من المتعارف عليه على نطاق واسع أن نقاد إسرائيل، وبغض النظر عن مدى صحة الانتقاد، يتعرضون بانتظام للعقاب من قبل المؤسسات العامة والخاصة على حد سواء بسبب ممارستهم لحرية التعبير. ولقد وثق اتحاد الحريات المدنية الأمريكي نمطاً يتم من خلاله إسكات من يحاولون الاحتجاج على الحكومة الإسرائيلية أو مقاطعتها أو انتقادها، وهو توجه يتجلى بوضوح داخل الجامعات وفي عقود الدولة وحتى في المشاريع التي تطرح لتغيير القوانين الجنائية الفيدرالية" ويكبت حرية الناس في التعبير في جانب واحد فقط من طرفي الجدل حول الموضوع الإسرائيلي الفلسطيني. كما بين مركز الحقوق الدستورية أن "المنظمات المدافعة عن إسرائيل والجامعات والمسؤولين الحكوميين وغيرها من المؤسسات" يستهدفون النشطاء المناصرين لفلسطين بعدد من الأساليب "بما في ذلك إلغاء النشاطات، والشكاوى القانونية التي لا أساس لها، والإجراءات الإدارية التأديبية، والطرد، والاتهامات المغرضة بالإرهاب وبمعاداة السامية" ويخلص المركز إلى البقول بأن "فلسطين مستثناة من حرية التعبير."
في بعض الأوقات تتخذ المساعي التي تبذل لإسكات منتقدي إسرائيل شكل إجراء حكومي صريح – هناك حملة لتجريم أي كلام يتضمن نقداً لإسرائيل، بل إن بعض الولايات تطلب من موظفي الحكومة فيها أداء القسم والتعهد بعدم مقاطعة إسرائيل. ولكن كما يلاحظ الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي في ميدل إيست آي، كثيراً ما يأتي ذلك على شكل اتهامات لا أساس لها (ومؤذية) بأن الانتقادات الموجهة لإسرائيل هي قطعاً معاداة للسامية. وفي الولايات المتحدة سحبت عروض عمل من أكاديميين انتقدوا إسرائيل أو حيل بينهم وبين التدريس، وطردت السي إن إن الأكاديمي مارك لامونت هيل بسبب مطالبته بفلسطين حرة. وفي بريطانيا شُنت حملة سخيفة على مدى عام كامل لتلطيخ سمعة زعيم حزب العمال السابق (والناقد لسياسة الحكومة الإسرائيلية) جريمي كوربين باعتباره معاد للسامية. وتشير منظمة هيومان رايتس واتش إلى أن حكومة الولايات المتحدة وجهت ضدها اتهامات لا أساس لها من الصحة بأنها معادية للسامية كما وجهت نفس التهم ضد مجموعات أخرى تعمل في مجال حقوق الإنسان مثل العفو الدولية وأوكسفام لمجرد أنها كشفت عن سجل إسرائيل الرديء في حقوق الإنسان. وداخل إسرائيل يجري قمع حق الفلسطينيين في حرية التعبير بشكل وحشي، بل وحتى اليهود المؤيدون لحقوق الفلسطينيين يتعرضون بشكل منتظم للمضايقة على أيدي الدولة. في العام الماضي كتبت عبير النجار، من منظمة أوبين ديموكراسي (الديمقراطية المفتوحة) عن كيفية توجيه وسائل الإعلام في التيار العام لكي تتجنب أي إشارة إلى حقوق الفلسطينيين أو القانون الدولي أو نشر أي كلام يتضمن نقداً لإسرائيل أو لسياساتها.
طردت من عملي ككاتب عمود في صحيفة بعد مزاحي عبر السوشال ميديا حول مساعدات الولايات المتحدة العسكرية لإسرائيل
شخصياً، لم يحصل أن فكرت يوماً بمسألة ما إذا كان يمكن أن أعاني تبعات انتقاد حكومة إسرائيل (ودعم الولايات المتحدة لها). فقد كنت أظن أنني أتمتع بأكبر قدر من حرية التعبير يمكن أن يتوفر للمرء في أي مكان في العالم. ولكن لربما كان ينبغي علي أن أفكر في الأمر أكثر لأنني بمجرد أن تخطيت الخط غير المرئي، نُبهت إلى ذلك بسرعة. بمجرد أن أثرت حفيظة المدافعين عن إسرائيل في السوشال ميديا، طردت بشكل تعسفي، وعلى عجل، من عملي ككاتب عمود صحفي.
ما لبثت أكتب في "ذي غارديان يو إس" (النسخة الأمريكية من صحيفة الغارديان البريطانية) منذ 2017، بداية كمشارك ثم من بعد ككاتب عمود بالكامل. وكانت كتابتي تنحصر تقريباً في الشؤون السياسية للولايات المتحدة، ولم يحصل أن كتبت من قبل حول إسرائيل. وباستمرار كان المحرر المسؤول عني راض عن عملي، الأمر الذي ضمن دوام تكليفي بالكتابة، فأنا أجيد صياغة تعليق سياسي أريب دقيق وموثق على وجه السرعة، وصياغتي لا تحتاج في العادة إلى كثير من الجهد التحريري. (حسبما أذكر لم يرفض لي عمود بسبب المحتوى إلا مرة واحدة عندما كتبت منتقداً جو بايدن بخصوص ارتباطاته بالممارسات التجارية الفاسدة لابنه هنتر بايدن).
إليكم سياق الأحداث التي انتهت بطردي من عملي. في أواخر ديسمبر / كانون الأول، كان الكونغرس بصدد اعتماد حزمة جديدة من أموال الإعانة المرتبطة بجائحة كوفيد. وفي نفس الوقت كان يقوم بإجازة 500 مليون دولار إضافية كمساعدات عسكرية لإسرائيل. لم تزل إسرائيل منذ وقت طويل واحدة من أكبر المستفيدين من المساعدات العسكرية الأمريكية، ولم يتفوق عليها في السنوات الأخيرة إلا أفغانستان (مع أن ذلك لم يكن على أساس عدد الدولارات لكل مواطن). وإسرائيل طبقاً لمكتب أبحاث الكونغرس "أكبر متلقي تراكمي للمساعدات الأمريكية الخارجية منذ الحرب العالمية الثانية"، وتشكل المساعدات الأمريكية ما يقرب من عشرين بالمائة من ميزانية إسرائيل الدفاعية. فيما يلي لوحة يعود تاريخها إلى عام 2015، يعاد نشرها هنا من السي إن إن:
مما كان يبعث على الاكتئاب أن يرى المرء أنه في نفس الوقت الذي كان فيه الكونغرس يمنح القليل جداً من المساعدات للشعب الأمريكي للتخفيف من أزمة كوفيد كان أيضاً يقدم لأكثر الجيوش تطوراً من الناحية التكنولوجية في العالم المزيد من صواريخ كروز. (يشير المدافعون عن الإجراء إن المال المقدم لإسرائيل من الناحية الفنية لشراء الأسلحة لم يكن جزءاً من نفس القانون الخاص بمساعدات كوفيد، وإنما كان جزءاً من قانون المخصصات الذي تم اعتماده في نفس الوقت، وهو رد وجيه على من قالوا إن المال كان جزءاً من قانون مساعدات كوفيد، ولكن ذلك لا يبرر بأي حال مثل هذا الإنفاق.)
شخصياً كنت ممتعضاً ومكتئباً من رؤية تمويل جديد للصواريخ الإسرائيلية يجري اعتماده في نفس الوقت الذي لا يقدم فيه إلا الفتات كمساعدات لتخفيف المعاناة الناجمة عن كوفيد. فإسرائيل قوة مسلحة نووياً (وهو الأمر الذي لا يؤكدونه ولا ينفونه هم، مع أن الخبراء يقرون على نطاق واسع بأنه واقع صحيح، بل ولقد اعترف به بنيامين نتنياهو ذات مرة عن دون قصد.) تهيمن إسرائيل بشكل تام تقريباً على الفلسطينيين، بينما نقوم نحن بمنحها الكثير جداً من المساعدات العسكرية التي لا تحتاجها. فلماذا يقوم الكونغرس في زمن الجائحة بإنفاق المال على أنظمة صواريخ جديدة؟
أشعر بالخجل وأنا أعترف بأنني قليل النشاط على تويتر، ومع ذلك فقد نفست عن سخطي بالتغريد بنكتة. كتبت ساخراً تغريدتين مرتبطتين. قلت في الأولى "هل تعلمون أن الكونغرس الأمريكي لا يسمح له فعلياً باعتماد أي إنفاق جديد إلا إذا كان جزء منه مخصص لشراء أسلحة لإسرائيل؟ فهذا قانون." وقلت في الثانية: "حسناً، إذا لم يكن ذلك هو القانون، فلا أقل من أن يكون متعارفاً عليه لدرجة أنه يصبح بمثابة القانون." بالطبع كانت تلك التغريدة من باب السخرية (وهو أمر مألوف على تويتر)، ولكن حتى أتأكد من أن أحداً لا يظن أن ذلك كان بالفعل قانوناً، عدلت التغريدة الثانية لكي يكون واضحاً لدى الجميع أنني كنت أمزح وأن تلك كانت نكتة مائة بالمائة، فلا مجال هناك لإساءة فهم هذه النكتة.
لا أقرأ الردود على تغريداتي في تويتر لأنها في العادة تكون مليئة بالبذاءة، ولأنني لا أحب أن أدخل في جدل مع أحد. ولكن زميلاً نبهني إلى أن بعض الناس كانوا ينعتونني بالمعادي للسامية. ضحكت، لأن ذلك كان بوضوح أمراً سخيفاً، إذ أنه يصنف أكثر نموذج كرتوني ممكن من الانتقاد المشروع على أنه نوع من التعصب، بينما كنت فقط أشير إلى حقيقة صحيحة مائة بالمائة، وهي أننا نقدم لإسرائيل كميات ضخمة من المساعدات العسكرية ونخصها بالدعم دون غيرها حتى في زمن الجائحة. (قالت نانسي بيلوسي ذات مرة "لو انهارت واشنطن العاصمة وسقطت على الأرض فإن آخر ما سيبقى هو دعمنا لإسرائيل"، وأنا أصدقها فيما قالت. وقال جو بايدن ذات مرة إنه لو لم تكن هناك إسرائيل فإن الولايات المتحدة "كان ستوجب عليها اختراع إسرائيل" لحماية مصالحنا.) وكما يشير مكتب أبحاث الكونغرس في تقرير له فإن الولايات المتحدة ملتزمة بشكل مباشر وصريح بعلاقة خاصة مع إسرائيل تضمن لها الحفاظ على "توفق عسكري نوعي" على البلدان الأخرى. وإنها لسياسة صريحة من سياسات الحكومة الأمريكية أن يكون لدى إسرائيل الأولوية في الحصول على التقنيات العسكرية الأمريكية.
عندما تغرد، وخاصة إذا تعلق ذلك بموضوع مثير للخلاف، فبإمكانك أن تتوقع أن يثير ذلك سخط عدد قليل من الناس فيطلق بعضهم عليك نعوتاً معينة. لكن لم يخطر ببالي أنني سأفصل من عملي على وجه السرعة.
في وقت لاحق من ذلك اليوم وصلتني رسالة إلكترونية من جون مولهولاند، رئيس تحرير "ذي غارديان يو إس". لم يحصل أن وصلتني من قبل أي رسائل من طرفه، حيث أن معظم تواصلي يتم مع المحرر المكلف بالتعامل مع كتاباتي. (لن أسميه نظراً لأنه شخص محترم ولا أريد أن أسبب له ما يضيره.) كتب مولهولاند في خانة موضوع الرسالة "خاص وسري".
هناك عدد من الأمور المثيرة للاهتمام وتستحق التوقف عندها في الرسالة. أولاً، حقيقة أن مولهولاند كتب في خانة الموضوع "خاص وسري" يعني أنه لا يرغب في أن يطلع أناس آخرون على ما يقوله لي. أي أنه يفضل أن تبقى كلماته سراً قيد الكتمان. (هو يفضل ذلك، ولكن يعتبر تصنيف رسالة الإيميل على أنها خاصة مجرد طلب، ولا يعتبر أمراً ملزماً من الناحية القانونية.)
ثم يقول في رسالته إن تغريدتي تشتمل على "أخبار كاذبة" يمكن أن تضلل الناس. وهذا كلام فارغ، فالسخرية، كما قلت، أمر شائع في تويتر، وتحسباً من أن يتصادف وجود شخص ذي ذهنية حرفية لدرجة أنه قد يعتقد بأنني لم أكن أمزح حين قلت إن جميع طلبات الإنفاق الجديدة تتطلب تقديم مساعدة جديدة لإسرائيل، فقد أضفت تغريدة أخرى أبين فيها ذلك بوضوح شديد. ولو لم يكن الأمر يتعلق بإسرائيل لما خطر ببال مولهولاند أن يرسل لي مثل هذا الإيميل. فمشكلته ليست مع لجوئي إلى السخرية فيما كتبت. ولو أنني قلت إن "القانون في الولايات المتحدة ينص على أن الكونغرس بإمكانه فقط أن يجيز مشروع إنفاق إذا ما اشتمل على كمية ضخمة من التبذير" لما ظن إنسان عاقل بأنني كنت سأتلقى بشأن ذلك رسالة من رئيس تحرير ذي غارديان يو إس.
لا، فذلك كان مجرد ذريعة. إن المشكلة الكبرى، كما قال، تكمن في أنني حسبما افترض خصصت بالنقد الدولة اليهودية الوحيدة دون أن أشير إلى المساعدات التي تتلقاها البلدان الأخرى. كما يظهر في ذيل رسالته الإلكترونية ما يبدو أنه اقتباس من أحدهم يعتبر ما غردت به نوعاً من معاداة السامية، وإن لم يكن واضحاً ممن كان يقتبس.
ما كان واضحاً من رسالة الإيميل هو أن مولهولاند كان حانقاً ومغتاظاً. وكما قلت، فإن التهمة التي وجهها لي سخيفة، لأنني لم أخص إسرائيل بالذكر، وإنما الذي يخصها بذلك هو سياسة الولايات المتحدة. كل ما هنالك أنني أشرت إلى أن هذا ما نقوم به، وأننا نفعل ذلك عن قصد وترصد، لأننا نعتقد أن إسرائيل لديها حق خاص بالاحتفاظ بتفوق عسكري نوعي لا يتوفر لأحد من جيرانها. ولكنني سرعان ما أدركت أن وظيفتي قد تكون مهددة، ولذلك حذفت التغريدة وكتبت رداً على رسالة مولهولاند اعتذرت فيها عن قيامي بأي شيء قد يفسر على أنه ينال من نزاهة ومكانة الصحيفة. فأنا بحاجة إلى راتبي، ومع إحساسي بإحباط عميق لأن الغارديان ستمارس نوعاً من الرقابة على تغريداتي، إلا أنني شعرت على مضض بأنه سيتوجب علي الإذعان للقيود الجديدة التي أتوقع أن تفرض علي وترسم لي حدود ما يسمح لي بالتعبير عنه من آراء في العلن. أدركت أن الرقابة علي ستكون مشددة، ولكنها بدت محتومة ولا سبيل لتجنبها، مع رجائي أن تكون محدودة. إن التوظيف الاختياري يعني أن رب العمل بإمكانه أن يمارس سلطاته بالإكراه فيحد من حرية موظفيه في التعبير، حتى وهم خارج الدوام. لا مفر إذن من أن أقبل بذلك لأنني، حالي حال غيري، أحتاج لأن أدفع إيجار سكني.
رد علي مولهولاند مشيراً إلى أنه يقدر لي أنني اعتذرت له، ويقول إننا بإمكاننا أن نمضي قدماً تاركين هذه الحادثة خلفنا. كتب إلي المحرر المسؤول عني ليطلب مني معلومات عن التغريدات، مشيراً إلى أن إدارة الغارديان ساخطة، ولكنه أخبرني بأنني لست بحاجة لأن أقلق. فهمت من ذلك أنني طالما أبقيت فمي مغلقاً ولم أذكر إسرائيل على تويتر، فسوف تستمر الغارديان في نشر مقالتي التي أتحدث فيها عن مواضيع أخرى. كانت تلك بدون أدنى شك تسوية وضيعة – ولربما لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما فكرت بالإقدام عليها. إذ أنه يصعب علي المرء أن يبرر بدافع حاجته إلى الراتب التزام الصمت إزاء الدعم العسكري الذي تقدمه الولايات المتحدة لبلد ينتهك حقوق الإنسان. ولكن الكتاب الذين يعيشون على دخل مصدره الكتابة يواجهون خيارات صعبة عندما يقرر لهم المدير المسؤول عنهم ما هي الآراء التي يسمح لهم بالتعبير عنها على الملأ. ومع ذلك، رجوت في تلك اللحظة أن يتيسر سبيل أتمكن من خلاله من الاستمرار في الكتابة. على كل حال، قلت في نفسي إنني سأبذل قصارى جهدي لكي أعبر بصدق عما يجول في خاطري دون أن يسبب لي ذلك توبيخاً من إدارة التحرير، مع أن القلق ظل يساورني بشأن ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك.
ولكن شيئاً غريباً حصل. خلال الأسابيع القليلة التالية لم يعد المحرر المسؤول عني يتجاوب معي، الأمر الذي أثار فضولي. فقد كنت أرسل له المقترح تلو المقترح حول مواضيع يمكن أن أكتب فيها، ولكن ما من سامع ولا مجيب. وفي بعض الأوقات كان يصلني وعد بأنهم قريباً سيتحدثون معي، ولكن ما من متابعة. كان ذلك مخالفاً جداً لما هو مألوف، وذلك أن المحرر كان طوال العام الماضي يتواصل معي باستمرار ويطلب مني مادة لعمود جديد، ثم فجأة ساد صمت رهيب.
وأخيراً، يوم الاثنين الثامن (من فبراير / شباط) جاءتني مكالمة هاتفية من المحرر المسؤول عني. قال لي إنهم كانوا يرغبون في نشر مقالاتي، ولكن ما حدث مع مولهولاند جعل الأمور مستحيلة في تلك اللحظة، وأنهم بحاجة لأن يتكلموا معه لإصلاح الأمور. وتارة أخرى، في محاولة مني لأن أكون مرناً ومستوعباً للوضع، قلت إنني أعلم بأن ثمة معايير جديدة يتوجب علي الالتزام بها، وأنني يسعدني أن أجلس لأتحدث مع مولهولاند لمناقشة ما الذي يتوقعه مني.
بات الآن واضحاً أنني كنت أعاقب صراحة لأنني كتبت تغريدة أنتقد فيها إسرائيل. أوضح لي محرري بشكل لا لبس فيه أنه لولا تلك التغريدة لكانوا قبلوا مني مقترحاتي لهم. ومن الواضح أيضاً بطلان ما جزم به مولهولاند من أن كتاب الغارديان أحرار في التعبير عما يجول في خواطرهم. نعم، أنت حر، ولكن إذا استهدفت إسرائيل، فإن مقالاتك ينتهي بها المطاف في سلة المهملات، وهذا بالضبط ما اعترف به محرري لي شخصياً وبشكل مباشر حين قال إن رفض مقترحاتي كان نتيجة مباشرة لما كتبته في التغريدة.
ثم تبين لي أنني لم أكن عرضة للتجاهل المؤقت فحسب. فيوم الثلاثاء اتصل بي محرري وأخبرني أنه تقرر بعد الحديث مع مولهولاند التوقف عن نشر عمودي بشكل نهائي. سألت إن كان بإمكاني أن أتحدث مع مولهولاند للتوصل إلى تسوية ما، ولكن محرري قال إن ذلك غير ممكن، وأكد لي أن مولهولاند أشار إلى أن الصحيفة لا ترغب في التعامل معي في المستقبل، بمعني أنني لا يجدر بي أن أعبأ ولا حتى بعرض أي مقترحات عليهم ولو من باب العمل الحر. (عرضوا أن يدفعوا لي أتعاباً عن مقالين إنهاء للتعاقد الذي بيني وبينهم، وهو مبلغ لا يكفي لدفع إيجار بيتي لشهر). لم يكن هناك أي محاولة لتقديم أي نقد لأدائي، بل لقد أشار المحرر بشكل مباشر إلى أن مقترحاتي كانت ستقبل لولا أن مولهولاند كان ساخطاً بسبب تغريدتي. قيل لي بشكل لا لبس فيه على الإطلاق: "تغريدتك حول إسرائيل أزعجت رئيس التحرير، فأنت الآن مفصول. لا ترجع إلينا."
أن تطرد من وظيفتك ليس بالأمر الهين، خاصة عندما يحدث ذلك بدون سابق إنذار وفي أوج جائحة، حيث الوظائف شحيحة وصعبة المنال. لم أكن أتلقى مبلغاً كبيراً من عملي في الصحيفة (كان مجموع ما قبضته منها في العام الماضي خمسة عشر ألف دولار)، وذلك أن وسائل الإعلام ذات التوجه اليساري لا تدفع الكثير، وكنت بحاجة إلى المال. كان يتوجب علي الاستعداد لأن أقبل ببعض الرقابة التي قد تفرضها الغارديان على صفحاتي في السوشال ميديا لأنني في أمس الحاجة للحفاظ على وظيفتي. ولكن لا يعطونك فرصة ثانية عندما يتعلق الأمر بانتقاد إسرائيل، مهما كان مبرراً ما يصدر عنك من انتقاد لها، ومهما كان ذلك الانتقاد بعيداً عن معاداة السامية. ولم يجد معهم نفعاً أنني سارعت إلى حذف التغريدة. إذا تخطيت الحد فقد انتهيت. وليس هذا بسبب مؤامرة كبيرة ما، وإنما بسبب سياسة يعتبر بموجبها حليف للولايات المتحدة فوق النقد (يذكر أن المملكة العربية السعودية في بعض الأحيان تعفى من النقد كذلك.)
لربما كانت الغارديان أكثر صحيفة تقدمية من بين صحف التيار العام في الولايات المتحدة، ولذلك بإمكاننا قول الكثير حول حدود حرية التعبير عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وبممارساتها. صحيفة الغارديان ليست يمينية التوجه وتنشر انتقادات موجهة لإسرائيل، وهو ما تحرص على الإشارة إليه كدليل على التزامها بالحوار المفتوح. لا أقصد هنا القول بأن الغارديان لا تعطي مجالاً بتاتاً للأصوات الناقدة لإسرائيل أو لسياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، ولكن ما أقوله إنها ترغب في التدقيق فيما يصرح به كتابها حول الموضوع والتأكد من أنهم لا يقولون إلا ما يعتبره محرروها مناسباً.
بالإضافة إلى ذلك، من الواضح أن الغارديان لا ترغب في أن يعرف أي شخص أنها تفرض رقابة على تدوينات كتابها في مواقع التواصل الاجتماعي حول إسرائيل. لم يكن مولهولاند يرغب في أن أخبر أحداً بما قاله لي، وحرص على التأكيد على أنني حر في قول ما أريد. لم يسلمني أحد قائمة من الإرشادات التي تحدد ما الذي بإمكاني أن أقوله وما الذي لا ينبغي أن يصدر عني، لأن مثل هذه المجموعة من الإرشادات ستعتبر إقراراً صريحاً بأن الكتاب ليسوا أحراراً، وأن عليهم أن يتقيدوا بخط معين حول إسرائيل، وأن يقولوا فقط ما تصرح لهم به إدارة التحرير. سألت تحديداً إن كان هناك إرشادات ينبغي أن أتقيد بها فتحدد لي ما الذي يسمح بقوله وما الذي لا يسمح به، ولكن رغم أن لدى الغارديان معايير تحكم التصميم والشكل إلا أنها لا يوجد لديها معايير رسمية حول ما يسمح أو لا يسمح بقوله – فقط لديها محددات غير مكتوبة.
ولكن لتكن الغارديان صادقة ونزيهة بشأن ما تفعله وبشأن المواقف الأيديولوجية التي تطلبها من كتابها. اسمحوا لمشتركي وقراء الغارديان أن يفهموا أنه إذا خرج كاتب من كتاب الغارديان عن الخط المرسوم له فسوف يطرد من وظيفته،
لطالما انتقدت أولئك الذين يرسمون صورة لليسار على أنه مجموعة من المحاربين الشموليين من أصحاب فكرة "إلغاء الثقافة" الذين يسعون إلى كتم حرية التعبير. هذه الصورة معكوسة، لأن الرجعيين والمتعصبين، بشكل عام، هم من لديهم مكبرات صوت ضخمة. أما نشطاء حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (بي دي إس) فيعملون في ظل التهديد بملاحقتهم جنائياً. أنا مؤيد تماماً لحرية التعبير، لأسباب مبدئية وعملية، ولكنني انتقدت بعض الخطاب المدافع عن حرية التعبير لأنه يعامل اليساريين كما لو كانوا تهديداً رئيسياً، ولا يذكر الطريقة التي يمكن أن يتعرض من خلالها منتقدو إسرائيل للطرد من وظائفهم لمجرد ممارسة حقهم في التعبير. (رسالة هاربر على سبيل الماثل حول حرية التعبير والنقاش المفتوح تعبر عن مشاعر الإعجاب ولكنها تبدي اهتماماً أكبر بما يهدد العدالة الاجتماعية مقارنة باهتمامها بما يتعرض له أنصار القضية الفلسطينية.)
لا يوجد ما يلزم الغارديان بتوظيفي ككاتب عمود فيها، رغم أنني كاتب ممتاز. بوصفي شخصياً محرراً لإحدى المجلات فأنا لا أنشر كل وجهات النظر. نعم، نحن انتقائيون، ونمارس قدراً من التقييم التحريري، فذلك من صلاحياتنا (رغم أنني لا أذكر أنني انتقدت في أي وقت من الأوقات كاتباً لأنه غرد بشيء ما خارج مجال عمله، ومنهجي هو منح الكتاب أكبر هامش ممكن لممارسة حريتهم في التغريد قبل أن أنظر فيما إذا كانت تدويناتهم في مواقع التواصل الاجتماعي قد تؤثر على توظيف كاتب ما في مجلة كارانت أفيرز). لا أعتقد أن نيويورك تايمز كانت مخطئة عندما قالت إنها لا تريد نشر مقالات رأي تطالب بممارسة القمع العسكري ضد المنشقين أو المعارضين. إذا كان موقف الغارديان هو أن كتاب الرأي فيها يتمتعون بهامش ضيق جداً فقط للتعبير عن آرائهم، أو أنه يتوجب إخضاعهم للرقابة والرصد خشية الانحراف، فليكن. (كان عالم الأنثروبولوجيا الشهير الراحل دافيد غريبر، والذي كان يكتب ذات يوم في الصحيفة، قد رفض أن تكون له بها أدنى علاقة في السنوات الأخيرة من حياته، وكان يقول إن الغارديان تستخدم وجود الكتاب ذوي الميول اليسارية لديها للتغطية على ترويجها للتهم الباطلة ضد جيريمي كوربين وحزب العمال بأنهم معادون للسامية، بل إن أكثر من واحد من انقاد قالوا إن الغارديان استخدمت معاداة السامية بمكر من أجل الدفاع عن الجناح الوسط داخل حزب العمال ضد الجناح اليساري فيه.)
ولكن لتكن الغارديان صادقة ونزيهة بشأن ما تفعله وبشأن المواقف الأيديولوجية التي تطلبها من كتابها. اسمحوا لمشتركي وقراء الغارديان أن يفهموا أنه إذا خرج كاتب من كتاب الغارديان عن الخط المرسوم له فسوف يطرد من وظيفته، بمعني أن القراء لا يسمعون بالضرورة الآراء التي كانوا سيسمعونها لو أن الصحيفة لم تمارس الرقابة والسيطرة على حرية كتاب الأعمدة في التعبير. أخبرني محرري ذات مرة أن الصحيفة تعتبر ما يدونه كتاب الأعمدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي مشكلة مستمرة وأنها تبحث عن وسيلة للتعامل معها. أفترض أن ذلك بالفعل أمر عسير، لأن الغارديان ترغب في الاحتفاظ بحقها في طرد الناس إذا ما عبروا عما لا يرضيها، ولكن في نفس الوقت ترغب في الاستمرار بالتظاهر بأنها لا تفعل شيئاً من ذلك، وتحصر المعايير والحث على الالتزام بها في رسائل الإيميل الخاصة والسرية بدلاً من تدوينها في كتيب تعليمات وإرشادات.
أعتبر نفسي محظوظاً، ومن زوايا متعددة. فأنا لدي مجلتي الخاصة بي والتي بإمكاني من خلالها أن أعبر عما يجول في خاطري بحرية، لا حسيب ولا رقيب إلا القراء. لو لم يكن لدي راتب متواضع أتقاضاه من مكان آخر لكانت تبعات فقدي لهذا الدخل مدمرة فعلاً. أشك في أن أي صحيفة أخرى يمكن أن توظفني، إذا ما أخذنا بالاعتبار أنني فصلت من عملي بتهمة معاداة السامية كما يدعون. سأتعلق بالأمل في أن تبقى كارانت أفيرز على قيد الحياة. ولكن هذا ليس مضموناً. فنحن مؤسسة إعلامية صغيرة مستقلة لا تمويل لنا إلا من خلال الاشتراكات وبعض التبرعات المتواضعة. في المقابل، تحصل الغارديان على تمويلها من مؤسسة ضخمة لديها وقفية تقدر قيمتها بمليار جنيه إسترليني.
لاحظت أن كثيراً من الناس الذين يتظاهرون بالدفاع عن حرية التعبير ليس لديهم الكثير ليقولوه عندما يتعرض منتقدو إسرائيل للأذى. مع ذلك، فإن قضيتي ليست ذات شأن كبير، وينبغي أن يظل التركيز على الفلسطينيين الذين يتعرضون للذبح وكل أنواع الأذى بسبب العدوان العسكري الإسرائيلي (لا تعني حياة هؤلاء الفلسطينيين شيئاً بالنسبة لأولئك الذين تعلو أصواتهم سخطاً بسبب تغريدتي ولا تكاد تسمع احتجاجاً على استخدام أنظمة التسليح التي نشتريها لإسرائيل.) تكمن إن المشكلة الحقيقية في فرض رقابة على منتقدي إسرائيل تكمن في أن ذلك يسهل على حكومة إسرائيل الاستمرار في ذبح المحتجين وإبقاء الحصار الذي تقول الأمم المتحدة إنه ينتهك حقوق الإنسان الأساسية ومبادئ القانون الدولي ويرقى إلى كونه عقاباً جماعياً. ففي عام 2018، أطلق القناصة الإسرائيليون الرصاص على مئات الفلسطينيين بما في ذلك الأطفال والمسعفين في احتجاجات مسيرة العودة الكبرى. وبحسب ما ورد في موقع ميدل إيست مونيتور، في يوم واحد هو الرابع عشر من مايو / أيار، قتل الجيش الإسرائيلي سبعة أطفال بينما أصيب بطلقات الرصاص الحي ما يزيد عن ألف متظاهر، إلا أن إسرائيل لم تساءل أو تحاسب على ذلك، بينما استمرت الولايات المتحدة في تزويدها بالسلاح.
مع ذلك أرجو أن نتمكن من رؤية كيف بالضبط يتم كتم أصوات منتقدي إسرائيل. إذا نطقت بما يعتبرونه مرفوضاً فإنك تخسر وظيفتك. ولا تتاح لك فرصة ثانية. ثم تشوه سمعتك وتوصم بأنك معاد للسامية، وتختفي وظيفتك بين عشية وضحاها. ولهذا السبب تتمكن إسرائيل من الاستمرار في الإفلات من المساءلة على جرائمها المريعة. إذا تحدثت بأمانة وصراحة عن الحقائق فإنك تجازف بالتعرض للقمع السريع بينما تستمر انتهاكات حقوق الإنسان ويستمر منتهكوها في التمتع بحصانة من المساءلة. إذن، عندما يستهدف القناصة الإسرائيليون أطفال فلسطين فإن صحيفة الغارديان تتواطأ معهم.