هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم تتوانَ الشعوب الإسلامية في الانتصار لرسولها العظيم صلى الله عليه وسلم، والذب عن جنابه الكريم في مواجهة تداعيات الرسوم المسيئة له، خاصة بعد تصريحات الرئيس الفرنسي المستفزة، وقد كان لافتا تداعي تلك الشعوب للانخراط في حملة مقاطعة البضائع الفرنسية للرد على الموقف الفرنسي الرسمي من تلك الإساءات.
تلك الهبة العارمة التي أثبتت فاعلية الشعوب الإسلامية، وقدرتها على اجتراح الفعل المؤثر، أثارت تساؤلات حول غياب تلك الشعوب عن المطالبة بحقوقها في أوطانها، وانخراطها الجاد في نضال تحررها من سطوة الديكتوريات لاسترداد حقوقها وانتزاعها منها بعد أن مارست بحقها كل صور الطغيان والظلم والجبروت طوال العقود الماضية.
ووفقا لمراقبين فإن تداعي الشعوب الإسلامية لمقاطعة البضائع الفرنسية، بدلالاته البليغة وتداعياته المهمة، يشير إلى أن كثيرا مما يقال عن تخلف تلك الشعوب مبالغ فيه، لأن قدرا لا يستهان به من أسباب تخلفها إنما هو من إنتاج الاستبداد الداخلي بتبعيته المطلقة للخارج الذي يفرض عليها أنساقا سياسية واقتصادية تديم حالة التخلف تلك.
يقول الباحث الأريتري، والقيادي في مؤتمر الأمة، الدكتور حسن سلمان: "ليس مستغربا هبة المسلمين للدفاع عن رسولهم، واستنكار الرسوم المسيئة له صلى الله عليه وسلم، فهم مهما اختلفوا في كثير من القضايا إلا أنهم يتفقون في تعظيم المقام النبوي الشريف، فلا نجد منهم من يقبل الاعتداء على مقامه بالقول أو الإشارة أو بأي شكل من أشكال التعبير الأخرى".
وأضاف سلمان في حديثه لـ"عربي21": "إن وحدة المسلمين حول شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم تمليها عليهم مقتضيات الإيمان، وهي كذلك ظاهرة دينية عميقة في النفوس ومرتبطة بالمقدسات الدينية عامة، خاصة ذات الطابع العقدي منها، وبالتالي فإنه يقل هنا التعاطي السياسي مع الظاهرة، وهو ما يكون أدعى للتفاعل والتوحد خلافا للمسائل الأخرى التي تعتريها الخلافات السياسية".
واستبعد أن يكون نجاح مقاطعة البضائع الفرنسية وغيرها بسبب الرسوم المسيئة مؤشرا لإمكانية تحفيز الأمة للمطالبة بحقوقها -وإن كان واردا- المنتهكة من الأنظمة الاستبدادية، مرجعا ذلك إلى "الاختلاف في طبيعة القضايا، فالمحرك الديني في الحالة الأولى أعمق وأكثر وضوحا من الحالة الثانية التي تعتريها الاعتبارات السياسية المختلفة".
وتابع: "وهذه عموما إحدى المشكلات الحضارية الكبرى في ثقافتنا الإسلامية حيث التفاعل مع القضايا الحقوقية والدستورية والسياسية ضعيف إن لم يكن معدوما، كما أن الديكتوريات تلعب دورا كبيرا في منع التحركات الشعبية التي تسعى للتحرر من الاستبداد والفساد والاحتلال، وتحشد كافة أدواتها السلطوية لتجريم كل التحركات الشعبية الثورية، وهو عامل مؤثر جدا".
وردا على سؤال حول ما تحتاجه الشعوب الإسلامية لتنخرط في نضال طويل المدى لانتزاع حقوقها، لفت سلمان إلى أنها بحاجة "للارتقاء بوعيها المجتمعي حول مركزية تلك القضايا، ومدى تأثيرها في الحياة الدينية والدنيوية لأن الخطاب الدعوي والديني كثيرا ما يبتعد عن تناول القضايا السياسية والحقوقية، وغالبا ما نحت تلك الخطابات نحو التقليل من الشأن العام، والمشاركة فيه بل التحريض على الزهد في الدنيا كلها، وهذه مشكلات ثقافية عميقة تحتاج إلى عمل منظم للخروج من الخطاب البعيد عن قيم القرآن الكريم، والموجه لخدمة السلطان".
وفي ذات الإطار رأى الكاتب الفلسطيني المقيم في تركيا، أيمن خالد أن "الأجيال الماضية كانت تتحرك سياسا تحت وطأة الدوائر الشعبوية، وأما الأجيال الحالية فهي تعيش أزمة البحث عن فرصة تعمل من خلالها، لذلك فإن هناك تبدلا كاملا في البناء المجتمعي، حيث إن لدينا صنفا شعبويا يتحرك عاطفيا، وصنفا آخر يتحرك بحثا عن المصلحة، فإذا تعارضت المصلحة مع المبدأ انسجم مع المصالح".
وضرب مثالا لذلك من وقائع الاحتجاجات السورية: "فقطاع كبير من الموظفين في سوريا لم ينضموا للتظاهرات السلمية في دمشق، بينما أبناء الأرياف ونتيجة وجود مصالح مادية مرتبطة بالريف انفصلوا عن النظام.. فنحن أمام قطاعين من المجتمع يعرفان كامل التفاصيل ويختلفان بين العمل المضاد أو الاحتجاج وبين الصمت وهو قطاع الأغلبية".
وذكر خالد لـ"عربي21" أن "الشعوب التي تُسيّر حياتها بانتظام تنتج نجاحا اقتصاديا، واستقرارا اجتماعيا ينتهي إلى استقرار في نظام السلطة، لكن المجتمعات العربية وبعض الآسيوية تعاني من أزمات بنيوية، لذلك فإنه ربما يكون كل هذا التظاهر للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالضرورة أن يكون هو الغرض، وإنما قد تكون حالة تعبير عن الرفض لواقع معين تعيشه هذه المجتمعات، وليس بالضرورة أن يكون ذلك الواقع سياسيا" على حد قوله.
وعن إمكانية انخراط الشعوب في حراكات احتجاجية لانتزاع حقوقها على خلفية هبتها المشهودة للدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، استبعد خالد ذلك، مشيرا إلى أن "الفساد موجود في كل بلدان العالم، ولكنه يحاول أن يختبئ من سلطة القانون، لكن الفساد في العالم الثالث موجود بطريقة مختلفة إذ إن القانون هو الذي يحميه، لذا فعندما تحمي السلطة بقوانينها طبقة الفاسدين فإن الاستبداد يتشكل بشكل تلقائي، فلا استبداد إلا بوجود الفساد، أما إمكانية التغيير فهذه مسألة معقدة جدا".
بدوره قال الباحث والداعية، عضو رابطة علماء الأردن، الدكتور أسامة أبو بكر: "ما يقعد الشعوب عن الانخراط في نضالات طويلة المدى لانتزاع حقوقها من أنظمة الاستبداد والفساد يرجع إلى خوفها من هذه الأنظمة، لأنها مسكونة بهواجس الملاحقة والمراقبة والمحاربة في لقمة عيشها ورزقها".
وأردف في حواره مع"عربي21": "كثير من الناس لا يأمنون على أنفسهم، وهم لم يصلوا لمرحلة الثقة بالنفس والثقة بما عند الله، والشعور بالعزة الإيمانية الحقيقية التي تجرئهم على أهل الفساد، فهم يرون تسلط الحكام، وملاحقة الصالحين والمصلحين وسجنهم والتضييق عليهم، فيهابون أن يطالبوا بحقوقهم".
وأبدى أبو بكر تحفظه على "إمكانية ظهور حركات شعبية تنخرط في مواجهة مع الفاسدين والظالمين، فمصر مثال صارخ على ذلك، لكن أجواء الرفض والمجاهرة برفض الإساءة والإصرار على المقاطعة ـ وهو ما ينبغي الإصرار على بقائه وتطويره ـ كل هذا يساعد في تخفيف حدة هجمة الباطل، ونشوء حالة من الشعور السلبي تجاه الأنظمة الظالمة والفاسدة والتي لم تجرم الإساءة للإسلام وللرسول عليه الصلاة والسلام، ما يؤدي إلى ظهور أفكار، وشخصيات قيادية قوية، ترعى ذلك وتستثمره بشكل فاعل ومنتج".
وختم حديثه بالإشارة إلى أن "تداعي الأمة للدفاع عن رسولها صلى الله عليه وسلم، يثبت أنها قادرة على التأثير، والمطلوب من القادة والمصلحين استثمار هذه الفورة، لأن الأمة لن تطول مواجهتها، ويصعب أن تستمر بالمقاطعة لفترة طويلة، وأن ما نحتاجه مشاريع دعوية وفكرية، تؤصل للعمل الجماهيري، وتؤصل حالة استثمار المزاج الشعبي، لتصنع منه روافع للأمة، وسندا للقادة المصلحين".