هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: قوة مصر الناعمة البدايات والمكونات
الكاتب: محمود دوير
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب ٢٠١٩
لازالت مصر تمثل دولة محورية في الشمال الأفريقي والشرق الأوسط خاصة وفي دول جنوب المتوسط، ليس فقط لموقعها الاستراتيجي، وإنما أيضا بفضل ما تكتنزه من تاريخ سياسي وثقافي عريق، ترجمته الأجيال المصرية في وسائل تعبيرية متعددة، أسهمت ليس فقط في انتشارها عربيا وإسلاميا ودوليا، وإنما في تحويل مصر إلى دولة قوية ومحورية في المنطقة.
كيف صنع المصريون عبر الأجيال المتعاقبة قوتهم، وأثروا في صياغة خارطة المنطقتين العربية والأفريقية؟ هذا هو جوهر كتاب "قوة مصر الناعمة.. البدايات والمكونات" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب نهاية العام 2019، للكاتب محمود دوير.
يناقش المؤلف محمود دوير، ما تميزت به مصر في هذا المجال من عدة زوايا سواء فنون أو سياسة أو مؤسسات دينية أو تعليم وغيره من المسارات الأخرى، التي جعلتها أكثر تأثيرا في محيطها العربي والأفريقي والإسلامي وجعل لها مكانة دولية، "أبعد من ذلك جغرافيا لتعبر الثقافة المصرية إلى أحراش أفريقيا وأطراف اسيا "، وفق تعبير الكاتب.
يتكون الكتاب من ستة عشر عنوانا بالإضافة إلى مدخل وخاتمة، ويناقش كل عنوان جزئية تتعلق بالموضوع الكلي للكتاب وتأكيد هذه القوة وعوامل نفوذها وتأثيرها من ناحية، ثم فيما بعد عوامل تراجع هذه القوة الناعمة، وكيفية استعادتها مرة أخرى.
البدايات
في العنوان الأول الذي حمل "البدايات... مغامرات الوجد والنضال" يرصد الكتاب مراحل تكوين مقومات القوة الناعمة المصرية، التي بدأت في العصر الحديث بالقول: "نعتقد أنها تكونت عبر عقود ثلاثة في بدايات القرن العشرين، وكانت محصلة جهد حقيقي لاستعادة الهوية المصرية التي توارت قليلا أمام النفوذ العثماني منذ القرن التاسع عشر".
ويؤكد الكاتب أن هذه النهضة والاستعادة بهذه القوة ما كانت تحدث لولا وجود عوامل مجتمعية مهدت لبدايات حقيقية، تمثلت في الموسيقى كأحد هذه القوى، وتحديدا عندما عاد الموسيقار سيد درويش من إسطنبول وانضمام بديع خيري ونجيب الريحاني له، حيث بدأت الخطوات الأولى لإنجاز تلك المهمة الحيوية في تاريخ مصر الحديث، مشيرا إلى أن تلك القوة التي تشكلت رويدا رويدا بالتوازي مع نمو واضح ومتزايد للمشروع الوطني في الاستقلال، الذي بدأه أحمد عرابي وعبدالله النديم ثم مصطفى كامل ودوره في خلق قوة ناعمة، ساهمت في تعاطف دولي وإقليمي مع قضية الاستقلال الوطني، وصولا لثورة ١٩١٩التي وصفها الكاتب بأنها الميلاد الحقيقي لمفهوم القوة الناعمة ودورها، خاصة من خلال الفن أو التحرك الوطني من أجل نيل الاستقلال.
ذروة القوة الناعمة
ثم ينتقل الكاتب إلى مرحلة ما بعد ثورة تموز (يوليو)، التي يراها بمنزلة ذروة نمو وتأثير القوة الناعمة المصرية، التي ارتبطت بمشروع مصري تنموي شامل، وصولا لحرب أكتوبر التي وصفها بأنها نهاية مرحلة مهمة وبداية مرحلة جديدة في مسار القوة الناعمة، التي انكمش دورها مع الانفتاح الاقتصادي عام ١٩٧٤ ثم اتفاقية كامب ديفيد عام ١٩٧٨، وتراجع دور مصر عربيا وإقليميا بالتزامن مع ما أسماه المؤلف بثورة النفط، لتمثل نقطة تحول جديدة في تراجع تأثير مصر في محيطها العربي.
ثم ينتقل الكاتب إلى مرحلة أخرى متعلقة بقوة مصر الناعمة وهي العقدين الأخيرين من القرن العشرين، حيث حاولت مصر بحسب الكاتب، استعادة نفوذها التاريخي وتأثيرها خارج الحدود، ولكن دوما كان الآخرون يبحثون عن موقع لهم ويطمعون في دور مصر ومكانتها، منهيا هذا الجزء من الكتاب بتأكيد العلاقة بين القوة الناعمة والسياسة، وأن القوى الناعمة كانت تسعى أحيانا لتحريك السياسة وتوجيهها في اتجاه القضية الوطنية.
"أهو ده اللي صار "
وتحت عنوان "أهو ده اللي صار"، يعود الكاتب مرة للربط بين ظهور الموسيقار المعروف سيد درويش والقوة الناعمة، رغم اعترافه أنه في هذا التوقيت لم يكن قد عرف مفهوم القوة الناعمة، لكن مراحل التكوين منذ البدايات شهدت بحثا دائما عن الخصوصية المصرية في إطار مشروع متكامل للتمسك بالوطنية، والبحث عن مقومات وممكنات لتفعيل هذا السعي الدائم. وهنا يؤكد الكاتب أن ظهور الشيخ سيد درويش كان فارقا في مسار مصر ومسيرتها الفنية والسياسية، وذلك لامتلاك الرجل القدرة على صياغة موسيقى مصرية تسري في شرايين الحركة الوطنية الملتهبة في هذا التوقيت، واندلاع ثورة 1919 حيث كانت موسيقى درويش تغني للوطنية.
ويتناول الكاتب المسرح كعلامة مهمة وبارزة في مكونات القوة المصرية الناعمة، وتحت عنوان "أبو الفنون" يؤكد الكاتب أن المسرح ساهم في تشكيل وجدان مصر، وكان رافدا مهما في نهر القوة الناعمة الذي صنع مجراه بسرعة شديدة مستعينا بتاريخ عريق ولهجة مصرية سريعة الانتشار، ومكانة استثنائية في المنطقة، رغم كل العقبات وعكس بدقة مقومات مصر الناعمة في مختلف الفنون باعتباره أبا الفنون، وجامعا لكل أنواع الإبداع الفني والأدبي.
السينما والتأثير الوجداني
وليس بعيدا عن المسرح، يتناول الكاتب دور السينما كأحد محركات هذه القوة الناعمة القاهرة، حيث صارت السينما مكونا أساسيا في حياة البشرية وجزءا من نسقها الثقافي والقيمي، والأهم أنها صارت إحدى الصناعات الكبرى في العالم، بل وتنافس صناعة السلاح والإلكترونيات حسب الكاتب.
وفي هذا السياق، يشير الكاتب إلى إدراك المصريين لأهمية السينما، وفي إطار البحث عن مصر للمصريين أسس طلعت حرب استديو "مصر" كأول شركة للإنتاج السينمائي عام ١٩٣٥وإنتاج فيلم العزيمة، باعتباره محطة مهمة في تلك الفترة، ويربط الكتاب هنا بين تمثيل السينما إذا جاز التعبير ودورها في وجدان المصريين، حيث تحتل مكانة استثنائية، واستطاعت خلق تأثير لا يوازيه سوى تأثير الأغنية في نشر ثقافة المصريين بين الدول، والمساهمة في تكوين ذائقة عربية بهوى وخصوصية مصرية.
هنا القاهرة
وعلى المنوال نفسه، جاء الأدب كأحد مكونات الوجدان المصري والعربي ليشكل رافدا من روافد القوة الناعمة المصرية، حيث استطاع أن يصنع مبكرا تأثيرا عابرا للجغرافيا، خاصة مع ظهور الإذاعة المصرية التي كانت نقطة جذرية في خلق وسيط لانتشار فاعلية القوى الناعمة، ليحمل الأثير عبارة "هنا القاهرة" الشهيرة، وتنقل معها ثقافة وفن ووعي مصري إلى كل مكان، وهنا يعرج الكاتب أيضا على دور كل من الشعر وأميره أحمد شوقي، والرواية التي يصفها الكاتب بالنسيج العبقري الذي خلق تأثير مصر الساحر.
جدل الهوية ومعاركها
وتحت هذا العنوان، يتناول الكاتب سؤال الهوية الذي يظل مطروحا منذ العشرينيات من القرن الماضي، حيث اشتعلت معارك ضارية بين أنصار مصر للمصريين واستلهام النموذج الغربي في التقدم وبين أنصار التمسك بالهوية الإسلامية وما تمثله دولة الخلافة، وكذلك الجدل العنيف الذي تعيشه مصر بين أنصار التنوير والقابضين على جذور الأصالة.
وفي محاولة للربط المتعسف بين الشيخ سيد درويش والشيخ حسن البنا يحاول الكاتب إيجاد حالة من التناقض بين الشخصيتين، تحت عنوان الشيخ الملحن والشيخ المسلح، في محاولة للنيل من الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين واصفا إياها بأنها حاولت دوما الانقضاض على الثقافة الوطنية لصالح مشروع أممي ديني في مظهره سياسي في جوهره وأهدافه، في تناول ينعكس فيه تأثير الأيديولوجيا والتعصب لها بشكل واضح. وهنا يؤخذ على الكاتب هذا التحيز الواضح وفي محاولة المقارنة أيضا يتهم الجماعة بأنها حملت السلاح ومارست العنف في كل مراحل وجودها، مقابل مساهمة سيد درويش في التعبير عن واقع حياة البسطاء رغم أن الجماعة قاومت الاحتلال ودافعت عن هوية مصر الإسلامية والعربية.
تقدم وتراجع
وتحت عنوان" آلاف الخطوات للأمام وقليلا للخلف، "يتناول الكاتب دور ثورة يوليو في دعم قوة مصر الناعمة والاهتمام بها، سواء عبر الفن من موسيقى وغناء أو مسرح أو سينما أو إذاعات موجهة مثل صوت العرب، وصولا إلى تبني الفترة الناصرية القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية للأمة العربية، بالإضافة إلى إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية وحركة عدم الانحياز، حيث صنف الكاتب كل هذه الخطوات باعتبارها قوة ناعمة، ساهمت في دعم مصر شعبيا في العالم العربي وحققت لها زخما ثقافيا وسياسيا خارج الحدود، وخاصة في المنطقة العربية. ويشير هنا على سبيل المثال إلى دعم ثورة يوليو للفن والثقافة قائلا: "ولم يكن الدعم الذي قدمته يوليو للفن والثقافة سوى تعبير عن إيمانها بقدرة القوى الناعمة على التأثير، ومحاولة استثمار طاقات مصر الإبداعية لخدمة القضايا الوطنية والمصالح السياسية ".
أعطت ثورة يناير أملا جديدا حسب الكاتب، الذي أكد أنه خلال هذه الثورة، اكتشفت مصر أن لديها مخزونا هائلا من الثروة الخلاقة، واستعادت فنونا سابقة، وأصواتا رحلت لتشعل ثورتها، وفي المقابل يؤكد الكاتب على الرغم من جلال الحدث، إلا أن الإبداع كان أقل من اللحظة.
وفي المقابل، يبرز الكاتب الدور السلبي ليوليو من خلال صدامها مع النخب التي صنعت هذه القوة الناعمة، وذلك تحت عنوان "صدامات أولاد العم" وما جرى باستقبال سجون عبد الناصر عشرات المبدعين والمفكرين، حتى أولئك الذين تغنوا بالثورة مثل عبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وغيرهم في مختلف مجالات العمل والأدب والفكر، وصولا لوفاة الكاتب والسياسي شهدي عطية إثر تعذيبه في سجون عبد الناصر، وهو ما أثر بشكل سلبي على مشهد مضيء في تاريخ مصر بحسب الكاتب، الذي يقول: "ويختزل الحلم بالثورة في قناعات شخص ويمسك دائما بشارة المايسترو، ولا يسمح لنغمات نشاز خارجة عن النوتة الموسيقية المعدة سلفا"، مضيفا: "قوة ناعمة يحددها مسؤولو وزارة الإرشاد القومي، لا يسمح بغير ذلك".
وفي الفصول الأخيرة للكتاب يفرد الكاتب لأنواع أخرى من أدوات القوة الناعمة منها الدبلوماسية المصرية العريقة تحت عنوان "مدافع الدبلوماسية الناعمة"، متناولا فيه دور مصر في إنشاء العديد من المؤسسات السياسية بدبلوماسيتها المتميزة، وهو ما ساهم في قوتها الناعمة، ومن هذه المؤسسات جامعة الدول العربية ثم حركة عدم الانحياز ومنظمة الوحدة الأفريقية، وقبل ذلك تبنيها للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية مصيرية للأمة، ثم يتناول في هذا السياق دور الأزهر والكنيسة تحت عنوان "الأزهر والكنيسة.. الزيتون واللوتس"، باعتبارهما من مكونات قوة مصر الناعمة، الأزهر بمؤسساته العريقة التي ساهمت في نشر مفاهيم وقيم الإسلام السمحة بالعالم الإسلامي، كما يشير للدور الحيوي للكنيسة القبطية في نشر السلام والمحبة، خاصة بين دول أفريقيا ونفوذ الكنيسة المصرية، وهو ما ساهم بقوة في التأثير على صناعة وجود مصري قوي في منطقة القرن الأفريقي.
كما يتناول الكاتب التعليم المصري ودوره في دعم القوة الناعمة لمصر، سواء من خلال قدوم الطلاب العرب إلى الجامعات المصرية ومنهم من تصدر المشهد في بلاده وصار حاكما لها، مثل صدام حسين وياسر عرفات وغيرهم، وأيضا بإرسال المعلمين المصريين للدول العربية والأفريقية، مما ساهم في نشر الوعي هناك وتوثيق مكانة مصر في وجدان شعوب هذه الدول.
كسوف الشمس
ويخصص الكاتب جزءا مهما من كتابه حول تراجع هذه القوة تحت عنوان "كسوف شمس الريادة"، الذي يرى الكاتب أنه بدأ برحيل عبد الناصر وانحسار دور مصر وتراجعه، خاصة أنه رحل بعد هزيمة مريرة وبعد حرب أكتوبر وعبور قناة السويس كانت لازالت قوة مصر الناعمة حاضرة، ولكن بعد عصر الانفتاح الذي تبناه السادات، صارت مصر وكأنها تتبدل بخطى سريعة وبدأت الدولة تتراجع عن دعمها للثقافة والفنون وتركت ذلك القطاع الخاص، الذي انحدر بمستواها وصار الربح مقدما على أي شيء، ثم جاءت اتفاقية "كامب ديفيد" لتجهز على البقية الباقية لهذه القوة وما جرى من عزل مصر عن محيطها العربي، وهنا يربط الكاتب أيضا بين هذا التراجع وظاهرة النفط الخليجي بتعبير الكاتب، وهو ما صنع ثقافة جديدة، خاصة بذهاب المصريين لدول الخليج وتأثرهم بثقافة هذه الدول، فضلا عن ظهور منابر إعلامية وثقافية بهذه الدول، مما جعل تأثير مصر يتراجع بشكل كبير.
ويتناول الكاتب فترة حكم مبارك أيضا في سياق هذا التراجع، ففي صفحة ١٣٠من الكتاب يقول الكاتب: "وخلال فترة مبارك التي امتدت ٣٠ عاما في الحكم بما يعادل فترتي عبد الناصر والسادات معا، فقد شهدت انكسارات في تأثير مصر ونفوذها الإقليمي، خاصة العربي، رغم أن عودة علاقات مصر الرسمية بالأشقاء العرب عقب فترة العزلة يمثل خطوة إيجابية، إلا أن ذلك لم يكن كافيا".
يناير وأمل جديد
ولكن، أعطت ثورة يناير أملا جديدا حسب الكاتب الذي أكد أنه خلال هذه الثورة، اكتشفت مصر أن لديها مخزونا هائلا من الثروة الخلاقة، واستعادت فنونا سابقة، وأصواتا رحلت لتشعل ثورتها، وفي المقابل يؤكد الكاتب، على الرغم من جلال الحدث، إلا أن الإبداع كان أقل من اللحظة.
وفي خاتمة الكتاب، يعترف الكاتب بأن مصر تواجه أزمات عديدة في تلك القوى الناعمة، رغم أنها تمتلك الأساس الذي تبني عليه، وكل ما تحتاجه فقط أن تستعيد ما لديها من ملكات وتنفض التراب عن قدراتها بحسب الكاتب، الذي يطالب بوضع" خارطة طريق" لإنجاز تلك المهمة الحاكمة في هذه المرحلة، مطلقا صرخة تحذير من أن التباطؤ والتقاعس عن إنقاذ ما لدى مصر من قدرات، يعد جريمة في حق الأجيال القادمة، وخطيئة في حق الآباء الذين بذلوا حياتهم لصناعة قوة ناعمة في المجالات كافة، ومقومات نسعى أن تكون أهلا لها، طارحا بعض الخطوات في هذا السياق من قبيل الإسراع في مؤسسة إعلامية إخبارية بجودة تليق بمصر، وكذللك تقديم سينما تمتلك مقومات التأثير كما كان وتنال الاحترام، وإعادة النظر بشكل جذري في منظومة التعليم، وغيرها من الخطوات الأخرى في المجالات كافة، بحيث تستعيد مصر قوتها ونفوذها الشعبي داخل الحدود وخارجها.