هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بدأت "الانتكاسة" التي لحقت بفواعل الحراك الشعبي الجزائري ومخرجاته، بعد إعادة النظام في الجزائر تشكيل نفسه، وبعد تشتت الحراك نتيجة الانقسامات الأيديولوجية وغلبة الشعارات، على الرؤية المنهجية الواضحة، بدأت تدفع في أوساط الحراكيين بجميع تنوعاتهم وتياراتهم، إلى الحديث عن إمكانية طرح "مراجعات فكرية" لتفادي أخطاء سنتين كاملتين من الصراع الداخلي (الحراكي/ الحراكي)، قبل صراع الحراك مع مخلفات نظام بوتفليقة نفسه.
ورغم أن الحراك الجزائري الذي اندلع في 22 شباط (فبراير) 2019، أظهر أشكالا مبدعة في النضال والصمود، إلا أن نقطة الضعف الرئيسية كانت في غياب النخبة عن توجيه الجماهير الثائرة، وندرة في إنتاج الأفكار لمواجهة منظومة حكم متمرسة في "أدلجة" الصراعات البينية داخل مربعات متناحرة وسط الحراك، وهو ما مكن النظام في مرحلة متقدمة من استغلال التناقضات الهوياتية بين العرب والبربر، أو بين النوفمبريين (الذين يحتكمون إلى مرجعية بيان أول نوفمبر 1954 للثورة التحريرية بروحها العربي الاسلامي)، وبين الصوماميين (الذين يحتكمون لمرجعية مؤتمر الصومام 1956 الذي كان بمسحة علمانية)، كما استغل في مرحلة متأخرة وأعاد إحياء الصراع القديم والأزلي من زمن التسعينات بين الاسلاميين والعلمانيين (الاستئصاليين).
ومع ذلك يعتقد الكثيرون في الجزائر، أن أخطر الاختراقات التي تعرض لها الحراك الجزائري، كانت اختراقات ذاتية من داخله، قبل أن تكون خارجية من أجهزة النظام، وقد سهل ذلك عاملين رئيسيين هما أن الحراك الجزائري كان كتلة بشرية ضخمة بلا رأس، أي بلا قيادة، علاوة على تشتت الشعارات والرايات، وهو ما أشار إليه بوضوح المفكر الجزائري مالك بن نبي في (فلسفة الثورة)، حين حدد قبل عقود من الآن أن من شروط نجاح الثورة هي: وحدة القيادة + وحدة الشعار.
صحيح أن ما يطرح لحد الآن من نقاشات جانبية جراء "النكسة" الحاصلة، وضمن دوائر وسائط مواقع التواصل الاجتماعي في الغالب، لا يرقى إلى مصطلح "مراجعات فكرية"، إلا أن طرح الأسئلة المستفزة على فواعل الحراك المتوثب للرجوع إلى الشارع، من شأنه تحريك المياه الراكدة.. لعل أفقا جديدا ينبعث بين ركام اليأس والإحباط التي يراد اليوم تسويقها بشكل واسع، من أجل تدمير جميع مقومات المقاومة الممكنة داخل الشعب.
"الأدلجة" وأعطاب النُخب
يرى الأستاذ التهامي مجوري، قيادي سابق في جمعية العلماء المسلمين الجزائرية، ومؤلف كتاب "من قلب الحراك"، أن الحراك ليس وحده بحاجة إلى مراجعات فكرية، وإنما الساحة السياسية كلها في حاجة إلى مراجعات فكرية عميقة، سواء في منظومة الحكم التي لا تزال تعالج قضاياها بمنطق التوازنات الجهوية و"العصبية" واللوبيات النافذة، متجاهلة أو غافلة عن التغييرات الجذرية التي يشهدها العالم اليوم ومنذ نهاية الحرب الباردة، أو في ساحات المجتمع الواسعة ـ أحزاب، شخصيات جمعيات... ـ التي كانت لا تزال تمارس السياسة بمنطق "النضال المبرمج"، تعارض وتوالي وفق ما يريد النظام، بحيث لا نلمس ولا أشعر شخصيا أن هناك مشروعا أو برنامجا سياسيا ناضجا يمكن أن يكون بديلا للنظام القائم.
فالساحة السياسية الجزائرية، برأي التهامي مجوري، استنفذت المخزون النضالي الذي بنته الحركة الوطنية بانتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) 1988 والتجاوب الجزئي الترقيعي الذي قام به النظام بدستور فبراير 1989 الذي كان أقل الدساتير سوءا في تاريخ الجزائر المستقلة، ولم يحدث أي تجديد للساحة السياسية إلا شكليا، كخروج المعارضة من السرية إلى العلنية، وظهور النظام الأحادي في شكل تعددي.. أما جوهر المسألة السياسية فلم يمس.. وبقينا في ترقب سلبي تتبادل فيه العصب الأدوار التي يريدها النظام.
ويضيف: "أما بالنسبة للحراك فقد كان فرصة ذهبية للإصلاح ولكن جوهره ضاع بسبب تخلف النخبة عن متطلبات المرحلة. ولقد عجبت من هذه النخبة التي كانت في معظمها تعتقد ان الشعب تجاوزها وكان انضج منها... بئس التصور والاعتقاد".
ويشرح الاستاذ التهامي مجوري لـ "عربي21"، طبيعة النخب الجزائرية حاليا، معتبرا أنها بكل أسف صنفان:
1 ـ صنف استئصالي مضاد لثوابت الأمة وولاؤه للغرب أكثر من ولائه للشعب الجزائري، ومستعد للتضحية بالشعب من أجل تجسيد قناعاته، وأحداث التسعينيات أكبر شاهد.. وهذا التيار أستبعد ألا يكون له تشريحا لهذا الحراك، والدليل على ذلك ان الحراك نفسه لم يكن بريئا من شعاراته إلا في الأربعة أشهر الأولى، بسبب اختراقه من هذه الفئة النشطة الفاعلة.
2 ـ وصنف آخر مع الثوابت لكنه لا يعبأ كثيرا بأهمية الدراسات وتشريح الأحداث وكأنه يريد أن يستغني عنها بشرعيته وصدقه وإخلاصه... ومن كان هذا شأنه لا يصنع منه الحراك شيئا؛ لأن الحراك الشعبي هو عبارة عن فرصة لظهور قيادات سياسية جديدة وإعلاميين جدد ومحللين جدد، وهؤلاء إما أنهم موجودين في داخل المجتمع ولكنهم يعيشون القمع داخل المؤسسات التي ينتمون إليها وإما أنهم خاضعون طوعا لآلية "البرمجة" ومن ثم فهم خدم في المقاولة السياسية.
ومع ذلك يعبر التهامي مجوري عن إيمانه بوجود "مضغة" في طور التشكل ستفرزها الصراعات الواقعة الآن في هرم السلطة أو طبقات المجتمع المتنوعة؛ لان الطبيعة تأبى هذا الفراغ الذي تعيشه الجزائر اليوم وبالضبط خلال هاتين السنتي الأخيرتين.
إن تخلف النخبة عند التهامي مجوري هو سبب كل تخلف في المجتمعات، وليس سببا في إجهاض العملية الإصلاحية في بلادنا فحسب. فعندما أرى الشعب يتبرأ من قياداته السياسية والثقافية ويفضل عدم ظهورها في صفوفه! وعندما أرى النخب تعتقد أن الشعب تجاوزها في نضجه أو تفضل عدم الظهور في الحراك حرصا على الطابع الشعبي للحراك !
عندما نلاحظ ذلك نجزم أن هناك خللا في النخبة، مهما كانت المبررات، سواء كانت بغرض حماية الحراك من استغلال التيارات له، أو بحجة عدم ثقة الشعب في القيادات السياسية التي لم تستطع فعل شيء... أو أي سبب آخر؛ لأن وظيفة النخبة في جميع المجتمعات هي النهوض بالمجتمع وهي المسؤول رقم واحد عن صلاحه وفساده، سواء كانت هذه النخبة في السلطة أو في المعارضة أو إطارات مستقلة، وبالطبيعة فإن الشعوب تنقاد لمن يخدمها...
والشعب الجزائري عندما خرج في الحراك، قام بما عليه ولا ينتظر منه أكثر من ذلك، فرفع شعاراته وقدم مطالبه وأعلن عن أصله وفصله... وكان من المنتظر أن تحول النخبة هذه المطالب الشعبية إلى برامج ومشاريع إصلاح، ولكن ذلك لم يقع بالصورة اللازمة، وإنما الذي وقع هو خضوع النخبة لبرنامج "ما يطلبه المستمعون"، وهنا كان للأدلجة دورها، فظهرت النخبة متصارعة ومتعاركة على أوهام عافها الزمن... ومن ذلك جذور الصراع القديمة التي وظفها التيار الاستئصالي لصالحه ولم ينتبه التيار الوطني لترتيب أولوياته في هذا الظرف الحساس.
ويخلص التهامي مجوري إلى حقيقة أن الصراع الأيديولوجي الذي ظهر في الحراك الجزائري، لم يظهر بصورته الطبيعية التي كان عليها، حزب فرنسا مقابل التيار الوطني، أو بصورة أخرى صراع بين التيار الحواري والتيار الاستئصالي.. أو التيار الاسلامي والتيار العلماني، أو التيار المحافظ والتيار الحداثي؛ بل ظهر بصورة أخطر أكثر عمقا، حيث أصبح يعرض على أنه صراع بين العسكري والمدني، واللاشرعي والشرعي، والسلطوي والشعبي، بحيث تعقدت الأمور.
الحراك انتفاضة كرامة وليس حركة فكرية
ويعتقد الكاتب والمحلل السياسي الجزائري المقيم في دبي، الصغير سلام، أنه من المجانبة للحقيقة أن نطلق صفة حركة فكرية على الحراك الجزائري، فهو انتفاضة مبتسمة لم تجنح إلى العنف من خلال شعور جمعي قرأ جيدا إخفاقات "الربيع العربي" .
ويوضح الصغير سلام في حديثه لـ "عربي21"، أنه: "من خلال رؤية متجردة أعتمدها في دراسة حركات الاحتجاج في الوطن العربي في موجتها الثانية التي اندلعت نهاية العشرية المنقضية ومنها انتفاضة الابتسامة بالجزائر فإن القاسم المشترك بينها أنها تحمل مضمونا مطلبيا و ليس ثوريا و حتى في أقصى درجات الشعارات هناك مطلب رئيسي هو "يتنحاو قاع أي "يتنحوا جميعهم" .
وما يحسب للحراك الجزائري –برأيه- أنه بدون رأس(قيادة) سياسية تبيعه عند أول منعطف، وبالتالي فإن الحراك عندي قد أدى دوره بامتياز و خلع الضرس المسوس في رأس النظام (الرئيس المتنحي عبد العزيز بوتفليقة).
ويعتقد الصغير سلام أن الحراك الشعبي في الجزائر انتفاضة كرامة و استفاقة شعب سلب حقه الدستوري في اختيار حكامه و ليس حركة فكرية حتى يطالب بإحداث مراجعات. ولنلاحظ أنه لما توقفت المظاهرات بفعل جائحة كورونا عاد الطالب الى جامعته و البطال الى "حائطه " و الحزبي الى حزبه بمختلف التيارات الحزبية. إن الحراك هو حركة كالسيل أنهت مهمتها بعد أن قادها جمهور الملاعب الكروية و البطالين و نشطاء الفيسبوك و الصحفيين المستقلين و صغار التجار و الطلبة فيما كان المثقفون و المفكرون و السياسيون التقليديون يحلمون ان يحقق "الحراك المبارك " فرصا جديدة للتموقع مع السلطة الجديدة القديمة.
وحول غياب المنتج الفكري للحراك، وكذا غياب التنظير والدراسات الأكاديمية التي تواكب هذه الحركة الجماهيرية الكبيرة، أرجع الصغير سلام ذلك لكون الحراك ليس حركة فكرية فالمفكر ليس انتاجا ظرفيا مثل الرغيف الساخن انما المفكر كائن تراكمي لمواقف و خبرات..للحراك وجوه و ليس له قادة و حتى الوجوه الحراكية تم التعامل معها من طرف السلطة بالعصا الامنية و المنجل القضائي ووجدت بعض الوجوه الحراكية نفسها في نفس السجون التي كان للحراك فضل إنزالهم من عرش السلطة.
أي أن الحراك الجزائري خانته النخب بالتخوين و السلطة التي افتقدت للابداع فوتت فرصة ذهبية في منعطف تاريخي لتحقيق الاقلاع النهضوي و الخروج من دولة الفرد و العصبة الى دولة المؤسسات والسيادة الشعبية.
ويخلص الصغير سلام إلى أن الحراك الشعبي لما اندلع في 22 فبراير فاجأ النخب الفكرية إن وجدت كما فاجأ السلطة، ومثلما ثارت انتفاضة الابتسامة على سلطة سيطر عليها رجال المال الفاسد وحلفاؤهم انتفضت ضد النخب الانتهازية والجبانة التي تربطها علاقة زبائنية بالعصابة الحاكمة آنذاك، فهي تقتات من الريع اما المثقف المستقل فلا يملك ادوات التغيير و لا حتى منابر لتسويق خطابه. لقد أثبت الحراك الشعبي أنه انتفض ضد سلطة عقيمة و نخب مستقيلة و ايديولوجيات منفصلة عن الواقع.
دور مشروع الوصاية الفرنسية
ويعتقد الناشط السياسي أحمد قايد محمد الشريف، أن المعركة الوجودية القائمة في الجزائر، هي بين مشروع الوصاية الفرنسية وحزب فرنسا في مواجهة المشروع الوطني على أرضية بيان الفاتح نوفمبر 54، والذي لم يكن يوما موجودا، وإن تمثل في أفراد عبر العقود التي مرت على الجزائر بعد 62. ومن خلال هذه التوطئة يمكن أن نلج إلى قراءة سليمة للحراك، والقيام بمراجعات فكرية عميقة لمساره.
ويشرح أحمد قايد محمد الشريف لـ "عربي21"، أسباب عدم قدرة الحراك على انتاج محاور جامعة يلتف حولها الحراكيون، تتسم بمواصفات قيادية، أو فكرية، أو سياسية في ما يلي:
1 ـ اليأس من التغيير، وانعدام الثقة في مؤسسة الجيش، وتجربة التسعينات.
2 ـ غياب التصور الصحيح وفهم ما يجري.
3 ـ غياب التوافق بين أصحاب المشروع الوطني في ما يخص المعضلة الجزائرية.
4 ـ إفلاس الطبقة السياسية، والتي كانت كلها صنيعة المخابر الأمنية منذ تأسست التعددية السياسية في الجزائر، مما جعل هذه الأحزاب في عجز تام من الإنخراط في تأطير الحراك وتفعيله إيجابيا وتوجيهه الوجهة الصحيحة، وجعل النخبة تقوده والجماهير تحميه.
5 ـ التطلعات الشخصية والحظوظ النفسية طغت على كثير من النخبة جعلها عاجزة على أن تصنع البدائل وتكون المحاور الجامعة.
6 ـ غياب وسائل إعلامية بمستوى قناة تلفزيونية أو جريدة ورقية، كذلك الإتصال المباشر بين النخبة والجماهير من خلال تجمعات وندوات ومحاضرات، سهل عملية الإستقطاب والإحتواء الذي أدى إلى الإنقسام داخل الكتلة الوطنية.
ورغم أن أحمد قايد محمد الشريف، يقر بأن النخبة الجزائرية مؤدلجة بصفة عامة، وإن لم تكن منخرطة تنظيميا، ومنتمية فكريا، إلا أنها لم تستوعب حقيقة الصراع القائم في الجزائر، مما جعلها عاجزة على قيادة الحراك، وإدارة المعركة.
ويخلص: إنه لا يمكن لنخبة ترى إمكانية التحالف مع اتجاهات سياسية تقوم على فكر عنصري انفصالي عرقي، معادية لثوابت الأمة وهويتها، أن تعرض نفسها لقيادة الجماهير أو تأطيرها، حتى وإن كان الحراك قد أعطى في كثير من الأحيان نخب حراكية مستوعبة للصراع، ومدركة للمؤامرات، ولها تشخيص صحيح للمعضلة الجزائرية.
الحاجة إلى مراجعات عميقة
من جهته يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، توفيق بوقعدة، أن الحركات السياسية المناهضة للاستبداد والتسلط في جوهرها فعل سياسي واع وتراكمي، وهي معبرة في الأساس عن مجمل التناقضات التي تكتنف الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولذلك فهي بحاجة مستمرة للمراجعة، وفق ما يستجد من تغييرات وممارسات على المستوى الشعبي الثوري او على مستوى السلطة المقاومة لكل اشكال التحول الذي ينشده الحراك الشعبي، ولذلك فلا يمكن أن يحقق اي حراك أهدافه اذا غاب ذلك الوعي بطبيعة المرحلة وإكراهاتها، ولذلك فإنه من اللازم لاستكمال أهداف الحراك في الجزائر المرور ناحية المراجعات التي باتت مسألة ملحة وضرورية.
إن غياب الوعي السياسي للحراك يضيف توفيق بوقعدة، وبقائه في مستوى الشعارات الرديكالية التي لم تكن لجموع المحتجين اي ادوات لترجمتها على أرض الواقع، شعارات اغلقت اي مبادرة من اي جهة لأجل جعل عملية التغيير ممكنة دون الوقوع في فخ الفراغ المؤسساتي أو المرحلية في تحقيق تلك الشعارات ـ المطالب، مما خلق ديكتاتورية جديدة باسم الشارع تقارع تسلط السلطة وتمسكها بخياراتها.
كما أن هيمنة بعض التيارات الرديكالية على صناعة شعارات الحراك وتوجهاته، زاد من اتساع الهوة بين جموع الحراك، وأبانت تطورات الأحداث الاختلافات الجوهرية في الكتلة الحراكية التي كانت موحدة في شعار اسقاط العهدة الخامسة، لكنها اختلفت في اسس التحول وفواعله. هذه الإختلافات استغلت من طرف السلطة من اجل التسريع في انهاء الحراك وشغله بصراعات جانبية سواء المتعلق بالهوية او بدور المؤسسة العسكرية في ترتيب مشهد ما بعد بوتفليقة.
لذلك يعتقد أستاذ العلوم السياسية توفيق بوقعدة، في ختام حديثه لـ "عربي21"، أن الحراك في المرحلة الراهنة بحاجة الى مراجعات عميقة في أهدافه والوسائل الممكنة التي تعيد هندسة الانتقال الديمقراطي الذي يتفق الجميع على ضرورة تحقيقة، وما هو مطالب من الحركات السياسية التجمع كعائلات سياسية في مرحلة أولى لضبط اولوياتها واهدافها ليتم تحقيق ندوة وفاق وطني تعمل مع السلطة وتتفاوض معها في كيفية تحقيق ذلك، وعلى النخبة الفكرية والسياسية بلورة مشاريع واقعية.
حراك "مستلب" بمضامين فضفاضة
أما الكاتب والباحث الأكاديمي سيف الإسلام صيقع، فقد نوه إلى أن ما حاول تقديمه في كتابه "حراك بلا أيديولوجيا"، هو أن الحراك لم يصل لمرحلة مراجعة فكرية عميقة، تكشف عن دوافعه وأسبابه ومستقبله ورؤيته، بل كان مستلبا من نواحي كثيرة، أهمها أنه كان لا يعي حتى نفسه كأداة تبحث عن بدائل أعمق يعرف خطوطها العريضة، بل كان يحمل مضامينا لا يدركها الا سطحيا كشعارات "دولة مدنية ليست عسكرية" وإنما الذي حدث هو صراع داخلي كشفته لنا خصوصا مواقع التواصل الاجتماعي، بين من انتخب في 12/12 وبين من قاطع، وبدل أي جدلية تأخذ الأمور لمستويات متقدمة، انحصر الأمر في التنكيت والتسخيف للآخر أنه سبب هلاك الجزائر، في ذهنية متكلسة لا تعرف حدا في رجوعها للوراء.
ويرجع الباحث سيف الاسلام صيقع فشل الحراك في انتاج منظرين بارزين، لكون التنظير البارز يكون عمل النخبة التي لا توجد كطبقة متميزة في الجزائر، بل توجد كأفراد معينين فقط، فمن هو "نخبة" قبل الحراك ينتهي رصيده وبحثه بالحصول على شهادة!
ومثل هذه "النخبة"هي بنفسها ظاهرة تخلف تحتاج للتحليل والفحص فضلا عن أن تكون هي نفسها المحلل الفاحص! ثم ما يبقى من النخبة الحقيقية، غلبته اللغة السياسية الخشبية، ولغة التاريخ وقاموس بمصطلحات مفتاحية: ضباط فرنسا، العشرية السوداء، فترة بوتفليقة، ترسيم الأمازيغية... الخ. فلم يبق أخيرا سوى عينات كتبت كتابة أكاديمية تفتش عن حلول واقعية.
ويخلص سيف الإسلام صيقع في حديثه لـ "عربي21"، إلى أن غياب نخبة أساسية كطبقة، كان سببا رئيسيا ومباشرا في فشل الحراك، من حيث عدم تأسيسهم لبدائل وبرامج مؤسسات تحل تلك المشاكل التي يعاني منها كل من المواطن والدولة، أي مشاكل المؤسسة فهي التي تجمع بين المواطن والدولة. ناهيك عن أن النخبة هي التي يكون منها التفاوض، ولو أخذ ذلك منحى السياسة، لكن جوهره يبقى تابعا لمضمونه الموقع من طرف النخب، وهذا هو الأمر تاريخيا، فعصر الأنوار الأوروبي، لم يأت إلا من أسماء مثل ديكارت وهيوم وكانط وروسو ومونتسكيو، وطبقة كاملة، ولذلك الحراك بصفته انتفاضة، لم ولن يمكنه أن ينتج شيئا إلا بمحتوى واقعي عملي مؤطر فكريا. وغياب هذا طبعا، سيسمح بأن يأخذ مكانه أي بديل بأي حال، فالطبيعة لا تعرف الفراغ، ومن هنا تكثر الشعارات والغوغاء والشعبوية، ويمكن تغيير دفة الأمور بتأثيرات بعيدة مخطط لها، ويمارس الخطاب التجهيلي بمنابره الكثيرة، الإعلامية وغير الإعلامية، نتائجه ويستغل ثورات وانتفاضات الشعوب لصالحه.