هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
صدر للكاتب والإعلامي بلال التليدي مقال بموقع "عربي21" في جزأين بتاريخ 5- 7 كانون الأول (ديسمبر) 2020 تحت عنوان "هل تعيش العدل والإحسان مأزقا في مشروعها". ونظرا لتضمن هذا المقال العديد من المغالطات في حق أكبر جماعة دعوية وسياسية في المغرب، أصبح لزاما التفاعل معه قصد تقويمه وتصويبه، تقديرا للقارئ من جهة، وتمكينا له من حقهم في المعلومة الصحيحة، بعيدا عن التأويل المتعسف للوقائع، والأدلجة الفجة للأفكار.
من هذا المنطلق سأتناول مقال السيد بلال بالتفكيك والتحليل مستحضرا أن الكتابة في مجال السياسة والاجتماع تقتضي صرامة منهجية ولو في حدها الأدنى. وعلى هذا الأساس أنطلق مع السيد بلال بسؤال، هل مقاله بخصوص جماعة العدل والإحسان ينتمي للكتابة الأكاديمية أم يندرج ضمن الكتابة الإعلامية؟ فإن كان ينتمي للأولى، فالأمر يقتضي حضور المنهج، وإن كان ينتمي للثانية، فالوضع يستوجب التقصي والتدقيق. وفي كلتا الحالتين فإن الكاتب مطالب بالتدليل على ادعاءاته عبر الحجج والأدلة الموثقة ومن مصادرها الأصلية.
وفي هذا السياق أُذَكِّرُ السيد بلال أن تناول حزب ما أو جماعة ما بالدراسة والبحث، هو عمل يندرج ضمن العلوم الاجتماعية بصفة عامة، وتحت العلوم السياسية بصفة خاصة، ذلك أن هذه الأخيرة تُعنَى بدراسة النظرية السياسية وتطبيقاتها وتقديم وصف كامل وشامل للنظم السياسية المتبعة وسلوكها السياسي. ولعل هذا الغرض لا يمكن تحقيقه إلا بتبني منهج واضح يتناسب وطبيعة كذا موضوع.
وفي هذا الصدد أتساءل ما هو المنهج الذي اعتمده السيد بلال أثناء بحثه ليستخلص أحكاما مصيرية في حق جماعة العدل والإحسان، تمثلت حسب زعمه في أمرين:
ـ الأمر الأول: التأكيد على وقوع الجماعة في خط الأزمة.
ـ الأمر الثاني: القطع بأن الباراديغم الحركي للجماعة قد دخل دائرة الشك والمساءلة، بل بلغ منتهاه.
إن أحكاما تقريرية كهذه يستحيل التوصل إليها إلا من خلال بحث ميداني دقيق يسلك فيه الباحث منهجا علميا يعتمد الاستقراء أو التحليل بعيدا عن الإنشاء والإخبار الذي يقوم على الاستنباط المباشر من الخلفية الحزبية التي ينتمي إليها الكاتب. لذلك فأول ملاحظة أسجلها هي الغياب التام لأي أداة منهجية في موضوع سياسي واجتماعي لا يقبل الاعتباطية والهواية الفكرية.
جل كتب الأستاذ عبد السلام ياسين تصف المنتمين للجماعة بالأعضاء وليس المريدين، لأن العضوية تختزل معاني الفاعلية والمشاركة والمسؤولية وليس التقليد والجمود والتبرك.
أما الملاحظة الثانية فهي تعمد الكاتب وإصراره على استعمال ألفاظ ومفاهيم لا تنتمي بتاتا للحقل المفاهيمي المعتمد لدى جماعة العدل والإحسان، بل هي مفاهيم بذل الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله جهدا كبيرا في كل أدبياته لتجاوزها، ومن هذه المصطلحات "الشيخ" و"المريد". ولعل كاتبنا بهذا التعمد يروم الإيحاء بأننا أمام تنظيم صوفي يتسم بعلاقة عمودية تتمثل في الشيخ والمريد. وهذا لعمري تضليل واضح، خاصة وأن الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله كان يرفض رفضا تاما نعته بالشيخ لِمَا للكلمة من حمولات دلالية؛ والحجة على ذلك أن الإعلامي عزام التميمي خلال حلقة مراجعات سأل الإمام بماذا تريد أن أناديك؟ فأجابه ناديني "بالأستاذ".
ضف على ذلك أن جل كتب الأستاذ عبد السلام ياسين تصف المنتمين للجماعة بالأعضاء وليس المريدين، لأن العضوية تختزل معاني الفاعلية والمشاركة والمسؤولية وليس التقليد والجمود والتبرك. هذه الجناية والتحريف المتعمد في المصطلحات من طرف كاتبنا، جعله يُسَوِّقُ فكرة أن الباراديغم الياسيني هو باراديغم حركي سياسي روحي استثنائي بالمعنى السلبي للكلمة، لأنه وحسب افتراء السيد بلال، يعطي حضورا مهيمنا لقيادة "الشيخ" إلى حد تعطيل آليات الاختيار الديمقراطي التي زعم أنها غير متبعة داخل الجماعة.
وهنا أتوجه بالسؤال لكاتب المقال، على أي مرجع استندت لتقول أن العدل والإحسان لم تجد صعوبة في اختيار خليفة "الشيخ" بعد موته لأنها تشتغل ضمن باراديغم استثنائي يطغى عليه ما هو روحي على ما هو ديمقراطي!
آسف سيد بلال، فما تفضلت به هو محض افتراء على أحياء مارسوا حق اختيار أمينهم العام ونائبه وفق آلية ديمقراطية حسمها صندوق الاقتراع. ثم إنك تتناقض على طول المقال وأنت تريد البرهنة على وقوع الجماعة في خط الأزمة، فتارة تقول إن الحضور القوي للشيخ روحيا وسياسيا وتنظيميا جعل الجماعة في مأمن من الأزمة، وتارة أخرى تقول للقراء إن الأزمة بدأت في حياة "الشيخ" عندما أصدر "مذكرة إلى من يهمه الأمر"، وما أعقبها على حد زعمك من ردود أفعال داخل الجماعة خاصة عندما قلت زورا وكذبا إن المجلس القطري للدائرة السياسية أدار ظهره للوثيقة، وجاء باقتراحات مضادة لها.
وبوقوفنا عند هذه المعطيات نجد أنفسنا أمام تناقض صريح يعصف بمصداقية ما بسطه الكاتب. فالأزمة إما أنها كانت في زمن "الشيخ"، وبالتالي لم يكن له ذلك الحضور الروحي المهيمن سياسيا وتنظيميا كما زعم السيد بلال، وإلا كيف كان للمجلس القطري أن يجرأ على معاكسة المذكرة. وإما أن الأزمة لم تكن من الأساس لأن "الشيخ" كان مهيمنا بآرائه. والحال أنها لم تكن لا أزمة ولا هيمنة تذكر. والغريب أن السيد بلال جمع لنا بين النقيضين الهيمنة الروحية للشيخ، وجرأة الدائرة السياسية على معارضة مواقفه.
ولكي يضفي الكاتب مصداقية على زعمه، تحجج بأن المجلس القطري للدائرة السياسية وعلى عكس المذكرة اقترح فكرة الميثاق بعيدا عن لغة الاصطدام مع السلطة. وأي حجة هذه يا سيد بلال، وأي تعارض بين المذكرة الموجهة لرأس النظام، والميثاق الموجه للأحزاب السياسية والقوى الحية؟ ألا ترى في ذلك تكاملا واضحا؟ ثم لو كنت مطلعا على أدبيات الجماعة لوجدت أن فكرة الميثاق كانت مبثوثة في معظم كتب الأستاذ عبد السلام ياسين، فأين يا ترى تجلت لك بوادر الأزمة بين فكرة المذكرة وفكرة الميثاق؟ وبناء عليه أسألك مرة أخرى هل الأزمة كانت زمن "الشيخ" أم أنها ظهرت بعد موته؟
إن هذا الخبط العشوائي في مقالك، مرده إلى كونك عجزت عن إيجاد ربط منطقي بين جملة من الأفكار والأحكام المسبقة التي تتحكم في خيالك الفكري، من قبيل محورية الشيخ وهيمنته الروحية والتنظيمية، وأن موته ستشكل صدمة للجماعة، ثم كون أن الدائرة السياسية تضم نخبة براغماتية تسعى إلى التبرم من الصدام مع السلطة. وكل هذا السيناريو يعتبر مجرد وهم ليس إلا، أما الجماعة فهي ذات واحدة بوظائف متعددة.
دعونا الآن ننتقل مع الكاتب إلى مظاهر الأزمة ما بعد رحيل "الشيخ" وما سماه زعما مأزقا، حيث قال أن رحيل ”الشيخ“ شَكَّل صدمة للجماعة، وجعلها أمام ثلاث أسئلة وهي: سؤال ما العمل؟ سؤال الخط التنظيري؟ وسؤال القيادة؟
وهنا أتساءل هل الكاتب اعتبر هذه الأسئلة مجرد فرضيات تحتاج إلى النظر في صدقها من عدمه؟ أم أنه رصدها بعد تقصي وتدقيق، موظفا أدوات معيارية أثبتت له معاناة الجماعة وعجزها عن حلها؟
والجواب لا هذه ولا تلك! فالكاتب يتوهم أشياء لا توجد إلا في مخيلته من قبيل أن القيادة الحالية متمثلة في الأمين العام تجد نفسها في مأزق أمام ثنائي قيادي منسجم وهما الأستاذ فتح الله أرسلان والأستاذ عبد الواحد المتوكل. فيتساءل السيد بلال: هل سيكون للأستاذ محمد عبادي نفس السلطة على هذه القيادة كما كانت للأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، مذكرا إيانا أن الأستاذ فتح الله أرسلان يستحوذ على إدارة الجماعة وينطق ويتفاوض باسمها، وعبد الواحد المتوكل يتمتع بسلطته على الدائرة السياسية.
ثم يضيف زورا أن الأستاذ عبد الواحد المتوكل هو صهر عبد السلام ياسين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل أن كاتبنا يمارس التدليس ولا يتوخى الدقة والمصداقية. ذلك أن القارئ العادي عندما تعرض عليه معلومة المصاهرة في موضع لا يستدعي ذكر مثل هذه الصفة (وهي هنا مكذوبة)، سيفهم لا محالة أن المناصب والسلطة داخل الجماعة تتوزع وفق القرابة والمصاهرة، وهذا كذب وتدليس لا يليق بشخص يقدم نفسه كباحث متخصص في الحركات الإسلامية.
وهنا يجمل بي أن أحيط كاتب المقال علما أن مؤسسة الناطق الرسمي وكذا الدائرة السياسية هي مؤسسات تشتغل وفق آليات وضوابط وقوانين، يتم بموجبها اختيار أعضائها عبر التصويت، بالتالي هي غير قابلة للوراثة ولا تخضع لمعيار القرابة. ناهيك أن القوانين المنظمة لهذه المؤسسات فكما تنص على آليات الاختيار، فهي تنص أيضا على آليات العزل والإقالة. وعليه فإن حكم سيد بلال على وجود مأزق في التعامل مع القيادة هو فرع من تصوره للجماعة على أنها تخضع للشخصنة وليست قائمة على مؤسسات وآليات وقوانين منظمة.
جماعة العدل والإحسان لا تحتاج إلى تيار يدافع عن خيار التربية وآخر يدافع عن خيار السياسة، لأن التكامل بين الخطين هو تحصيل حاصل في التوازن التربوي الذي تتبناه الجماعة في كل ممارستها.
ثم تساءل بلال عن مصير الخط التنظيري، هل ستتعامل معه القيادة بمقاربة استكمالية أم سيتم تجاوزه، سيما وأن سيد بلال يفترض وجود تيار ياسيني روحي تربوي منزعج من الحركية السياسية يسعى إلى تقليص دورها بالتحفيز على مجالس النصيحة، وتيار سياسي ينتمي معظم أفراده إلى الطبقة المتوسطة يبتغي الحد من الصراع المباشر مع السلطة، ويحرص على تهدئة التوتر لإيقاف مسلسل استنزاف الجماعة، مضيفا أن الجماعة منزعجة من هذا الحراك والتحول الداخلي.
وردا على هذا التوصيف المزعوم أقول، إن الجماعة وبإجماع تام بين كل أعضائها وأجيالها تعتبر أن الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله إماما مجددا وعالما ربانيا، تتبنى كتبه باعتبارها مراجع في النظر والتنظير والاجتهاد، لما تلمس فيها من روح التجديد على كل المستويات والأصعدة. فالمنهاج النبوي مثلا وهو أحد أهم هذه المراجع يحث على ضرورة التوازن التربوي بين ثلاث أمور وهي: السلوك والفكر والحركة، والتي تقابلها ثلاث منزلقات هي: إسلام الزهادة والإسلام الفكري، والحركية على حساب التقوى.
بالتالي فجماعة العدل والإحسان لا تحتاج إلى تيار يدافع عن خيار التربية وآخر يدافع عن خيار السياسة، لأن التكامل بين الخطين هو تحصيل حاصل في التوازن التربوي الذي تتبناه الجماعة في كل ممارستها. ولأن تناقضات الكاتب كثيرة في مقاله اخترت هذه العبارة الملخصة لتجليات الاضطراب في بنائه الاستدلالي حين يقول: "لكن ما يخفى الكيفية التي تدبر بها (الجماعة) صراعاتها وتوتراتها الداخلية" وهذا يبعثنا عن التساؤل: كيف استطاع السيد بلال أن يكتشف وجود صراع وأزمة ومأزق وتوترات داخل الجماعة، وكيف خَفِيَت عنه الكيفية التي تدبر بها الجماعة صراعاتها؟ ذروة التناقض! فالمنطق يقول إن من نجح في رصد الممارسة يسهل عليه استجلاء كيفية تدبير نفس الممارسة.
*كاتب وباحث مغربي في الفلسفة السياسية والأخلاق