في مثل هذه الأيام قبل 833 عاما، حرر صلاح الدين بيت المقدس وأعاد المسجد الأقصى إلى حضن المسلمين بعد احتلال صليبي دام 92 عاما، وذلك في الثاني من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1187م، بعد أن قضى على التشرذم والخيانة التي ملأت الدويلات التي والت أهل الكفر والصليب على حساب أهل الإسلام والإيمان.
وقد برز نجم
صلاح الدين الأيوبي على يد أستاذه نور الدين محمود، وحينما مكنه الله من حكم مصر حرص على
الإصلاح المالي، بعد أن رأى بأم عينه مظالم المصريين من الفاطميين؛ من ترف السلاطين على حساب شعوبهم من خلال الجباية الظالمة التي كان يستفيد منها الحكام وحاشيتهم على حساب شعوبهم، حتى وصلت نسبتها 45 في المئة من قيمة البضائع مما أثر سلبا على حركة المال، وأدى لعزوف التجار عن العمل. وفي الوقت نفسه أهمل هؤلاء السلاطين الإنفاق العام من العناية بالري والزراعة والطرق، فضلا عما شهدته مصر من ارتفاع الأسعار واختفاء قوت الناس من السوق، حتى مات أكثر أهل مصر، وأكل بعضهم بعضا، وأُكلت الدواب بأسرها.
وقد كان الإصلاح المالي لصلاح الدين الأيوبي هدفا لغاية عظمى وهي تحرير بيت المقدس. وقد قامت السياسة المالية لصلاح الدين على استخدام الموارد العامة جنبا إلى جنب مع النفقات العامة، لتلبية متطلبات الدولة في جهادها المستمر وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
فبعد وفاة نور الدين محمود، ترك الملك لولده الملك الصالح إسماعيل ولم يكن عمره حينذاك إلا 11 عاما، فتولى وصايته وتدبير أموره ملكه شمس الدين بن المقدم، فأخذ الأمراء النوريون في الشام يتنافسون في ما بينهم وإضعاف بعضهم البعض. بل إن "وصيه" هذا هادن مملكة بيت المقدس واصطلح معها، وهو ما دفع الدمشقيين لمراسلة صلاح الدين لإنقاذ الموقف. وبعد وصول صلاح الدين إلى دمشق في عام 570هـ - 1174م، دخل القلعة وأخذ ما فيها من أموال وكنوز ووزعها على الفقراء والمستحقين، لتحقيق العدالة الاجتماعية.
كما ألغى صلاح الدين
الضرائب الظالمة في البلدان التي فتحها، واعتمد على الموارد الشرعية وتنوعها. وأعاد فريضة الزكاة - التي كـان الفاطميون قد ألغوها - إيذاناً بعودة مذهب أهل السنة، وجعلها البديل على المكوس والرسوم غير الشرعية، واهتم بجمعها وأقام لها ديواناً تسلمه "متولي الزكاة". ومما يحسب له كذلك، إلغاء ضريبة الحجاج التي كانت على نوعين:
الأول: ضريبة مرور الحجاج من أرض مصر: وكانت تفرض على المغاربة عند مرورهم للحج، فألغاها صلاح الدين ووفر للحجاج أماكن يأوون إليها خلال إقامتهم، مع تقديم الغذاء لهم.
الثاني: ضريبة أمير مكة: وكان يتم تحصيلها مقدما في جدة. وعوض صلاح الدين أمير مكة عنها جملة، فحُمل إليه في كل سنة ثمانية آلاف إردب قمحاً، واشترط أن تفرق في أهل الحرمين، فرفع صلاح الدين بذلك متفرقاتها عن الناس، وأفاد بجملتها التي أداها من بيت المال أهل الحرمين.
وتبدو السياسة المالية لصلاح الدين الأيوبي واضحة من خلال منشوره لإسقاط مكوس الرقة الذي جاء فيه: "إن أشقى الأمراء من سمَّن كيسه وأهزل الخلق، وأبعدهم عن الحق من أخذ الباطل من الناس وسمّاه الحق، ومن ترك لله شيئاً عُوّضه، ومن أقرض الله قرضاً حسناً وفاه. ولما انتهى أمرنا إلى فتح الرقة أشرفنا على سمن يؤكل، وظلم مما أمر الله به أن يقطع، فأوجبنا على أنفسنا وعلى كافة الولاة من قبلنا أن يضعوا هذه الرسوم بأسرها.. وقد أمرنا أن تسد هذه الأبواب، وتبطل ويعفى خبر هذه الضرائب في الدواوين، ويسامح بها جميع الأغنياء والمساكين مسامحة مستمرة الأيام".
وقد تمثلت الموارد المالية في عهد صلاح الدين الأيوبي في كنوز الفاطميين، والزكاة، والجزية، وفدية الأسرى، والغنائم، والخراج للأرض التي فُتحت صلحا، والعشور، والإرصاد الذي هو حبس شيء من بيت مال المسلمين بأمر من صلاح الدين يُصرف ريعه على المنافع العامَّة، والذي استقاه صلاح الدين الأيوبي من أستاذه نور الدين محمود، ومن خلاله تم بناء المجاهدين دينيا وعلميا وثقافيا وبدنيا.
وتمثلت النفقات المالية في عهد صلاح الدين الأيوبي في مصارف الفقراء والمساكين وغيرها من مصارف الزكاة، ورواتب الموظفين، والزراعة، والمجهود الجهادي أو الحربي ومنه الصناعة الحربية، والتعليم، والصحة.
لقد كانت سياسة صلاح الدين الأيوبي المالية قائمة على ترسيخ قيمة الجهاد المالي وتحقيق العدالة، فرفض أن تكون السلطة أداة استغلال لجمع المال وتكديس الثروة والانغماس في الترف والنعيم. وقرر أنه لا مغارم بغير حق، وأن المال مال الأمة يعود نفعه عليها ولا ينغمس فيه حكامها. لذلك عاش عيشة الكفاف ومات وعمره 57 عاما ولم تجب عليه الزكاة قط؛ لأن الصدقة استنفدت أمواله كلها، ولم يُخلّف في خزانته إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرية وجراماً واحداً ذهباً، ولم يخُلّف مُلكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً، ولا شيئاً من أنواع الأملاك، وقنع من الدنيا في ظل خيمة تهبّ بها الرياح ميمنة وميسرة.
twitter.com/drdawaba