فور وصوله إلى البيت الأبيض وقع الرئيس الأمريكي جو
بايدن أمرا تنفيذيا بالعودة لاتفاقية باريس للمناخ؛ إلى جانب إصداره أوامر تنفيذية تلغي قرارات الرئيس السابق ترمب الجائرة بحظر تأشيرات السفر لعدد من مواطني الدول أغلبها إسلامية وعربية إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
قرارات بايدن المتعلقة باتفاقية المناخ وتأشيرات السفر كانت سريعة ومتوقعة، غير أن الإعلان عن التمديد لمعاهدة ستارت 3 (معاهدة نزع الأسلحة الاستراتيجية الهجومية) كان استثنائيا يستحق التوقف والتأمل من حيث الزمان والأطراف المشاركة فيه،
روسيا وأمريكا، فضلا عن تداعياته الاستراتيجية على الصين والقوى الإقليمية المنخرطة في شراكات مع موسكو.
فالإعلان عن تبادل مذكرة التفاهم الدبلوماسية لمعاهدة ستارت 3 بين البلدين جاء بعد ساعات من استدعاء الخارجية الروسية للسفير الأمريكي في موسكو جون ساليفان، احتجاجا على الانتقادات الأمريكية لعمليات قمع السلطات الروسية للتظاهرات التي أقبت اعتقال المعارض الروسي اليكسي نافالني في موسكو.
فالتوتر والمواجهة الدبلوماسية والإعلامية بين موسكو وواشنطن لم تمنع من تمديد معاهدة ستارت 3، ولم تمنع إجراء محادثات هاتفية مباشرة تعد الأولى من نوعها بين الرئيس الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين والرئيس الأمريكي جو بايدن الثلاثاء (26 كانون الثاني/ يناير الحالي)؛ محادثات لم تخل من إشارات أمريكية واضحة لملف المعارض الروسي نفاليني وإمكانية تفعيل قانون المعارض ماغنيتسكي الذي تمت تصفيته قبل سنوات لمعاقبة روسيا، أو الملف الأوكراني، الأمر الذي تقبله بوتين على غير عادته بالتركيز على الملفات الاستراتيجية المشتركة، وعلى رأسها ملف الانسحاب الأمريكي من اتفاقية السماوات المفتوحة والملف الأوكراني وملف الاتفاق النووي الايراني، ودعوة روسيا لعقد قمة للدول دائمة العضوية في مجلس الامن.
الرئيس الروسي كان مبادرا، إذ تضمن الاتصال تهنئة للرئيس الأمريكي بايدن بتوليه مهام الرئاسة؛ متجاوزا الحواجز النفسية مع الإدارة الجديدة، ومستفيدا من تبادل مذكرات الاتفاق الاستراتيجي ستارت 3، ليتبعها نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف بمقترح جديد بهدف إلى التوصل لمعادلة أمنية دولية جديدة، تشمل جميع الأسلحة الهجومية والدفاعية، النووية وغير النووية، لتشمل منظومة صواريخ "أفانغارد" الفرط صوتية ومنظومات الدفاع الصاروخي؛ مبادرة تهدف لتشجيع واشنطن على الانفتاح على موسكو لبناء الشراكات وتخفيض التوتر، وتجاوز النزعة الانتقامية للإدارة الحالية على أمل تدعيم التيار المعتدل في إدارة بايدن.
فمجلس الدوما الروسي (البرلمان الروسي) وبعد ساعات قليلة من محادثات الرئيسين (بوتين وبايدن) سارع للمصادقة على تمديد اتفاق ستارت 3 لمدة خمسة أعوام؛ مقدما بذلك رسائل قوية لإمكانية التعاون بين موسكو وواشنطن في العديد من الملفات الدولية؛ بتقديم المبادرات في الملف الإيراني والكوري الشمالي، والأهم توسيع اتفاق ستارت 3 ليشمل الأسلحة الدفاعية التي لعبت دورا في رفع مستوى التوتر بين العملاقين النوويين، بنشر منظومات الدفاع الجوي والصاروخي الأمريكية بالقرب من الحدود الروسية مقابل تطوير روسيا لمنظومة أفنغارد ونشر منظومات إس 400 و500 في عدد كبير من الدول، فضلا عن تطوير روسيا لمنظومتها الخاصة.
الأفق بات واعدا للتعاون والتفاهم بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، خصوصا وأن أمريكا تجد في بكين التهديد الأساس لنفوذها ومكانتها العالمية بفعل التطور الاقتصادي والتكنولوجي الخارج عن السيطرة. فقدرة موسكو وواشنطن على التفاهم تخدم مصالح البلدين؛ إذ ستمكن واشنطن من توظيفها للضغط على بكين من خلال التهديد بعزلها دوليا، في حين أن موسكو تجد في التقارب مع واشنطن فرصة للعب دور الوسيط بين واشنطن وبكين في العديد من الملفات، ومن ضمنها إمكانية إقناع بكين الانضمام إلى معاهدة ستارت 3 للحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية؛ أمر ترفضه بكين لتواضع حجم ترسانتها النووية قياسا بالروسية والأمريكية.
موسكو كانت الطرف المبادر على الأرجح في الانفتاح على واشنطن والإدارة الأمريكية الجديدة متجاوزة أزمة المعاض نافالني والملف الأوكراني. فروسيا تسعى لاحتواء أزماتها الداخلية وتخفيض التوتر مع واشنطن وتقديم نفسها كطرف مبادر ووسيط دولي مقبول لكل من واشنطن وإيران وواشنطن وبكين؛ أمر لن تنجح موسكو في تحقيقه على الأرجح في الملفات كافة، خصوصا أنها خطوة لن تُشعر بكين بالراحة تجاه موسكو التي جمعتها معها شراكات اقتصادية واتفاقات تعاون مهمة خلال الأشهر الأخيرة من حكم الرئيس ترامب.
ختاما، يصعب تقدير تأثير الخطوة الروسية المبادرة لتمديد معاهدة ستارت 3 والانفتاح السريع على الإدارة الجديدة على سلوك الإدارة الأمريكية تجاه روسيا، كما يصعب التأكد من إمكانية إحداث اختراقات في الملفات الإقليمية الحساسة كأوكرانيا وسوريا وإيران؛ غير أنه من المؤكد أن روسيا تعاني من هاجس نقل المعركة إلى أراضيها عبر القوى المعارضة والثورات الملونة وقانون ماغنيتسكي؛ أمر سيبقي بوتين في حالة استنفار تام في حقبة بايدن. فحقوق الإنسان وملف المعارضة الأكثر حساسية والأكثر تأثيرا من وجهة نظر بوتين على مسار
العلاقات الأمريكية الروسية وتطورها خلال حقبة الرئيس بايدن؛ ملف لا يقل خطورة وتهديدا عن ملف نشر منظومة الدفاع الصاروخي الأمريكية بالقرب من حدود روسيا في دول الحزام الأوراسي وشرق أوروبا ودول البلطيق.
twitter.com/hma36