مدونات

ليس مطلوبا منك أكثر

آلاء فاعور- كاتبة فلسطينية
آلاء فاعور- كاتبة فلسطينية
النأي بالنفس عن راحة القطيع ومواجهة العبودية الفكرية التي بدورها تقود إلى تبعية عمياء، ومجانبة النقاشات الجدالية والاتسام بالحكمة، هي الامتثال والتجسيد الأجدى لرسالة الفرد في الحياة، في زمان ومكان يعيش فيه الإنسان سجينا منذ المهد.

فالقناعة، تتسم بالعديد من المعاني والتعريفات، فوفقا لقاموس "أكسفورد" تعرف بأنها حالة من السعادة والرضى، أما بالنسبة لقاموس "علم النفس" فهي توصف بأنها إحدى الظواهر النفسية القيمة. فهي بحد ذاتها شعور قوي بـ"الرضى" نابع من الذات يتشكل نتيجة اندفاعات الأفراد وتجاربهم، ولا يُنتظر مثير خارجي معين ليشكل استجابة تؤثر بسلوك الأفراد وتوجهاتهم، والقناعة بدورها تعكس الاكتفاء الذاتي للفرد.

إلا أن واقع مجتمعنا العربي في الغالب مغاير لهذه الحقيقة، فالفرد فينا عبد للمجتمع بجزئياته منذ لحظة الميلاد الأولى، حيث يقرر المجتمع فيها اسمك ونسبك ودينك وحتى انتماءك السياسي والفكري.

فتنمو أجيال وتشب بناء على رغبات وتوجهات المجتمع العام وقيمه، وبهذا تغدو المواريث المجتمعية تربة خصبة لزرع بذرة الخنوع في نفوس ووعي أجيال متتالية من الشباب، فينمو الفرد فينا متشربا لصفات وسمات مجتمعه العام، من خلال مروره بدورة التلقين المستمرة ابتداء من كينونة النمو الأولى (الأسرة والمدرسة)، وانتهاء بـ"الدستور الاجتماعي المتوارث" بين الأجيال. فتغدو التجربة الشخصية للفرد لا قيمة لها هنا وإن برزت، فـاجتثاث القيمة الفردية وتخدير الوعي الذاتي ينتج الملايين من العقول المتشابهة، التي تتخذ من الواقع الجمعي مصدرا ومرجعا لمسيرة الحياة، وبهذا تخمد نيران التجربة الفردية قبل أن توقد، وهكذا تقترب مجتمعاتنا للرجعية منها للتطور. فتحوير مفهوم القناعة من قبول إلى خنوع يترتب عليه فقدان الهوية الذاتية للأجيال الشابة، فما نعيشه اليوم سنعيشه غدا، وما سنمر به في الغد مرت به أجيال من قبلنا.

وهذا ما يطلق عليه مفهوم القناعة الزائفة، في وقت تجد نفسك تعيش تجارب مرسومة من قبل الموروث الاجتماعي، لتحصل بالنهاية على نتائج مضمونة ومقبولة على الصعيد العام، فأنت حي بجسدك، ولكن أنت تحيا بأفكار وقناعات من سبقوك.

بيد أن حقيقة الخلق متنافية مع النمطية السائدة، فذاتك لم تخلق لتحقق رغبات الناس والمجتمع بدلا من خلق تجاربك الشخصية وأداء رسالتك الحقيقة في الحياة.

لا تطفئ نواة الخلق في عمرك، بل عليك تبني حالة من الاستقلالية، التي سترقى بك إلى غمار تجارب حقيقة أكثر، فالتخلي عن الذات الفردية وتبني الذات المجتمعية منطق أناني بحت. فـالتناسخ مصيره الانهيار، وإذا كان الأساس هشا فالسقوط ليس إلا مسألة وقت، وهذا ما نراه في العديد من النماذج العربية، كضياع الهوية السورية ومثيلاتها.

فبدلا من تبني معتقدات الواقع الجمعي، اصنع معتقدك الخاص، وبدلا من الاستناد إلى توجهات القطيع، كوّن توجهك الشخصي، فإبراز القيمة الفردية واستقلاليتها سيمد المجتمع بعضد معين وقت الشدة.

المطلوب منا الآن، ليس الانسلاخ والتمرد على المجتمع، بل حمله إلى مرفأ أكثر أمانا؛ بغية الانطلاق إلى برٍ جديد أكثر واقعية وانفتاحا، وأكثر تقديرا للفرد وكينونته.

ولحمل هذه الرسالة، يفترض بنا أن نغير من صيغة السؤال الأبرز والأكثر طرحا في حياة كلٍ منا: "من هو قدوتك؟ أو من هو مثلك الأعلى في الحياة؟" إلى "كيف تكون قدوة نفسك؟"، هذا التغيير البسيط في صيغة السؤال، سيفتح أمامك آفاقا لا متناهية لتكوين إجابة جديدة، هي أجلّ فائدة وأجود قيمة.

فبدل تشرب أفكار وقيم الآخرين التي كانت تتناسب مع نمط حياتهم والظروف المحيطة بهم، ابدأ بصنع فكرك الخاص ومهد الطريق لتكون قدوة نفسك، فكر بالآخرين كمصدر يمكن الاستفادة منه لا منبت لفكرك الخاص، وبهذا نبدأ بكسر حلقة التناسخ.

فكر كشجرة لا كبذرة، فخارج حدود المألوف والمتوارث تبدأ باكتشاف من أنت، وهذا غيض من فيض.


* روائية فلسطينية مقيمة في تركيا
التعليقات (1)
يوسف السويطي
الإثنين، 25-01-2021 02:22 م
ما شاء الله كلام جميل الله يوفقك