مع تناثر أخبار قليلة في موقع وآخر وكلمات مشابهة في تغطيات الانتخابات الأمريكية بعدد من القنوات الفضائية، أسرّ أكثر من صديق، سواء عبر التواصل المباشر بالكلمات أو الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة أنهم ينتظرون متمنين أن تتعدد حالات حمل السلاح بغرض المواجهات الدامية بين مناصري الرئيس الأمريكي الحالي "دونالد ترامب" والمعلن إعلاميا كفائز في الانتخابات "جو بايدن".
يتمنى هؤلاء (وبعضهم أصدقاء لا يمكن للمرء أن يشك في إخلاصهم) أن تقوم حرب أهلية أمريكية تقضي على الأخضر واليابس في البلاد وتفكك الولايات الاثنتين وخمسين على يد الرئيسين الخامس والسادس والأربعين، وبذلك ينتقم الله لهم (بحسب رؤيتهم) مما فعلته الولايات المتحدة في بلادهم وتدمير مسيرة الديمقراطية فيها ومحاولة الإجهاز على الثورات ومن بينها 25 يناير؛ والأهم (لديهم) أن غياب أمريكا سيتيح لهم وصول بلادهم إلى حل قريب، إذ لا يجد الطغاة وفي مقدمتهم عبد الفتاح السيسي ظهيرا ونصيرا لهم فيسهل إسقاطهم.
تمثل مقولة الأصدقاء مثالا مصغرا لغياب الفاعلية في حياتنا للأسف، وتعلق جانب كبير من مخلصي وشرفاء أوطاننا بالأماني والأحلام (وربما ما هو أكثر) والانسياق وراءها لتحقيق الغايات بتدمير الآخرين، فيما نحن مستمتعون بكسلنا متمادون متماهون في انشغالنا بذواتنا، والحق المطلق الذي وهبه الله لنا بأن جعلنا مسلمين موحدين منصورين مهما فرطنا وعمل واجتهد غيرنا، وعلى النقيض تماما من سنن الله الكونية التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المنصور من رب العزة المحفوظ بعنايته، يصبر على الأذى في مكة 13 عاما، ويأخذ طريقا مخالفا لما تعرفه العرب في رحلة الهجرة المباركة، ثم يهزم وتكسر ثنيته في غزوة أُحد، ويجتهد ويعمل ويكافح لسنوات في المدينة المنورة حتى يتم الله له نوره بفتح مكة.
لا يعني سابق كلماتنا نفي الظلم والاستبداد والمشاركة في محاولة هدم أوطاننا العربية الإسلامية عن الإدارة الأمريكية من الحكام الجمهوريين والديمقراطيين بحال من الأحوال؛ وإنما الاعتراض الكامل الواضح على تمني سقوط آخرين من الشعوب.. قد يقول قائل إنها مَنْ تختار هؤلاء الحكام، ولكن يبقى (أولا) أن تلك الأماني والمقولات لن تسقط هذه البلاد الآن، وإن كانت حضارتها في طريقها للأفول ولكن بعد سنين وفي ظل ترتيبات يعلم الله وحده بها. ثم ما قيمة سقوط الولايات المتحدة إذا كنا ما نزال كمسلمين نزرح ونعيش تحت قيد عدم إعمال العقل والتكاسل وتفضيل الراحة على مجرد التدبر في واقعنا وسبل تغييره؟!
أتذكر حوارا في منتصف التستعينيات من القرن الماضي أجريتُه لجريدة عربية شهيرة آنذاك كانت تصدر من بريطانيا، وكانت مع الأستاذ في جامعة الأزهر الراحل الدكتور "بكري ياسين" (لاحقا اشتهر نجله لفترة كمذيع يجيد الحديث بالفصحى)، وفيه قال الأستاذ كلمات كانت في محلها تماما، أذكر منها: "عندما سقط الاتحاد السوفييتي تلفت العالم باحثا عن
الحضارة الإسلامية"، في إشارة واضحة إلى أننا وإن توقعنا سقوط الشيوعية السوفييتية لم نحسن تهيئة أنفسنا لرفع راية حضارة ديننا العادلة من بعدها، لنرحم بها أنفسنا قبل العالم.
وكان من جمل الراحل الدكتور "ياسين" (أحسن الله إليه وجعله في أعلى الجنان): "إن الإسلام لا يحب السقوط لأحد، وإنما يريد لنا أن نكون دعاة هداية لنخرج الجميع من الظلام إلى نور الهداية لننعم جميعا بالعدالة". والكلمات الأخيرة واضح استقاؤها من نهج الإمام الشيخ الراحل محمد الغزالي (رحمه الله أيضا).
والشاهد الرئيسي هو أننا بدلا من أن نناقش هل الشعوب الغربية أخرجت لنا حكاما جبابرة طغاة ما يزالون يحطمون أوطاننا، يجب أن نناقش الدور المنوط بنا والملقى على عواتقنا في حمل نور الهداية إلى هذه الشعوب وتعريفها بديننا على النحو الأمثل، بداية من تخلقنا وعملنا بتكاليفه وأخلاقه أولا، ثم إحسان نقله إليهم والعمل على الأخذ بيد أنفسنا نحو النهضة والتقدم ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وتلك مهمة لو تدري تستغرق أعمارا وأجيالا بدلا من الاكتفاء بتمني السقوط للآخرين، لنبقى بخيباتنا ننتظر قيام طغاة جدد على أنقاض القدامى مثلما فعل "فلاديمير بوتين" وسابقوه، وقد يفعل غيره بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وقيام روسيا بمهامه الظالمة!