قضايا وآراء

استحقاقات داهمة مع احتمال اقتراب الانسحاب الأمريكي من غرب آسيا

عمرو علان
1300x600
1300x600
أثارت إقالة وزير الدفاع الأمريكي مارك أسبر -وما تلاها من استقالات لمسؤولين كبار في الوزارة ذاتها الأسبوع الماضي- حذرا مشروعا لدى قيادات دول وقوى محور المقاومة من احتمالية قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمغامرة عسكرية أخيرة في منطقتنا، وتراوحت التقديرات السياسية بين مرجح وبين مشكك بحصول هكذا مغامرة، حتى صدور تصريح وزير الدفاع الأمريكي الحالي بالوكالة كرستوفر ميلر التي قال فيها إنه وآخرين قد سَئِموا الحرب، وأنه قد حان الوقت لإعادة الجنود الأمريكيين في الخارج إلى البلاد، في إشارة إلى نية الرئيس دونالد ترامب إتمام الانسحاب الأمريكي من منطقة غرب آسيا في الشهرين المتبقيين من ولاياته، ليحقق بذلك أحد أبرز وعود حملته الانتخابية في عام 2016. ويَحتمل تفسير هذا القرار أن يكون إجراء تمهيديا لخوض دونالد ترامب السباق الرئاسي مجددا في عام 2024.

من الحكمة أن تُبقي قيادات محور المقاومة العسكرية في حساباتها على احتمالية قيام الولايات المتحدة الأمريكية أو الكيان الصهيوني بعملية غادرة، حتى وإن كانت هذه الاحتمالية ضعيفة. أما في القراءة السياسية فيبدو أن موازين القوى الواقعية على الأرض قد فرضت في نهاية المطاف على القوى المعنية طريقة تموضعها في ساحات المواجهة، وبات الانسحاب الأمريكي من منطقة غرب آسيا وشيكا كحصيلة لما وصل إليه محور المقاومة من شبه التوازن الاستراتيجي بينه وبين المحور الصهيوأمريكي المعادي. وهذا الانسحاب يعد تحولا جيوسياسيا في غاية الحساسية وله تبعاته، وكذلك يَفرض موجبات على الأطراف المؤثرة في الإقليم من أركان محور المقاومة وروسيا وصولا إلى تركيا.

بعيدا عن الخوض في التفاصيل وعن الشعارات المستخدمة من قبل الأطراف الإقليمية لترويج مشاريعها السياسية خلال الفترة الماضية، تمكن إعادة جذور الصدام القائم في منطقة المشرق العربي في السنوات العشر الأخيرة إلى أنه صدام بهدف ملء الفراغ الاستراتيجي الناشئ عن الانكفاء الأمريكي المرتقب عن المنطقة، الذي كانت بوادره قد ظهرت في بدايات هذا العَقْد من الزمن.

أما بعد اختبار الأطراف المتنافسة لحدود القوة في فرض مشاريعها على الآخرين، وبعد اكتشاف مدى الآثار الكارثية لهذا النهج المتفرد على استقرار دول المنطقة والإقليم عموما، ونخص بالذكر هنا تركيا التي اعتقدت في البدايات أنها كانت قادرة على ملء الفراغ الإستراتيجي الناشئ في الإقليم وحيدة، ودون مراعات مصالح جيرانها، عبر اللعب على التناقضات الطائفية والاستثمار على حركة الإخوان المسلمين بالإضافة إلى الحركات الجهادية المتطرفة.. بعد هذه الاختبارات المصحوبة بالخراب والكثير من الدماء خلال الأعوام الماضية، بدأت تركيا رويدا رويدا تدرك استحالة تحقيق هذا الهدف، لا سيما أن مقاومة إيران وسوريا وحركات المقاومة في العراق ولبنان هي التي كان لها الفضل الأصيل في إجبار الأمريكي على الانكفاء وعلى وصوله لهذه المرحلة من التراجع، واستطرادا نشوء هذا الفراغ الاستراتيجي في الإقليم.

ويعد انضمام تركيا إلى مجموعة الدول الضامنة لمسار أستانا أبرز تعبير عن تخفيض السقوف السياسية التركية المرتفعة، وبرغم المراوغة والتباطؤ التركيين المستمرين في تنفيذ استحقاقات مسار أستانا، كانت لإطار أستانا آثار ملموسة على تنظيم الخلافات فيما بين إيران وروسيا وسوريا، وتركيا، ومنع هذه الخلافات من الوصول إلى مرحلة الصدام المباشر. وربما يفسر هذا استمرار الصبر الروسي الإيراني على المراوغات التركية، ويضيء على طبيعة الرؤية الاستراتيجية بعيدة النظر لهاتين الدولتين.

أما وقد بات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والعراق وسوريا وشيكا على ما يبدو، فيُعتقَد أن هذا يحتم على روسيا في المقام الأول ومعها إيران في المقام الثاني سرعة التحرك والضغط على تركيا لمنعها من القيام بأي مغامرات جديدة يكون من شأنها زيادة حدة التوتر في الإقليم. ويمكن البناء على النجاحات النسبية في مسار أستانا في هذا الشأن، ومحاولة إقناع تركيا بأن التفاهمات على أساس الشراكة وتقاطعات المصالح بين كل الأطراف هي أنفع لتركيا وللمنطقة عموما بناء على تجربة السنوات الأخيرة.

أما في أفغانستان، فيُعتقَد أنه يتوجب على روسيا وإيران رفع مستوى التنسيق فيما بينهما في تلك الساحة كي لا يُحدِث الخروج الأمريكي خللا في الوضع الأمني هناك. ويمكن أن يكون الأمر أسهل في تلك المنطقة، حيث التنسيق الروسي الإيراني هناك متقدم ولا وجود لمسائل خلافية بين الأطراف.

لم تنجح قوى الإقليم في التنسيق فيما بينها في مطلع هذا العَقْد لتفادي الاشتباك بسبب بعض الطموحات غير المبررة لبعض الأطراف، وبسبب الحسابات غير الواقعية للبعض، لكن بعد الاختبار القاسي الذي مرت به المنطقة خلال السنوات العجاف الماضية، وبعد اختبار حدود فعالية القوة، وفي ظل ظهور أطر سياسية يمكن البناء عليها وتطويرها كمسار أستانا أو غرفة العمليات المشتركة في بغداد، يفترض أن الأطراف في المنطقة باتت أنضج للوصول إلى تفاهمات تبني على المصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة لدول الإقليم، وهذه فرصة على القوى العاقلة استغلالها لتفادي المزيد من الفوضى والخسارة في البشر والعمران، في ظل المؤشرات على قرب الانسحاب الأمريكي من منطقة غرب آسيا، وإلا فمسلسل الخراب مستمر إلى حين.
التعليقات (0)