ووجد في عمل أهل مدينة رسول الله أخذاً بسنة رسول الله ثم اجتهد فتوسع في الأخذ بالمصلحة على خلاف غيره كالإمام مالك بن أنس. ومنهم من اتخذ منهجاً وسطاً بين الرأي والحديث في استنباط الأحكام، وجعل سيرته الخاصة مثلاً للبر والتقوى ولسماحة الإسلام وحضه على العدل والإحسان كالإمام الليث بن سعد إمام أهل مصر، الذي كان يأتيه خراج ضيعة له بالفرما (بورسعيد الحالية وما حولها) فلا يمسه بل يضعه في صرر، ويجلس على باب داره ذات العشرين باباً ليوزعه على المحتاجين صرة بعد صرة، ويحسن إلى أقباط مصر اتباعاً لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحضهم على نقل ثقافة مصر إلى اللغة العربية، ثم يشتري بيتاً من واحد منهم، فإذا علم أن صاحب البيت باعه لأنه محتاج، بكى، وترك له البيت والثمن، وأجرى له راتباً شهرياً، ثم أعلن للناس أن ولي الأمر آثم إن ترك أحداً في دار الإسلام له حاجة.

ومن هؤلاء الأئمة العظام محسن زاهد عبدالله المبارك الذي يترك الحج، ويتصدق بكل ما حمل من مال وزاد لفتاة حسناء تبحث عن قوتها وسط القمامة، خشية أن يغريها الشيطان بالبحث عن الطعام في وحل الخطيئة.

ومنهم من وضع أصول الفقه وحمل بين جنبيه معطيات السنة والرأي جميعاً، وصحح مفاهيم الناس عن السنة والرأي، كما فعل الإمام الشافعي.

اللافت أنهم عاشوا كلهم في سنوات متقاربة، بفكر خصب، كحلقات ذهبية نادرة في سلسلة نورانية، عاشوا كلهم خلال قرن واحد من الزمان، في أواخر العصر الأموي وأواسط العباسي، وعرفوا البلاء والمحنة فما وهنوا، وما نزلوا عن رأي، وما أحنوا رأساً، بل كانوا كمعدن الحديد تزيده النار صلابة، وكالذهب يكسبه اللهيب نقاءً. كم نفتقدهم في مثل هذا الزمان.

ومهما تختلف آراء هؤلاء الأئمة العظام فيما بينهم، فقد احتفظ كل واحد منهم باحترامه لصاحبه أو لمن سبقه، فكانوا مثالاً في أدب الخلاف، كما كانوا بحق منارات. كلهم جاهدوا الظلم والقهر، ودافعوا عن حق الإنسان في الحرية والعدل والسعادة والحياة الكريمة الفاضلة، وكلهم قاوموا قاذورات عصرهم، من النفاق، والكذب، والزيف والاستغلال.

ومهما نختلف نحن معهم اليوم، فينبغي علينا أن نذكر لهم أنهم سلف صالح أغنوا الحياة الفكرية والفقهية باجتهاداتهم الخصبة، وينبغي علينا أن نتخذهم مثلاً رائعاً لما ينبغي أن يكون عليه رجل العلم والفقه والفكر، ذلك أنهم ناضلوا بفكرهم الثري والرائد، ليحققوا المجتمع الذي أرادته الشريعة، وليجعلوا الإنسان على الصورة التي أرادها له الله تعالى حين قال لنبيه الكريم: "وإنك لعلى خلق عظيم".

إقرأ أيضا: قراءة معاصرة في إرث الإمامين زيد بن علي وجعفر الصادق

إقرأ أيضا: عن علاقة الدين بالسياسة.. سيرة أبي حنيفة النعمان نموذجا