لا أندم على شيء
لا الخير الذي أتاني
و لا حتى الشر، كلاهما سواء بالنسبة لي
فقد دفعت ثمنه كله، وتلاشى، حتى طواه النسيان
أنا لا آبه بالماضي
مع ذكرياتي
أشعلت النار
أحزاني، لذاتي
لست بحاجة إليها بعد الآن
جرفت الحب
مع رعشاته
تلاشى إلى الأبد
سأبدأ من الصفر
لا شيء على الإطلاق
لا أندم على شيء..
كان صوت إديت بياف القوي الجهوري يصدح في السيارة بلا ندم، في أغنيتها "Non, je ne regretted rien"، في كل مرة أختار اللامبالاة وقوة التحرر من كل شيء، الماضي، الحزن وحتى الفرح، في توق لبداية مشرقة نقية جديدة.
يذكر برنارد ماركوس، في كتابه "إديت بياف"، أن المؤلف الموسيقي تشارلز دومون قال؛ إن مايكل فوكير الذي كتب الأغنية أخبره بأنها كانت في الأصل تحت عنوان: "لا، لن أجد أي شيء"، وأن الأغنية كانت قد كتبت للمغنية الفرنسية الشهيرة روزالي دوبوا، ولكن عندما قرر أن يعطيها لإديت، غيّر عنوانها إلى: "لا، أنا لا أندم على شيء".
يقول الصحفي جان نولي في معرض حديثه عن بياف، إنه عندما زار دومون وفوكير منزل بياف في بوليفارد لانس في باريس، في ٢٤ تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٦٠، استقبلتهم بطريقة فظة وغير ودية، حتى إنها تركتهم ينتظرونها في غرفة الجلوس ساعة كاملة قبل أن تخرج لهم. وقد كان دومون قد حاول عدة مرات أن يعرض مؤلفاته على بياف دون أن ينال استحسانها، حتى دبرت لهم مدبرة منزلها هذا الموعد غير المرغوب به، وعندما خرجت بياف للقائهم قالت لهم إنها متعبة، ولديهم فرصة أن يعرضوا عليها أغنية واحدة فقط،. غنّى دومون حينها الأغنية بصوت منخفض من فرط الارتباك، ثم ساد صمت ثقيل، قبل أن تطلب بياف منه بصوتها الحاد أن يغنيها مرة أخرى. وقبل أن ينهيها صاحت: رائعة، هائلة، هذا ما كنت أنتظره، ستكون هذه الأغنية نجاحي الأكبر، وأريد أن أغنيها في حفلتي القادمة في "L'Olympia"، ليجيبها فوكير بسعادة: هي ملكك، إديت.
بيت القصيد أن إديت أهدت هذه الأغنية لفيلق الجيش الفرنسي الذي يقاتل على أراضي أجنبية في ما يسمى بـ"French foreign Legion"، حيث كانت فرنسا منخرطة في ذلك الوقت في حربها ضد الجزائر عام ١٩٦٢. وإن في فعل الإهداء ونوعه تحديدا واضحا لقيمة العمل
الفني وهدفه وروحه والأثر الذي يرجى منه.
ففي ذلك الوقت كانت الجزائر تحارب لنيل استقلالها من فرنسا، في حرب استمرت من ١٩٥٤ حتى ١٩٦٢، وبات الرئيس الفرنسي شارل ديغول مستعدا للخروج من الجزائر بعد هذه الحرب المستنفدة لفرنسا، في قرار مثير للجدل، مما أدى إلى انقلاب في الجيش الفرنسي عام ١٩٦١ بقيادة الفيلق الأجنبي الذي كان مستميتا في احتلاله للجزائر، وراغبا في إبقائها تحت السيطرة الفرنسية. وبعد فشل الانقلاب، تم اعتقال الكثير من الجنود، وقد عوقب الضباط في نهاية المطاف وتمت محاكمتهم، وأطلق سراح الآخرين.
ولكن في هذا الأثناء كان الكثير من الفرنسيين يعبرون عن دعمهم للجنود الذين كانوا يقاتلون في سبيل فرنسا من وجهة نظرهم. وفي هذا السياق، أهدت إديت بياف أغنيتها للفيلق الأجنبي، ليغنيها حول الانقلاب: "لا، لا أندم على شيء"، لتعبر حتى اليوم عن شعور الجنود الفرنسيين الذين لم يندموا على انقلابهم على قيادتهم، ليستمر احتلال الجزائر بدلا من الانسحاب منها، كما انتهت بها الأمور.
وكان فوج المظلات الأول من ضمن الفيلق الأجنبي الذي دعم الانقلاب الفاشل؛ قد تبنى أغنية بياف التي تبدو في ظاهرها أغنية حب، لكن أبعادها السياسية كانت أعمق من ذلك، فبعد أن تم إلقاء القبض على قيادة فوج المظلات ومحاكمته، تم تعيين ضباط الصف والعريفين والجنود في تشكيلات فيالق أخرى، وحين غادروا ثكناتهم كانوا يغنون هذه الأغنية التي أصبحت الآن جزءا من تراث الفيلق الأجنبي الفرنسي، ويغنونها كلما كانوا في موكب.
أما بعد اكتشافي التاريخ السياسي لهذه الأغنية، لم تعد أذني تطرب أو تستعذب هذه الأغنية، بل باتت تثير فيّ الغضب والرغبة في الانتقام لمليون ونصف المليون جزائري الذين قتلوا على يدي الجيش الفرنسي، فما بالك بالتمتع بأغنية باتت نشيدا قوميا للفرنسيين الذين كانوا مع احتلال الجزائر لآخر رمق؟ لقد نفضت الأغنية هذه بعض الغبار الذي تراكم في السنوات الأخيرة على روحي الثورية، ذلك الغبار المتمثل في أن الفن لغة عالمية، ويجب تقديره والتركيز عليه بذاته، لا خلفيات مُؤدّيْه، لأصل إلى ذات النتيجة القديمة، أن الفن سياسي بأصله، وإن لم نجد رابطا واضحا بين الفن والسياسة في أي عمل فني، فإننا لم نبحث كفاية بعد.
وهذا على النقيض من الحقيقة المتداولة، من أن الموهبة الحقيقية لا تنتج إلا من روح حرة. كما قال بوريس جرويس الفيلسوف والألماني والناقد الفني الأشهر: للفن قوته الخاصة في العالم، وقوته حاضرة في
السياسة العالمية الحالية، بقدر ما كان له أثر في سياسات الحرب الباردة سابقا.
يعتقد بعض الفنانين والنقاد الاجتماعيين أن الفن عديم الفائدة كأداة للتغيير السياسي، ومع ذلك هناك أمثلة عديدة تثبت أن الفن يستخدم في خدمة التغيير السياسي. يقول الشاعر البريطاني شيلي: الشعراء هم المشرعون غير المعترف بهم في العالم. وكذلك يقول الشاعر الإيطالي أنغاريني في مقابلة أجراها مع المخرج باسوليني حول تجاوزات الفيلم الوثائقي "لقاءات الحب" عام ١٩٦٤؛ إن أساس الشعر تجاوز كل القوانين.
أما السياسي ديفيد إيستون، فقد عرف السياسة على أنها: تحديد لقيم المجتمع. وهذا يعني ضمنيا أن السياسة ليست نظاما محايدا اجتماعيا، فهي تحدد ما هو جيد وما هو سيئ، وما هو مسموح به وما الذي يعاقب عليه، وما هو ذو قيمة، وما لا قيمة له. وقد يتم هذا بشكل جماعي وتعاوني في نظام يسمى ديمقراطي، أو قد يتم ذلك غصبا من جانب واحد كنظام دكتاتوري، ثم يتدخل الاقتصاد والقيم الرأسمالية، لكن في النهاية السياسة تقوم ضمنيا بتحديد القيم العامة لأي مجتمع.
والفن بجميع أشكاله ليس إلا تعبير صريح عن تلك القيم؛ فعندما يرسم الرسام حقلا، فإنه يخلق قيمة لطبيعة الريف. وعندما يكون الممثل بطلا أو شريرا، فإنه يضع لنا أساسا لتقييمنا لمقاييس كون الإنسان جيدا أو سيئا. وعندما يصور المصور صورة، فإنه يحدد لنا مقاييس الجمال الذي يجب أن نتوقعه في الشيء الذي صوره أيّا كان. وعندما يغني مغن عن قلبه المكسور وشغفه اللامتناهي، أو عن الجنس الرخيص وإدمان المخدرات، فإنه يخبرنا عن كيف يجب أن نعتقد أنه صحيح وجيد للحب وللعلاقات الجنسية.
إن كل شكل من أشكال الفن يرفع القيم التي يُتوقع منا قبولها أو رفضها لأننا نقدر الفن، ولذا، نعم، الفن سياسي، وكل الفنون سياسية لأن الفن يرسم وجهة نظر عالمية. والفن الحديث تحديدا هو تفكير جماعي، وأيديولوجيته، سياسة لا فن، والجميع يقرأ على شيخ واحد:
الليبرالية.