حذّر الرئيس التونسي الأسبق الدكتور منصف المرزوقي، من أن ما وصفها بـ "الشعبوية اللغوية" أخطر بكثير على التونسيين والعرب من "الشعبوية السياسية".
وقال المرزوقي في تدوينة نشرها اليوم على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "بعض الإخوة والأخوات، كنت أقرأ لهم باهتمام ولما بدأوا هم أيضا بكتابة (راهو) و(فهمتنلا) أصبح البصر ينزلق ولا يتوقف. المصيبة أن عددهم يتكاثر يوما بعد يوم وكأنّه لم يعد لأحد قدرة على مواجهة الطوفان".
وأضاف: "كارثة عظمى حلت بلغة الضاد في هذه الأرض التي ـ للذكرى ـ أعطتها ابن منظور وابن خلدون والشابي. هي اليوم ضحية ''النمط'' الذي قرّر أن العربية لغة ''الخوانجية" فاستباحها طولا وعرضا (انظروا لوحات الإشهار بثلاث أشباه لغة)... وبقي الاستفزاز المقصود والإهانة المتعمدة دون حتى بداية احتجاج".
ورأى المرزوقي أن "العربية اليوم ضحية تقاعس إسلاميين وقوميين يدافعون عن كل شيء إلا عن لغة الدين والأمة. وضحية شعبويين يتصورون أن كتابتهم باللغة العامية، التي لا يفهمها حتى العامة، قمة الالتحام بالشعب والتشبه به، وضحية وسائل التواصل الاجتماعي التي أسقطت كل الفوارق وكل الضوابط وكل الحدود في كاريكاتور عدالة سحبت مستوى الفكر والكتابة إلى أسفل سافلين".
وعرض المرزوقي الجهود التي قادها أستاذا جامعيا وحقوقيا وسياسيا في خدمة
اللغة العربية، وقال: "كتبت (المدخل للطب المندمج) بالعربية سنة 1989 وتحصل الكتاب على جائزة المؤتمر الطبي العربي وتسلمتها من يدي الرئيس الجزائري الراحل الشادلي بن جديد ونشره سنة 1991 مركز البحوث العلمية الذي كان يرأسه الأستاذ علي الحيلي. كان بداية مشروع لمكتبة طبية عربية لكن سجني وطردي من كلية الطب أوقف المشروع".
وأضاف: "ألقيت محاضرات في الطب الاجتماعي بالعربية لما كنت أستاذا في كلية طب سوسة. كتبت ويا ما كتبت لإعادة الاعتبار للغتنا. وإبان رئاستي أطلقت مشروعا طموحا سميته محراب اللغة العربية أردته على مستوى الأمة وكلفت به جامعيا هو الأستاذ عبد الحق الزموري لكنه ذهب هو الآخر ضحية انتخابات 2014".
وأكد المرزوقي أنه سيستمر في الدفاع عن اللغة العربية باعتبارها ركيزة هوية التونسيين والعرب، وقال: لأنني شاهدت في كوريا كيف لا تستخدم إلا الأحرف الكورية في كل الواجهات. لأنني عشت في فرنسا صراع الأكاديمية الفرنسية للحفاظ على نقاوة اللغة الفرنسية، لأنني كنت في كندا عندما أصدر برلمان مقاطعة الكيباك قانونا يحرم استعمال أي لغة غير الفرنسية في المحلات العمومية للدفاع عن شخصية المقاطعة أمام هجمة الإنجليزية، لأنني شاهدت كيف أحيى الإسرائيليون لغة ميتة يدرّسون بها اليوم أكثر العلوم تقدما، لأني وقفت متحسرا على حالنا أمام حرص الصينين والروس والهنود والإيرانيين والأتراك على لغتهم، لأنني سمعت الإنجليز والأمريكان والأستراليين يتحدثون في المقاهي فلم أفهم شيئا وكنت أعتقد أنني أحسن الإنجليزية لأن التي يتحدثون بها في الجامعات والإذاعات والتلفزيونات هي فصحاهم لا يسمح لأي كان بالحديث في المجال العام بلغة الأحياء والمقاهي كما هو الحال اليوم عندنا في إذاعات وتلفزيونات أصبحت لا تخاف ولا تستحيي أمام أي اعتداء".
وأضاف: "قد لا توجد أمة شرفها الله بأجمل وأنبل وأبلغ اللغات مثل أمتنا لكن أبناءها وبناتها استباحوها كما لم يستبحها أي عدوّ لدود".
ورأى المرزوقي أن "المشكلة أن العلاقة باللغة ليست إلا تعبيرا آخر عن عقلية تتسلل اليوم إلى كل المجالات قوامها التسيب والبحث عن السهولة والسرعة ورفض القواعد والضوابط باسم فهم الأطفال للحرية".
وأكد أن "الرجوع للوضع الطبيعي لن يكون سهلا على فرض أن أمرا كهذا ما زال ممكنا والوضع الطبيعي مواصلة تطور اللغة من جذعها الرئيسي لا من أغصانها المريضة".
وقال: "نعم، سأواصل فيما يخصني الحديث بالدارجة المهذبة وسأواصل الكتابة بلغة الضاد لا أفهم كيف يقبل كاتب أو مفكر أو مغنٍ أو تاجر أو إعلامي أو سياسي أن يتقوقع بإرادته في فضاء صغير لا يتجاوز بضعة ملايين من المستهلكين... وحسن حظه فتح له فضاء فيه أربعمائة مليون قلب وعقل لا مفتاح إلا كنزنا المشترك: اللغة العربية"، على حد تعبيره.