في خبرٍ تصدّر وسائل الإعلام الهولندية الجمعة، أعلنَ رئيس الوزراء الهولندي مارك روته استقالة حكومته بالكامل، حيث ذهب على دراجته الهوائية ليقدّم ورقة الاستقالة إلى الملك الهولندي وليام ألكسندر، الأمر الذي أحدَث ضجّة إعلامية عارمة رغم أنّ هذه الاستقالة كانت متوقعة جدا، حيث ارتفع سقف التوقعات ليلة أمس الخميس، بعد اجتماع سابق لأحزاب الوسط واليمين الأربعة الحاكمة في هولندا، ناقشت خلاله احتمالات الاستقالة من عدمِها، في حين ذكرَ الكثيرون من المحللين أنّ توقعات استقالة حكومة مارك روته باتت جدُّ وشيكة، ولهذا لا بد من التعامل مع التساؤل التالي: ما الأسباب التي جعلت من هذه الاستقالة خبرا ذا اهتمام بالغ لدى الجميع رغم سقف توقعاته المرتفع؟
أولا: دوافع الاستقالة هي التي دفعت المتابعين إلى تتبّع مجرياتها لحظة بلحظة، فرئيس الوزراء الهولندي مارك روته هو الأطول ولاية في الاتحاد الأوروبي، إذ إنه قد ترأّس ثلاث حكومات خلال عشر سنوات، وكان من المقرر أن يرشح نفسه لولاية رابعة، لكنّ الرياح جرت بما لم تشتهِ السفن هذه المرّة، حيث تُتّهم الحكومة بأنها أساءت الإدارة في ما يتعلق بقضية بدل رعاية الأطفال، حيث لاحقت مصلحة الضرائب في هولندا العديد من العائلات واتهمتها بالاحتيال في ما يخص هذه القضية، وطالبتهم بإعادة مبالغ كبيرة جدا، ترتّبت عليهم طيلة الفترة الزمنية الواقعة بين 2013 و2019، مما أدى إلى تضرر العديد من العائلات التي فاقَ تعدادُها 26 ألفا.
وقد تكشّف فيما بعد أنّ غالبية هذه العائلات من أصول مهاجرة، مما أحدث حرجا حكوميا أمام البرلمان الهولندي، الذي تابعَ هذه القضية بدعمٍ واضح من الأحزاب المعارضة في هولندا، وكأنّ هناك إشارات ما تأخذنا نحو دهاليز العنصرية، التي باتت واضحة في العديد من المناسبات رغم صرامة القانون الهولندي، ووعيده لكل من يثبت تعامله مع الآخرين على أساس الدين أو العرق أو اللون أو الثقافة، ولهذا وجدت الحكومة الهولندية نفسها في مأزق كبير، دفعها فورا إلى ما آلت إليه أوضاعها الآن.
ثانيا: أثبتت هذه الاستقالة مصداقية العائلات المهاجرة التي كانت تنادي بالفم الملآن لرفع المظلومية المالية عنها على مدار سبع سنوات مضت، وذلك بعد أن تضررت وأُرهِقَت ماديا بفعل الملاحقة الصارمة والحازمة التي انتهجتها مصلحة الضرائب لاسترداد بدل رعاية الأطفال، كما أثبتت مدى الحسم الذي تعاملت به في أثناء إنفاذِها للقانون آنذاك، حيث إنها لم تأخذ بعين الاعتبار رؤيتها أرباب هذه العائلات وهم يغرقون رويدا رويدا في الديون والأقساط المرهقة، بعدما أثّر ذلك على طبيعة العلاقة الزوجية التي تحكم الأسرة برمّتها. وقد اضطر الكثيرون إلى بيع أثاث منزلهم لسداد الديون دون أن يجدوا أذنًا صاغية تُنصِت لمعاناتهم. ورغم أنّ الحكومة بعد جلاء ملابسات هذه القضية وتبيان الحقيقة قدّمت اعتذارها وحاولت أن تتدارك هذه المشكلة الكبيرة، وقدّمت تعويضات للعائلات المتضررة، إلا أنّ ذلك لم يشفع لها، فوجدت نفسها اليوم أمام خاتَم الاستقالة الذي باغتها من حيث لا تحتسب.
ثالثا؛ إنّ توقيت هذه الاستقالة هو الأكثر لفتا للانتباه في هذا الصدد، فالبلد غارقٌ في ِتَبِعات وباء كورونا كسائرِ بلادِ الله الواسعة، وهو في حالةِ إغلاقٍ شبه تام، وفي طريقه للإغلاق التام وفرض الحظر المسائي تجنّبا لارتفاع عدد الإصابات، كما أنه مقبلٌ على مرحلة التطعيم واللقاحات، ومن ثم ليس باستطاعته أن يتحمل وزر هذه الاستقالة كما رأى مراقبون. لكنّ الملك الهولندي أمرَ بمواصلة الحكومة أعمالها المتعلقة بمواجهة الوباء؛ تجنّبا للوقوع في الفوضى التي لا يُحسَد عليها بلدٌ أوروبيّ كهولندا، ذات الثقل القانوني.
كذلك، فإنّ هولندا على موعد قريب مع الانتخابات البرلمانية التي سيشهدها شهر آذار/ مارس المقبل، حيث شرعت الأحزاب الهولندية بالإعلان عن برامجها الانتخابية التي اتسمت بالجرأة اللامسبوقة واللامعهودة، والمنافسة المحتدمة بين الأحزاب الداعمة للمهاجرين كحزب Denk الذي ينتمي إليه عضو البرلمان الهولندي تونهان كوزو، المعروف بمناصرته ملف المهاجرين والقضية الفلسطينية، وحزب الحرية الذي يتزعمه خيرت فيلدرز ذو الخلفية المناهضة تماما للإسلام وملف اللجوء، ومن ثم فإنّ هذه الاستقالة ربما تحرج السياسيين الهولنديين، الذي راحوا يتساءلون عن الأسماء المتوقعة التي ستكون ضمن تشكيلة الحكومة الجديدة، لا سيما أنّ وزير الشؤون الاجتماعية الذي كان على رأس الوزارة وقت الاتهام الباطل، أكّدَ أنه لن يخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة.
وفي ظل الفراغ الجزئي الذي تشهده حكومة هولندا قبيل انتخاباتها بأسابيع، تُرَى هل ستجري الانتخابات على النحو الذي كان متوقّعا قبل الاستقالة؟ أم إنّ هناك مستجداتٍ ستطرأ عليها، أو ربما ستطرأ على طريقة تعاطي مملكة الزهور مع جائحة كورونا؟!!