كتب

كتاب في مكونات الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري

مسرح الارتجال فن مسرحي، مُعبِّر عن الشعب، وموجَّه له، وإن تأثَّر  بفنون وافدة إلى البيئة (فيسبوك)
مسرح الارتجال فن مسرحي، مُعبِّر عن الشعب، وموجَّه له، وإن تأثَّر بفنون وافدة إلى البيئة (فيسبوك)
الكتاب: مسرح الشعب
المؤلف: د. علي الراعي
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2020 

لم يبالغ حسن شكري، حين قدَّم لهذا الكتاب الموسوعي، فوصف الراعي بأنه "المفكِّر المسرحي الاستثنائي في تاريخ المسرح المصري". وإن تأسى المقدِّم نفسه بسؤاله الاستهجاني: "ماذا فعلت الأجيال التالية بمشروع علي الراعي!" (ص6)

ضم هذا السِفر بين دفتيْه ثلاثة كتب، أحدث ظهورها ـ في طبعتها الأولى ـ ضجة كبرى، حتى أن مفكرًا مرموقًا، مثل لويس عوض، اعتبر أحد هذه الكتب الثلاثة "الكوميديا المرتجلة"، "أهم ما ظهر في حقل الدراسات المسرحية"؛ بينما رأى الراعي أن الكتاب نفسه "يسعى إلى سحب البساط من تحت قدميْ المؤلِّف (المسرحي) ، وتقديمه هدية ـ غير مستحقة ـ للممثِّل"، وذلك في كشف حساب "الذي قدَّمه الراعي، في بداية الكتاب. 

استطرد الراعي بأنه "محاولة لإفساح المجال أمام الفنّ المسرحي، كي يوسِّع من رقعته، وقدراته. وذلك للإفراج عن الطاقات الحبيسة للممثل، ودفعه إلى أن يتعلم، ويتقن وسائل أخرى للتعبير، غير الأداء باللفظ، والصوت، ومسائل مثل: الآداء بالجسد كله، أعصابًا وعضلات، ومثل المشاركة الفعَّالة في بناء النص المسرحي نفسه... وبهذا يُصبح العمل المسرحي عمل فريق كامل". إلى ذلك، سعى مؤلِّف هذا الكتاب "إلى إعطاء فناني الارتجال القدامى حقهم"، بكلمات المؤلِّف نفسه. (ص7 ـ 8).

بينما قدَّم الكتاب الثاني "فنون الكوميديا من خيال الظِل إلى نجيب الريحاني في وضعها الصحيح"، كما لفت الكتاب النظر إلى أهمية المقامة، "باعتبارها دراما في مرحلة الجنين... كذلك نبَّه إلى أهمية عروض الشوارع، مثل عروض فرق المحبظين، والحواة"، وتمنى العناية بظاهرة "الزار"؛ لما تتضمنه من بذور للدراما الطقسية. "وحين ظهر الكتاب الثالث "مسرح الدم والدموع"، أظهر الناقد الأدبي، رجاء النقاش "فهمًا عطوفًا، وكاملًا للكتاب". (ص 8)

هنا، اضطر المؤلِّف إلى تقديم "كشف حساب للكتب الثلاثة"، فرأى بأنها "كانت عاملًا تحويليًا هامًا" في شتى ميادين فنون الأراجوز، وخيال الظِل، وامتد الاهتمام بالأراجوز، ليشمل السينما. أما خيال الظِل، فقد نال حظًا وافرًا من التقدير.

بدأ المؤلِّف كشف الحساب بالإيجابيات؛ حيث "أسهمت الكتب الثلاثة في تمرير العرض المسرحي من استبداد كلٍ من المؤلِّف، أو المخرِج بالعملية المسرحية. وكذلك من طغيان نفوذ الممثِّل النجم؛ وذلك بإعلاء فكرة روح الفريق، وإعطاء كل الأطقم البشرية، التي تتعامل مع المسرحية الحق في مناقشتها، ومحاولة تفهمها، ومن جهة أُخرى، أمكن للكتب الثلاثة أن تُنقذ فن الارتجال، وفن الدراما من إهمال، واستهانة، لم يكونا يستحقانها... أما الميلودراما، فقد استبعدت... الماضي، وقِصص الفواجع الدرامية... وأدَّت..... إلى استخدام المأثورات الشعبية، مادة أساسية للمسرحية، ما أدى إلى ظهور عروض ناجحة، قامت على هذا الأساس. ومن وجهة أُخرى، تزايد الاهتمام النظري بالدراسات التي ترمي إلى تجميع الظواهر المسرحية العربية، وتفحُّصها، وأجدر هذه الدراسات بالذكر، البحث الطويل، الذي قدَّمه الأستاذ علي عقله عرسان، الكاتب المسرحي، والروائي السوري، وجعل عنوانه: (الظواهر المسرحية عند العرب)". (ص 10 ـ 12).

أما لماذا يُعاد طبع هذه الكتب، فيجيب المؤلِّف بأنها "وإن صدرت متفرِّقة في الزمان، إنما يربطها رباط واضح، هو أنها ـ في مجموعها ـ تعبير عن رؤيا الشعب للمسرح". بينما جاء اسم الكتاب الجامع (مسرح الشعب) "تأكيدًا لهذا المعنى، ونأياً عن الفكرة القديمة، التي يبثها مصطلح (المسرح الشعبي)، بما يحويه من تهوين من فكرة طموح الشعب، إلى أن يكون له مسرح". (ص 13 ـ 14).

***

عن "الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري"، جاء الكتاب الأول، وفيه أن "كل شيء يسير، حثيثًا، لخلق مسرح عربي، كل الطرق تؤدي إليه، حتى طريق الاقتباس".

في مجال التحليل، أشعر المؤلِّف إلى أن المخيال المصري أصدر قرارًا فنيًا، بناءً على تقدير حالة: العثمانيون منتصرون، واليوم يوم شماته؛ فليخرج، إذن بتصاويره الملوَّنة، وليعرض على ابن عثمان مهارته في الالتقاط السريع، وفي القدرة على الكتابة من الواقع مباشرة، وفي التعليق على هذا الواقع، بسلاطة، وفُحش؛ ليعرض على الغازي فنَّه الكامل، القائم، أساسًا، على الارتجال". (ص 26)

يبدأ بيعقوب صنُّوع، الذي "أغلق مسرحه في عام 1872، بعد عاميْن من النشاط الدافق، ولكنه كان قد ترك على المسرح المصري أثرًا لا يُمحى، تركَّز في المثل العملي، الذي ضربه على إمكان قيام مسرح في مصر؛ تأليفًا، وتدريبًا، وتمثيلًا، وأداءً". (ص 32)

لا يعني المسرح الشعبي ـ برأي الراعي ـ أن ينسى المتفرِّج أن ما يجري أمامه إنما هو مجرَّد عرض مسرحي، ولا هو يسعى إلى أن يندمج متفرِّجه في العرض المسرحي، حتى لينسى نفسه، وينسى الزمان، والمكان، الذي يعيش فيه. مؤكِّدًا بأن "المسرح الشعبي لا يجد غضاضة في أن تتنبَّه متفرجه، كل التنبُّه، ويعي تمامًا أن ما أمامه عرض لقصَّة، من قصص الحياة، وليس الحياة ذاتها". (ص 34)

من عناصر مسرح الارتجال، بكلمات المؤلِّف: "القدرة الذكية على التقاط الحادث الاجتماعي، الذي يشغل الرأي العام، ثم إدخاله، فورًا، إلى صلب العرض المسرحي؛ بغية جذب الجمهور، وتحويل جانب من اهتمامه بالحدث، إلى اهتمام بالعرض المسرحي، أيضًا، فكأن الفنان يدعو جمهوره إلى التعاطف مع فنِّه، بعد أن تعاطف هو مع اهتماماته، السياسية والاجتماعية. وفي الوقت ذاته، يقوم الفنان بجزء من دوره الرئيسي، وهو عرض الحياة، وانتقادها، انتقادًا فنيًا". (ص 36)

"من تقاليد مسرح الارتجال، التقط كل من جورج دخُّول، ومصطفى عزام، وأحمد المسيري، وعلي الكسَّار فكرة الشخصية الفكاهية، التي يعتمد مصدر الضحك فيها على عرض لهجتها الغريبة، وأحوالها غير المألوفة". 

وتحتوي مسرحية الارتجال عناصر فنية، أهمها:

ـ القصَّة سهلة الجريان؛

ـ "النِمَر"، وهي مواضيع في القطعة المسرحية، يسعى فيها المؤلِّف إلى استخدام القدرة البدنية، وخِفَّة اليد، وطلاقة اللسان؛ ليُقدِّم عرضًا باهرًا، يجمع بين فن التمثيل، وفن البهلوان، وفن الحاوي، وفن التمثيل الصامت، أحيانًا؛

ـ عرض "جاليري" كامل من الشخصيات الغريبة، تُمتِّع المتفرِّج بلهجتها غير المألوفة، وأحوالها الخارجة، وتصرفاتها اللافتة للنظر؛

ـ الألفاظ الصارخة، والبذيئة؛

ـ الحركة المادية الصاخبة؛

ـ التقريب بين القصص المعروضة، وبين المتفرِّج؛

ـ استخدام الرقص، والغناء، الشعبي خاصة، وسيلة لإمتاع المتفرِّجين. (ص 38 ـ 39).

بصدد الشخصيات الغربية، التي يُقدِّمها مسرح الارتجال، ثمة "الموقف الواحد المتكرِّر، والشخصيات المسطحة، ذات الصفة الواحدة لكل، والمعركة المادية الفاقعة، الخالية من المغزى الحقيقي، كل هذا يسلك "الصندوق"، ضمن مسرحيات الدمى، ويُقرِّب ما بينها، وبين العروض الظليَّة، التي كان يُقدِّمها ابن دانيال، من قرون، في مصر. (ص 44)

إلى جوار النِمَر التقليدية "يستند نص الارتجال إلى مجموعة من الأشعار، في موضوعات مختلفة، كالحماس، والفخر، والحزن، وفعل الخير، ومدح الملك، وهجاء النساء، كما يستند إلى بعض الأزجال، وهذه كلها يلجأ إليها الممثِّل، كلما قامت حاجة إليها". (ص 50)

إلى جانب النص، "يعتمد فنان الارتجال على مسرح بسيط، خالٍ من التعقيدات، ركيزته الأساسية الإيحاء بالمهمات المسرحية البسيطة؛ موائد، مناديل، مقاطف، ملابس محمولة، أو تلبسها الشخصيات... هذا عود ـ اضطراري طبعًا ـ إلى جوهر المسرح... على أن ما يجري على خشبة المسرح هو لعبة مسليَّة، وتدعو الجمهور إلى المشاركة في هذه اللعبة، من كل سبيل: لذلك، لا يقوم حاجز ما بين المنصَّة، والصالة، في المسرح الشعبي، ويُصبح شيئًا طبيعيًا، أن يتدخَّل المتفرِّجون في العرض، بل إن الممثِّلين أنفسهم يسعون إلى هذا". (ص 52)

"بعد هذا، يعتمد الفنان على الأسماء الهزلية لشخصياته، وعلى ملابس هزلية، يرتدونها، لتستحث الضحك". (ص 53)

يقف فنان الارتجال، بوضوح، من موضوع الأصالة؛ فهو لا يجد غضاضة في أن يُقلِّد غيره، ولا أن يستولي على موضوعاتهم، ولا أن يُكرِّر، في فصل بعد آخر، نمرًا معروفة، يجد أنها تستثير الضحك، دائمًا". (ص 61)

إن مسرح الارتجال فن مسرحي، مُعبِّر عن الشعب، وموجَّه له، وإن تأثَّر في تكنيكه، ووسائل عرضه، بفنون وافدة إلى البيئة، ويورد المؤلِّف جملة أمثلة على ذلك. (ص64 ـ 65)

بعد علي الكسَّار، ومحمد كمال المصري، دخلت مصر مرحلة المسرح النظامي؛ فأعرض نجيب الريحاني عن العمل في كباريه، ما اعتبره المؤلِّف "التعبير الأساسي عن خط تطوُّر المسرح في بلادنا... وبالطَّبع كانت هذه مفخرة لا شك فيها، ولكن إحدى نتائجها السالبة، أنها قضت على التلقائية في المسرح، وأخرجت النشاط المسرحي الشعبي من دائرة الاعتبار، وسحبت الأرض سحبًا من تحته". (ص 66 ـ 67)

يصرخ الراعي فنيًا، مؤكِّدًا "إن المسرح جزء منا جميعًا... فلنطلق سراح المهرِّجين، وأشرار المسرح، ومجانينه، فإن ما سوف يصنعونه، سويًا، هو المسرح... وحينما يجتمع الفنانون، ورجال العلم، كل في مجاله، لا يدري أي منهم ماذا تتمخَّض عنه الاجتماعات. إن النتائج تتغيَّر، دومًا ... نريد مسرحًا يلده الاتصال الطليق بين الناس... وليس مسرحًا يقوم على مجرَّد إجراء عملية تنفُّس صناعي لنصوص مطبوعة". (ص 72)

يسترشد المؤلِّف بجوون ليتلوود، التي رأت بأن المسرح في الشارع، وليس في الكتب، ودور العرض، وأن على الممثِّل أن يرتجل، يرتجل دائمًا، وأن يتفاعل مع الدور، وينشيء بينه، وبين الدور علاقة مُتخيَّلة، مرتجَلة لايهم. إنها لا تلبث أن تُصبح حقيقة. وعليه أن ينسى، تمامًا، كل ما كوَّن، مسبقًا، من فكرة عن الدور، أو عن المسرحية". (ص 72 ـ 73)

بعد ذلك، نجد المؤلِّف وقد عزَّز كلامه النظري بنصوص مسرحية، احتلَّت ما بين الصفحتين 97 و16، وبذا نكون انتقلنا إلى الكتاب الثاني.

التعليقات (0)