تابعت قبل أقلّ من أسبوع لقاء تلفزيونيّاً بين ثلاثة "محلّلين سياسيّين" عراقيّين على إحدى القنوات الفضائيّة العراقيّة، وحينما انتقد أحدهم جرائم الحشد الشعبيّ في "المناطق المحرّرة" انطلقت من أحد الضيفين الآخرين، وبلا مقدّمات، موجة من الكلمات المليئة بالسبّ والشتيمة، وحُزمة من المفردات المُخجلة التي يفترض أن يُنقى منها الإعلام. وفي المقابل، أعاد الطرف الأول بعض تلك الاتّهامات بأسلوب آخر، والقناة الفضائيّة لم تحاول، على الأقلّ، قطع الصوت وكأنّ الأمور طبيعيّة جداً!
هذا الهبوط في بعض الحوارات والنقاشات، وعدم قبول الرأي والرأي الآخر، وغياب الأساليب المُهذبة، وخراب الخطاب الإعلاميّ هو جزء من المؤامرة، ومن الواقع المرير، ولا يُمكننا القفز عليه، رغم أنّه لا يُمثل الأكثريّة الشعبيّة لكنّ العراقيّين اليوم مُنقسمون في نظرتهم للكثير من القضايا، ومنها الموقف من المرجعيّات الدينيّة، والعمليّة السياسيّة، والحشد الشعبيّ، والمظاهرات وغير ذلك من الفواعل، أو عوامل القوّة، وربّما مَعاول الخراب في البلاد!
الهبوط في بعض الحوارات والنقاشات، وعدم قبول الرأي والرأي الآخر، وغياب الأساليب المُهذبة، وخراب الخطاب الإعلاميّ هو جزء من المؤامرة، ومن الواقع المرير
ما يجري في
العراق من انهيار لمفهوم الدولة، أو القوّة الرسميّة، وصل لدرجة اللامعقول، بحيث إنّ قيادياً في الحشد الشعبيّ يتّصل بعميد ورئيس أركان في الجيش العراقيّ بمحافظة الأنبار الغربيّة، ويهدّده بقطع يَد كلّ من يُحاول رفع صورة "أبو مهدي المهندس" الذي قُتل بغارة أمريكا بداية العام 2020. وقد سُرِّبت المكالمة بينهما قبل خمسة أيّام، وكان رئيس الأركان، رغم رتبته العسكرية العالية، مرتبكاً، ويحاول امتصاص غضب "القائد" المليشياويّ!
فكيف يمكن أن نتفهّم، كما تقول حكومة بغداد، بأنّ الحشد جزء من وزارة الدفاع، وفي ذات الوقت هنالك "زعامات" في الحشد، لا يَحملون رُتباً عسكريّة، ولا يحترمون القيادات العليا؟
كيف يمكن أن نتفهّم، كما تقول حكومة بغداد، بأنّ الحشد جزء من وزارة الدفاع، وفي ذات الوقت هنالك "زعامات" في الحشد، لا يَحملون رُتباً عسكريّة، ولا يحترمون القيادات العليا؟
هذه الواقعة تؤكّد عشوائيّة "إدارة الدولة"؛ ولهذا فإنّ السياحة البصريّة والفكريّة في أيّ جهة أو مدينة عراقيّة، أو حتّى في وجوه الرجال والنساء والأطفال، ستكتشف ألوان الألم والمآسي والجراحات والتناقضات التي يُعانون منها، فكيف يمكن للقلم أن يَصف ويُسطّر هذه الصور المليئة بالخوف وكراهية الحياة؟
ومع كل هذه المآسي هنالك تناحر غريب بين المواطنين!
أحياناً أقول: ربّما نجح "الغرباء" في تقطيع أواصر العراقيّين، اجتماعيّاً وفكريّاَ!
وحقيقة لا ندري كيف نستوعب "رأي" من يَصف المتظاهرين" بأولاد السفارات، والعمالة للخارج.."، وغير ذلك من الاتّهامات لشباب العراق الذين يبحثون عن مستقبلهم، وربّما عن وطنهم!
وفي الضفّة الأخرى هنالك من يقول إنّ المتظاهرين هم أمل العراق، وهم أساس بناء الوطن الذي نَحلم به، والخالي من القتلة والمجرمين والطائفيّين!
وأمام هذا التناقض الفكريّ أتصوّر أنّ العراقيّين اليوم بحاجة إلى جرعات إصلاحيّة تُجدّد معاني المواطنة والأخوّة والتعايش والتلاحم والتعاون والتكاتف، لتقوية حالة التلازم الوطنيّ، والاحتماء بمظلّة العراق العربيّ الأصيل!
إنّ التفريط بأيّ عراقيّ وخذلانه وتضييعه ربّما سيجعله، في زمن الفتن، في صفوف الأعداء، وسيهرب مذهولاً للاستنجاد بالقوى الغريبة، واللجوء إليها للخلاص من الواقع التعيس!
أثبتت التجارب أنّ فرقتنا كانت من أكبر أسباب ضعفنا، والضعيف يزدريه الطرف القويّ ويبخس حقوقه، وقوّتنا لا تكون إلا بتلاحمنا، ومناصرة بعضنا بعيداً عن الأساليب الهمجيّة المليئة بالقتل والترهيب والانتقام البعيد عن القانون!
العراق المُمزّق سياسيّاً وأمنيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً لا يمكن أن يستمرّ دون علاجات حقيقيّة وجذريّة ناجعة، وعليه يجب أن يكون هنالك تكاتف ثقافيّ لتوعيّة المواطنين بعمق وخطورة المؤامرة التي تحاك ضدّ البلاد!
حال العراق المُمزّق سياسيّاً وأمنيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً لا يمكن أن يستمرّ دون علاجات حقيقيّة وجذريّة ناجعة، وعليه يجب أن يكون هنالك تكاتف ثقافيّ لتوعيّة المواطنين بعمق وخطورة المؤامرة التي تحاك ضدّ البلاد!
التبعثر والتناثر والتشرذم كلّها عوامل لزوال البلاد وأهلها، فهل سنعي ضرورة التجمّع والتآزر والتعاضُد قبل أن نُسحق بأيدي بعض أبناء جِلدتنا، ودون أن ننتبه لهذه الكارثة الوطنيّة؟
مع ذلك، ورغم كلّ الصور القاسيّة التي تحيط بنا يمكننا أن نجعل من هذه الأزمات فرصة لتعزيز روح الألفة والإخاء والتضافر، وبالذات مع كون المحن فرصة ذهبيّة لتمييز وتمحيص معادن الجميع من السياسيّين والوجهاء والمواطنين!
إنّ عقد الوطنيّة من العقود الاجتماعيّة الصحيحة التي يفترض أن لا نُفرّط بها، من أجل مستقبل بلادنا وأبنائنا، ولنعيش بسلام وندرأ الفتن، ولتغذية شريان المحبّة الذي يتدفّق بالأمل والتلاحم، من أجل أن تتوحّد قلوبنا قبل أيدينا!
لنتّحد جميعاً لإيقاف مؤامرات اغتيال العراق، ولنجعل من عشقنا للحرّيّة، وتعلّقنا بالأمل الشرارة المضيئة لمستقبلنا، ولنستمرّ في التحدّي، وللمضيّ في بناء الوطن رغم كلّ العقبات!
twitter.com/dr_jasemj67