قضايا وآراء

ما هي الثورة؟ تحريرا للمصطلح كي لا نظل نجري في المكان (5- 5)

أحمد عبد العزيز
1300x600
1300x600

أشهر ثلاث ثورات في الميزان

أتيت (فيما سبق) على ذكر ثلاث ثورات، كلها "مذمومة" بمعيار المآلات، وليس بمعيار الدوافع والأسباب؛ فدوافع هذه الثورات وأسبابها كانت منطقية ومبررة، أما نتائجها ومآلاتها فتجعلنا نحكم عليها (دون تردد) بأنها ثورات "مذمومة"، يجب الاتعاظ بها، في سعينا نحو "الثورة التي نريد".

فالثورة الفرنسية (أيار/ مايو 1789) ثورة مذمومة؛ لأنها أسرفت في إزهاق الأرواح، حتى ساق قادتها بعضهم بعضا إلى المقصلة؛ لمجرد الاختلاف في الرأي، وتمت "فبركة" اتهامات، لا عقوبة لها سوى الإعدام، عن سابق قصد وتصميم.. ولأن هذا التناحر الدامي، انتهى (بعد بضع سنين، شديدة الكآبة) باستيلاء العسكر على السلطة، وأعني نابليون بونابرت، الضابط الكورسيكي الذي قاد انقلابا على نظام الثورة "المضطرب"، بالتآمر مع "سيايس" أشهر مشرِّعِي فرنسا الدستوريين وقتذاك! ونصّب نفسه قنصلا أولا لفرنسا، ثم إمبراطورا، ثم عادت مَلكية "آل بوربون" التي أسقطتها الثورة، ثم كانت ثورة سنة 1848م، التي أسست نظاما جمهوريا، بعد مرور نحو 60 سنة على الثورة الأم، وهي ثورة مذمومة؛ لأنها (سياسيا وأخلاقيا) لم تتورع عن احتلال واستعباد شعوب أخرى، حرمتها من أبسط حقوقها التي قامت لانتزاعها، من براثن المَلكية المطلقة!

وأما الثورة الشيوعية، على حكم القياصرة، في روسيا عام 1917م، فهي نموذج آخر للثورة المذمومة، إذ سلبت حرية الإنسان، وسحقت آدميته، وتحول الشعب (في ظل قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي) إلى قطعان من الدواب، وتروس في آلات، لا تتوقف عن العمل؛ لتوفير أسباب الرفاهية لشرذمة من الدببة السِّمَان، أطلقوا على أنفسهم اسم "اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي"!.. وهي ثورة مذمومة؛ لأنها حاربت الدين (أي دين) بلا هوادة، وفرضت الإلحاد، وطمست هوية الشعب الروسي، ولم تحقق الرفاه التي وعدت بها طبقة "البروليتاريا"، ولم تمكنها من السلطة، وقد كانتا الركيزتين الأساسيتين في الفكرة الشيوعية، كما كانتا المحفز الأساس للعمال والفلاحين على الثورة ضد آل رومانوف!

وأما الثورة الإيرانية، فهي ثالث الثورات المذمومة! اشتعلت في عام 1979م، ضد نظام علماني فاشي، ارتمى علنا (وبكل فخر) في الحضن الصهيوأمريكي، إلا أنها كانت ثورة "طائفية" محضة، استندت إلى ما أعتبره "خرافة" لدى الطائفة الشيعية، اسمها "الإمام الغائب" الذي اختفى قبل ما يربو على ألف عام، وينتظرون عودته! وأسست نظام "الولي الفقيه" الذي يترأسه "المرشد الأعلى للثورة"، وهو شخص "معصوم" (في عقيدتهم) عصمة الأنبياء والرسل! ينوب عن "الإمام الغائب" حتى يعود، فيتسلم "الولاية" منه! وقد اضطهدت هذه الثورة مواطني إيران "السنَّة" على وجه الخصوص، وحرمتهم من أبسط حقوق المواطنة! وزادت فتوغلت في محيطها العربي، في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، بصور مختلفة، عسكريا وسياسيا!

لم أستخدم لفظ "الديمقراطية" مطلقا، خلال حديثي عن الانتخابات! ليس لأني "كافر" بها، ولكن لأن ما نسميه اليوم "ديمقراطية" يسميه المفكر الفرنسي جان جاك روسو "أرستقراطية" أي "حكم النخبة"، وليس "حكم الشعب"

ملاحظتان مهمتان!

الملاحظة الأولى:


لعلك لاحظت (عزيزي القارئ) أني لم أستخدم لفظ "الديمقراطية" مطلقا، خلال حديثي عن الانتخابات! ليس لأني "كافر" بها، ولكن لأن ما نسميه اليوم "ديمقراطية" يسميه المفكر الفرنسي جان جاك روسو "أرستقراطية" أي "حكم النخبة"، وليس "حكم الشعب"، وهو مُحق (تاريخيا) فيما ذهب إليه! ويسميها (اليوم) آخرون "الديمقراطية غير المباشرة"! باعتبار أن الشعب يفوّض هذه النخبة لتحكمه. وهذا (في نظري) نوع من التضليل، لذا، أسميها "بوليمقراطية"، أي "حكم المال السياسي" الذي يدير ويتحكم في عملية تصعيد أي حاكم إلى السلطة، من خلال "الانتخابات"! ومن ثم، فقد استخدمت تعبير "انتخاب حر نزيه" بدلا من مصطلح "ديمقراطية"..

والسبب الثاني هو: أن "العملية الديمقراطية" نفسها، ليس بالضرورة أن تكون "حرة نزيهة"، ونحن شهود على فساد هذه العملية، في بلادنا المنكوبة كلها.. ومن ثم، لا بد من تحرير المصطلح؛ ليتوافق مع واقع الحال.

الملاحظة الثانية:

حُكمنا على الأحداث يأتي على مرحلتين:

• المرحلة الأولى، تبدأ فور وقوع الحدث.

• المرحلة الثانية، تبدأ عند انقضاء الحدث، والدخول في خضم حدث جديد.

مثال:

الثورة المحمودة: هي انتفاضة شعبية عارمة، ضد نظام شمولي مستبد فاسد، تحركها قيادة راشدة كفؤة متجانسة، تنجح في إقامة نظام جديد، يكون الحكم فيه لله، وتكون السيادة فيه للشعب

حركة "استعادة السيادة" التي قام بها المشير سوار الذهب، في السودان، ضد سلفه جعفر نميري.. ظلت هذه الحركة "انقلابا" حسب التوصيف (الذي اعتمدناه في هذه السلسلة)، حتى أوفى سوار الذهب بوعده، بعد عام بالضبط، ودعا إلى انتخابات عامة، لم يتقدم للمنافسة فيها، وتسلمت إدارة البلاد سلطة منتخبة، فلم تعد هذه الحركة "انقلابا"، واستحقت أن نسميها حركة "استعادة السيادة"، أي رد الأمر إلى الشعب، الذي هو صاحب السيادة الحقيقي والأصلي.

خلاصة!

• لا تمرد، ولا انتفاضة، ولا ثورة، ضد نظام منتخب انتخابا حرا نزيها، يؤمن بالتداول السلمي للسلطة، ويمارسه حسب المواقيت المقررة دستوريا!

• ليست كل ثورة محمودة، وليس كل عصيان مذموم، وليست كل إطاحة بالنظام خيانة!

• استعادة السيادة من نظام ديكتاتوري مستبد فاسد، لا يؤمن بالتداول السلمي للسلطة وإعادتها إلى الشعب ليختار حاكمه ونوابه بحرية وشفافية، ليست انقلابا!

• الثورة مجرد "فعل" يستحق الحمد أو الذَّم لدوافعه ومآلاته، والمآلات أهم (بكثير) من الدوافع، ولا يصح (بأي حال) أن نعتبر الثورة فعلا محمودا، لكونها "ثورة" وحسب!

• الثورة المحمودة: هي انتفاضة شعبية عارمة، ضد نظام شمولي مستبد فاسد، تحركها قيادة راشدة كفؤة متجانسة، تنجح في إقامة نظام جديد، يكون الحكم فيه لله، وتكون السيادة فيه للشعب.

(انتهى)!

twitter.com/AAAzizMisr
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الثلاثاء، 16-02-2021 05:32 م
*** اختلاف وجهات النظر في تقييم الأحداث، سنة بشرية بحسن نية أم بسوء نية، فما زال ملايين يصفون انقلاب سُلة من العسكر في 1952 وتمردهم على قادتهم انتهاء باستيلائهم على حكم مصر بكونه الثورة المصرية، رغم أنهم هم أنفسهم وصفوا ما فعلوه في البداية بأنه انقلاب عسكري، كما سماه السادات صراحة في كتابه "حقيقة الانقلاب الأخير في مصر"، ولكنهم بعدها، وللتغطية على جريمتهم، وصفوا كذباً ما فعلوه بأنه ثورة شعبية، وهكذا فعلوا في 2013، وفي الحالة الثورية التي تمر بها مصر منذ 2011م، فقد اختُلف فيها، وتقلبت المواقف منها، وفقاُ لتغير المواقف والمصالح والانتماءات، فنظر لها البعض باعتبارها وقفات احتجاجية، وتلك وجهة نظري في وصف ماحدث يوم 25 يناير، فتلك كانت آراء من شاركوا في تلك الوقفة أنفسهم، مع احترامنا وتقديرنا لما قاموا به، أما ما حدث يوم الجمعة 28 يناير، عندما خرج ملايين المصريين في كافة انحاء مصر من المساجد بعد صلاة الجمعة، فهو يوم بداية الثورة الشعبية الحقيقية، وهناك آخرين من نظر إليه باعتباره اليوم الذي ركب فيه الإسلاميون على الثورة، رغم أن الهوية الإسلامية للشعب المصري هي الغالبة، مقارنة بقلة من المتغربين والمتحزلقين ممن تسربلوا بسرابيل ليبرالية واشتراكية مستوردة، وفي رأيي فإن تأثر من خرجوا يوم جمعة 28 يناير بنجاحات الثورة التونسية، كان أكبر واهم من تأثرهم بأصحاب الوقفة الاحتجاجية يوم 25 يناير، ولذلك الارتباط القوي، فقد اطلق عليها ثورات الربيع العربي، وجُل الثوار المصريين لم يكن يعرف لا وائل غنيم (الذي سماه البعض كذباً بأيقونة الثورة)، كما لم يكونوا قد سمعوا بمن اطلقوا على انفسهم اسم شباب 6 ابريل، مع احترامنا لإخلاص بعضهم، ولكن هناك من حاول تعظيم دورهم لإضفاء صبغة علمانية متفردة كاذبة على ثورة عموم الشعب المصري ضد حكومة مبارك الفاسدة وحزبه الذي انهار بصبيانه وزعماءه المزعومين، أما اعداء الثورة من النظام القديم فللتقليل من شأنها ولإدانتها، فقد وصفوها بالاضطرابات الممولة من الأجانب، والهوجة، وانتفاضة الحرامية والبلطجية، وبالتمرد على السلطة الشرعية، كما حملوها بهتاناُ وزوراُ بتهمة سقوط الضحايا، كما اعتبروها مولد وانفض، وعادت الأمور في مسارها لتصب في مصلحتهم، وللأسف فإن بعض من شاركوا في الثورة، وقدموا التضحيات من أجلها، ولتعجلهم النتائج أو ليأسهم، فقد اعتبروها أيضاُ قد انفضت وانتهت، وذلك يخالف الواقع الظاهر، فأحداث ثورات الربيع العربي مترابطة ومستمرة، ولو كره الكارهون، أو انفض عنها اليائسون، وما أصاب قوى الثورة المضادة من تصفيتهم لبعضهم البعض أشد وأنكى، انظر البرادعي وشفيق وعنان، بل وكافة قيادات المجلس العسكري الأعلى الذين تمت تصفيتهم أو إزاحتهم، والجنرال الانقلابي الدجال السيسي يشك في أقرب معاونيه، ويرتعش رعباُ من يوم انفضاض داعميه في الداخل والخارج عنه، وتضحيتهم به كما فعلوا مع مبارك، وإن غداً لناظره قريب، والله أعلم.