لا يُظهِرُ القرآن فارِقاً كبيراً بين حال آدم قبل تعلُّمه الأسماء "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" (البقرة: 31)، وآدم بعد التنعُّم بهذا الفضل الإلهي، أو على الأقل فهو ليس بالفارق الملحمي الدراماتيكي (ذي الأبعاد التكليفيَّة)، الذي يُلزِم القرآن نفسه بإيراد تفاصيله كاملة للمكلَّفين، وذلك كما فعل مع قصَّة آدم - عليه السلام - قبل وبعد أكله من الشجرة المحرَّمة (يُسميها القرآن شجرة الخُلد؛ البقرة: 120). إذ أن العناية القرآنية الشديدة بتفاصيل ذلك التحول الآدمي العاصِف والمصيري توكيد ليس على أهميته فحسب، وإنما الأهم أنها توكيد على أن وضع المعرفة على المحك هو الذي يكشِف المعدن الإنساني الحقيقي، ويُبرِز القيمة الإنسانيَّة- الإلهيَّة الحقيقيَّة للمعرفة؛ جوانيّاً وبرانيّاً.
إذ لم يفقد آدم - عليه السلام - فردوسيَّته بمحض "المعرفة الساكنة" التي تلقَّاها قبل إهباطه إلى الأرض، بل ظلَّ طوباويّاً بريئاً ساذجاً "لا يُميز"
الخير من
الشر، رغم هذه المعرفة الوافية، التي فُضِّلَ بها على الملائكة المقرَّبين.. ظلَّ فردوسي الوجدان والسلوك، فلم يتخيَّل لحظة أن يُقسم إبليس بالله كاذباً "وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ" (الأعراف: 21). ومن ثم، كان التعرُّض لهذه الخبرة هو الذي انتقصَ من فردوسيَّة آدم، وكشف بشريَّته، وصقل معارفه الوجوديَّة بلهيب الإثم.
نعم، كان إثم/ خبرة عصيانه لرب العالمين وطاعته لإبليس هو الذي خدش براءته، وحرَّك معرفته واختبرها، واختبر عمق أثرها ومدى فعاليتها عمليّاً، فقد عصى آدم وهو يعرف مقام ربِّه العلي وحدوده جلَّ شأنه، لكنَّه قُدِّرَ عليه العصيان (تحت وطأة الهوى) ليكتَشِف نفسه، ويُدرك (هو وبَنُوه من بعده) أنه مجبول على التوبة كما قدر على
المعصية، وأن المعرفة بلا خبرة عاصِفة تُحرِّكها، وإثم قارِص يهتكها؛ لا قيمة لها في الميزان الوجودي الذي أراده الله للإنسان.
والإسلام صريح في تفاصيل قصَّة إهباط آدم بعد أكله من الشجرة وقبول توبته. وهو ينقُض التصور التوراتي الذي يذهب إلى أن الشجرة هي شجرة "المعرفة المحرَّمة"، أو شجرة معرفة الخير والشر (أي معرفة كل شيء "حُرِّم" على آدم معرفته!)، التي كانت نتيجة معصية الأكل منها - في سفر التكوين - هي اختلاط الخير بالشر في نفس الإنسان وترسُّخ "الخطيئة الأصليَّة"، إذ حاز آدم "المعرفة المحرَّمة".
إن الإسلام يُخبِرنا بأن المعرفة لم تكن هي المُحرَّمة، بل وليست المعصية بذاتها هي الشر الأكبر، وإنما استحلال ارتكابها والإصرار على اجتراحها. لقد تلقَّى آدم كلَّ المعرفة من الله ابتداءً، ولم ينتزعها "رغماً عنه"، ومن ثم كان مآل الأكل من الشجرة في الإسلام لا كسر احتكار "الإله" للمعرفة وتبلور "خطيئة أصليَّة" تُثقِل كاهل جنس كامل، وإنما بيان أثر الخبرة/ الإثم في كشف طبيعة المعرفة المُتلقاة وسبر أغوارها، وبعبارةٍ أخرى: كان مصير الأكل من الشجرة هو انكشاف ما ووري عنه من سوأته هو (برانيّاً وجوانيّاً)، لا سبر غور "معرفة مُحرَّمة"!
إن الخبرة/ الإثم الذي جناه آدم بهذه المعصية الأولى لم يكن إثماً أخلاقيّاً وهزَّة نفسيَّة فحسب، أو مجرَّد إثم "نظري" يؤثر في روحه وحدها، فيؤرِّقها ويستثير مكامن الأوبة فيها؛ لكنَّه إثمٌ ترك ندوبه على جسده وعلى رؤيته لهذا الجسد وموقفه منه "فَأَكَلا مِنْهَا؛ فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ" (طه: 121). فإن كل خبرة/ إثم تكشف لنا بعض بشريتنا، وبعض سوآتنا (قدرتنا الكامنة على المعصية)؛ فتعتصر فردوسيتنا في أرواحنا وأجسادنا، بل تنهشها بضراوة الواقع.
ولأن حكمة الخلق اقتضت أن يكون التكليف للروح والجسد معاً، لذا فبديهي أن كل إثم/ خبرة لا يخدش براءتنا الفردوسية نفسيّاً وشعوريّاً فحسب، بل يترك ندوبه العميقة على أجسادنا، كما يترك التاريخ والزمن آثاره. بل إن الخبرة/ الإثم تصير هي يد التاريخ الوئيدة التي تُعمِلُ مبضع الزمن القاطِع فينا، وتصير هي ساحة الدرس الحقيقيَّة التي تُختبَرُ فيها إنسانيتنا ومعارفنا.
وهكذا، صرنا نفقد من براءتنا الفردوسية ووجودنا الإنساني الأوَّل بمقدار ما نكتَسِب من خبرة/ إثم، لا بمقدار ما نُحصِّلُ من معرفة ساكنة؛ لتصير الخبرة/ الإثم - في هذا التصور- هي المعرفة الحقيقيَّة، لا لأنها محك المعرفة "النظريَّة" وتنزيلها فحسب، بل لأن هذا السقوط (الإثم، الخبرة، التجربة، الذنب). هو كذلك أول طريق "التحقُّق الإنساني"، ولولا ذلك لما قال حضرة المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم: "لو لم تُذنبوا؛ لذهب الله بكم"؛ لماذا يا حضرة سيدي؟! لأننا لم نُخلق للركود الملائكي، وإنما خُلقنا لنعصي ونُذنِب، ثم نستغفر، وهذا هو ما ما يُقرره الشطر الأخير من الحديث نفسه: ".. ولجاء بقوم يُذنبون فيستغفِرون الله؛ فيغفِر لهم"(1).
ورضي الله عن الفاروق عمر؛ القائل: من لم يعرِف الجاهلية؛ لم يعرِف الإسلام. ليس لأن الأشياء تُعرَف بأضدادها فحسب، وإنما لأن خبرة الآدمي بالجاهليَّة (الشر، الإثم، الذنب) هي التي تهتك روحه البريئة بالقدرة على التمييز، وتُبصِّره ليس بقيمة الإسلام فحسب، وإنما بحدوده.
"وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)".
__________
(1) رواه مسلم من حديث أبي هريرة.