هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
اعتبر الكاتب في موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، آزاد عيسى، أن ما شهدته العاصمة الأمريكية واشنطن، الأربعاء، يظهر حقيقة الولايات المتحدة.
وفي مقاله، الذي ترجمته "عربي21"، أشار "عيسى" إلى محاولات الساسة ووسائل الإعلام القول إن مشهد توجه المئات لمحاصرة الكونغرس واقتحامه، حاملين شعارات متطرفة، لا يعبّر عن أمريكا و"قيمها"، التي لطالما تغنت بها.
وبحسبه، فإن الحدث "كان أعظم برهان على روح أمريكا".
وأوضح عيسى أن ما جرى أثبت مدى اعتقاد البيض في أمريكا بأن لهم الأفضلية، وبأنهم يتمتعون بالحماية، لدرجة أن بإمكانهم تنظيم مسيرة وهم مدججون بالسلاح، ليقتحموا الكونغرس، ويخلعوا أبوابه، ويرهبوا المسؤولين فيه.
وتاليا نص المقال كاملا، كما ترجمته "عربي21":
يوم الأربعاء، اقتحم مئات من أنصار الرئيس دونالد ترامب المباني التي تجثم فوق كابيتول هيل، حيث يوجد مقر الحكومة الأمريكية وحصن الديمقراطية الأمريكية، في محاولة لوقف التصديق على فوز جو بايدن بالرئاسة.
في طريقهم إلى الداخل حطم أفراد المليشيا المسلحة الشبابيك وعاثوا فساداً داخل مكاتب المشرعين. نجم عن الاقتحام وفاة أربعة أشخاص بمن فيهم امرأة ماتت بطلق ناري في ظروف ما زال الغموض يكتنفها، واعتقل 52 شخصاً لارتكابهم جنحاً منها حمل أسلحة غير مرخصة والقيام باقتحام غير مشروع.
خارج مباني الكابيتول هيل رفع المتظاهرون الذين حضروا للتعبير عن دعمهم لقائدهم العام أعلاماً أمريكية وكونفدرالية وإسرائيلية، وصدحوا بشعارات ورفعوا يافطات تطالب بإلغاء نتائج الانتخابات التي اعتبرها ترامب مزورة.
وأخيراً تم بعد ثلاث ساعات إنهاء المواجهة في الكابيتول هيل، ووضعت واشنطن العاصمة تحت حظر للتجول شمل المدينة بأسرها لمدة 12 ساعة.
"غير أمريكي"
بينما حظي الحدث بالعناوين الرئيسية للأخبار حول العالم، وأثار ردود فعل تراوحت بين الفزع والتندر في أوساط أولئك الذين تعودوا على تلقي المحاضرات حول الديمقراطية وسيادة القانون من السياسيين الأمريكيين، كان جل الغضب داخل الولايات المتحدة – بزعامة الرئيس المنتخب جو بايدن – يتركز حول كم كان ذلك المشهد "غير أمريكي".
كان ذلك التعبير عن الحسرة يصدر عن جميع الأطراف تقريباً داخل المؤسسة السياسية ومن داخل وسائل الإعلام وطبقة المعلقين والخبراء. كتب بن روديس، المساعد السابق للرئيس باراك أوباما: "تصوروا كيف يبدو هذا الأمر لبقية العالم." وعلق أحد مراسلي قناة إيه بي سي أثناء بث مباشر على الهواء قائلاً: "هذه ليست كابول، إنها أمريكا."
إلا أن الحدث كان أعظم برهان على روح أمريكا.
فقد أثبت، وبدون أدنى مواربة، مدى اعتقاد البيض في أمريكا بأن لهم الأفضلية، وبأنهم يتمتعون بالحماية، لدرجة أن بإمكانهم تنظيم مسيرة وهم مدججون بالسلاح، ليقتحموا مقر الحكومة، ويخلعوا أبوابها، ويرهبوا المسؤولين فيها، ثم يعاملون كما لو كانوا مواطنين منزعجين بدلاً من أن يعاملوا كمجرمين.
ورد في بعض التقارير أن الشرطة حاولت قطع الطريق عليهم ومنعهم، بما في ذلك باستخدام الغاز المسيل للدموع، بينما أشارت تقارير أخرى إلى أن الشرطة لم تبذل في سبيل ذلك من الجهد ما يكفي. وتكشف مصادر عديدة عن أن بعض عناصر الشرطة التقطوا الصور التذكارية (السلفي) مع عناصر هذه المليشيا.
اقرأ أيضا: أحرقه البريطانيون واقتحمه مؤيدو ترامب.. تعرف على الكونغرس
"أسطورة أمريكا"
كما وفر الحدث لقطة لتلك الأسطورة التي لا تموت وعنوانها "أمريكا".
في رد فعله على حادثة الأربعاء، قال الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش: "هكذا خلاف على نتائج الانتخابات ينشب في جمهورية الموز – ولكن ليس في جمهوريتنا الديمقراطية." إن لمن السخف حقاً أن يصدر عن بوش، أحد أعضاء واحدة من السلالات الأولى الحاكمة في الولايات المتحدة والذي كان مسؤولاً عن إرهاب الدولة الذي مارسته الولايات المتحدة في العراق، ما يوحي بأن الخلاف على نتائج الانتخابات "ينتمي إلى مكان آخر من العالم"، والأشد سخفاً من ذلك أن يتم تناقل تصريحه ويؤخذ على محمل الجد. من الجدير بالذكر أن الغزو الأمريكي للعراق أدى إلى وفاة ما لا يقل عن نصف مليون نسمة.
من خلال محاولاتها تفسير الأحداث الجسام التي وقعت في الكابيتول هيل، ذهبت وسائل الإعلام الأمريكية تكرر المرة تلو الأخرى عبارة "جمهورية الموز"، وهو سلوك يكشف عن كيفية تحول "فقدان الذاكرة التاريخية" إلى حالة أمريكية دائمة.
من الغريب حقاً أن يعبر أي شخص يعمل في صناعة السياسة أو في وسائل الإعلام عن شعوره بالاستهجان إزاء إمكانية أن يتعرض الكابيتول هيل للاقتحام في أمريكا، وذلك إذا ما أخذنا بالاعتبار كيف أن نفس هذه الأمريكا تدوس على هامات الناس في المجتمعات المستضعفة داخلها كل يوم.
إنها نفسها أمريكا التي رهنت نفسها لهيمنة لوبي السلاح ولوبي اليمين المسيحي ولوبي أنصار إسرائيل، وهي نفسها أمريكا التي تولد مشاعر العداء للسامية وللإسلام، الأمر الذي نجم عنه ارتفاع حاد في معدلات الجريمة داخل البلاد. وهي نفسها أمريكا التي تسمح للمؤسسات التجارية والصناعية الكبرى بالإثراء على حساب صحة الناس ومعيشتهم.
لقد قتلت جائحة كوفيد-19 تحت إدارة ترامب ما يزيد عن 357 ألف إنسان، معظمهم من أصحاب البشرة السوداء أو الداكنة، وكثير منهم كانوا من الطبقة العاملة أو من أصحاب الأيدي العاملة الأساسية – الذين طمسوا تماماً بسبب انتمائهم العرقي أو ما كانوا فيه من فقر وفاقة. وما زال من بقي خلفهم على قيد الحياة بلا ملاذ أو بصيص من أمل. لماذا إذن يعتبر محرجاً أو شنيعاً أن تقوم مجموعة ممن يؤمنون بالتفوق العنصري للبيض بتنظيم مسيرة احتجاجية ضد الحكومة، باعتبار أنهم هم الحكومة؟
والحقيقة هي أن ما حصل لم يكن محاولة انقلابية كما وصفها البعض. فهؤلاء لم يأتوا لكي يهددوا الأساس المعنوي الذي تقوم عليه أمريكا، وإنما جاؤوا لكي يحافظوا عليه. ولو أخذنا بالحسبان كل شيء، وبغض النظر عما قد يكونوا أشاعوه من رعب، فهم لم يزيدوا عن كونهم مجرد عبيد مسخرين لدى دولة التفوق العنصري للبيض ذاتها.
وإلا فلم لم يكونوا عرضة لاستخدام القوة ضدهم كما يُفعل في حالة الاحتجاجات المناهضة للعنصرية؟ بل شهدنا كيف أنهم مروا بسلام من أمام عناصر الشرطة وهم يغادرون المكان.
"توقفوا عن إشاحة الوجه بعيدا"
كتبت ميليسا كاستيلو بلاناس، الأستاذ المساعد في قسم اللغة الإنجليزية بكلية ليهمان في نيويورك: "هذه ليست أمريكا. لا، ليست هي. إنه تاريخ الولايات المتحدة في الاستعباد والاحتجاز الجماعي، واعتقال واستغلال المهاجرين، والتفوق العنصري للبيض والمجتمع الأبوي، وكبت الناخبين بل وحرمانهم."
وأضافت بلاناس: "توقفوا عن إشاحة الوجه بعيداً. فنحن لسنا ديمقراطية ولم نكن كذلك في يوم من الأيام".
وقال المشرعون الديمقراطيون مساء الأربعاء إنه حان الوقت لعزل ترامب وخلعه في الحال. وقالت النائبة إلهان عمر إن "الأمر يتعلق بالحفاظ على الجمهورية". ويُذكر أن إلهان عمر كانت تتعرض لهجمات بذيئة وتهديدات بالقتل من ترامب وأنصاره. إلا أن العنف ضد المشرعين – بل وحتى ضد الرؤساء – لم يبدأ مع ترامب، فهذه جمهورية تأسست على العنف.
وحتى في هذه المرحلة يعتبر تحميل ترامب مشاكل هذه الجمهورية محاولة للترويج لأسطورة الديمقراطية الأمريكية، ذلك الحلم الذي تمت فبركته في نفس القاعات التي تعرضت للغارة يوم الأربعاء. إنه النزوع، تارة أخرى، نحو التصور بأن ترامب وأنصاره حالة شاذة، أو فلتة، في تاريخ هذه المنظومة.
إن التخلص من ترامب لن يسرع بالعودة إلى أمريكا التي يحلو للجميع تذكرها.
وذلك لأن أمريكا تلك غير موجودة أصلا.