هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يوجد شخص في التاريخ الإسلامي اختلف حوله الفقهاء والفلاسفة والمفكرون مثل اختلافهم حول الغزالي.
لقد كان الغزالي تجسيدا حقيقا لذروة الفكر الإسلامي وتناقضاته في آن معا، وكانت حياته الفكرية والدينية والسياسية تجسيدا لاضطرابات وتجاذبات عصره.
كتب الجابري في كتابه التراث والحداثة "لم يكن الغزالي مرآة انعكست عليها ثقافة عصره وحسب، بل لقد كان أيضا ساحة التقت عندها مختلف التيارات الفكرية والأيديولوجية التي عرفها الفكر العربي الإسلامي إلى عهده، وقد استكملت مراحل نموها وأسباب نضجها، فعبرت على لسانه ومن خلال سلوكه وتجربته الفكرية عن مدى تنوعها واتساع آفاقها، عن صراعاتها وتناقضاتها، وأيضا عن بلوغها مرحلة الأزمة".
تميز الإنتاج الفكري للغزالي بتنوعه وعمقه وكثرة مواضيعه، وقد بلغت كتبه المئات، ما يزال جزء منها مفقودا إلى الآن.
كان فقيها (المستصفى في الأصول) ومتكلما (إلجام العوام عن علم الكلام/ الاقتصاد في الاعتقاد) وصوفيا (معارج القدس/ مشكاة الأنوار) وأخلاقيا (إحياء علوم الدين) ومنطقيا (معيار العلم في المنطق) وفيلسوفا (تهافت الفلاسفة/ مقاصد الفلسفة).
اختلف كثير من المفكرين حيال الغزالي، بين من اعتبره حجة الإسلام والمنافح الأقوى عن السنة، ومنهم من أخذ عليه ضعف الجانب العلمي على حساب الجانب الإشراقي، فأدرجوه ضمن الحكماء الشرقيين بين ابن سينا والسهروردي، ومنهم من ذهب أبعد من ذلك، فاعتبره مهدما للمعقول على حساب اللامعقول.
من المدافعين عنه: الغزالي بحر مغدق (الجويني)، لا يعرف فضله إلا من بلغ أو كاد يبلغ الكمال في عقله (النيسابوري)، الغزالي هو الشافعي الثاني (الإمام محمد بن يحيى)، لا يصل إلى معرفة علم الغزالي وفضله إلا من بلغ أو كاد الكمال في عقله (أسعد المهيني).
وكتب تاج الدين السبكي في الغزالي:
حجــة الإســلام ومحجـة الــدين التـي يتـوصـل
بهـا إلـى دار الســلام، جـامــع أشتات العلـــوم
والمـبرز فـي المنقــول منهـا، جرت الأمـة قبـله
بشــأو ولـم تقـع منـه بالغـايـــة ولا وقــف عنــد
مطلـب وراؤه مطلـب لأصحــاب البدايـة والنهاية
حتــى أخمـل مـن القرنـاء كـل خصـم، بلـغ مبلغ
السهــام وأخمــد مــن نيـران البـدع كـل مــا لا
تستطيع أيدي المجالدين مسها.
أما الآراء المخالفة، فهي كثيرة أيضا:
كتب ابن الجوزي:
.. وصنف فـي هذه المدة كتابه إحياء علوم الدين
وهو كتـاب عجيب، يشتمل على علـوم كثيرة من
الشرعيـات، وممزوج بأشياء لطيفة من التصوف،
وأعمال القلـوب، لكن فيه أحـاديث كثيرة، غرائب
ومنكرات، وموضـوعات كمـا يوجد فـي غيره مـن
كتـب الفـروع... وقـد شنـع عليـه ابن الصلاح في
ذلـك تشنيعـا كثيرا وأراد المازري أن يحرق كتابه
إحياء علوم الدين.
وقال فيه أبو بكر الطرطوشي "شحن أبو حامد كتابه الأحياء بالكذب على الرسول، فلا أعلم كتابا على بسيط الأرض أكثر كذبا منه".
وقال ابن تيمية "في كتبه أقوال يدعي أنها أسرار الحقائق التي تشير إليها بعض الآيات القرآنية، في حين أن تلك الأقوال هي قول الصابئة المفلسفة بعينه قد غيرت عباراتهم وترتيباتهم".
وقال نيل ديغراس تايسون ".. ثم يأتي القرن 12 وتظهر شخصية أبي حامد الغزالي الذي يعتبر الرياضيّات رجسا من عمل الشيطان وهو ما أسّس لما هو عليه الإسلام اليوم من خلال أفكاره، ولم يتعاف من أفكاره إلى اليوم من مُعاداة العلوم العقليّة".
أما المستشرق الهولندي وينسينك، فقد قال: ".. أما بالنسبة للأفلاطونية المحدثة والمسيحية، فإن تأثيرهما فيه بلغ مدى أصبح معه من المتعذر تصور الغزالي بدونهما"، وإلى هذا الرأي ينضم مؤرخ العلوم الفرنسي بيير دوهايم.
وقال الجابري "إن انتصار العقل المستقيل في الغزالي قد خلف جرحا عميقا في العقل العربي ما زال نزيفه يتدفق"، ويكتب في تكوين العقل العربي "تبنى الغزالي في تصوفه الفلسفة الدينية الهرمسية بجميع أطروحاتها الأساسية".
النشأة
هو محمد بن محمد بن أحمد الطوسي المعروف باسم أبي حامد الغزالي، 1058- 1113م، نسبة إلى قريته غزالة التابعة لمدينة طوس (مشهد الرضا) في خراسان شمالي شرق إيران.
تلقى العلم في طوس على يد يوسف النساج ثم أحمد بن محمد الراذكاني الطوسي، قبل أن يذهب إلى جرجان وهو في سن العشرين، ليتلقى العلم على يد أبي نصر الإسماعيلي.
أثناء تجواله بين هذه المدن، تعرض لقطاع طرق، وقد كتب في ذلك يقول:
قطعــت علينـا الطريـق وأخـذ العيــارون جميــع
مـا معـي ومضوا فتبعتهم، فالتفت إلي مقدمهم
وقـال: ارجع ويحك وإلا هلكت! فقلت له: أسألك
بـالذي ترجو السمة منه أن ترد علـي تعليقتـي
فقط فمـا هـي بشـيء تنفعـون به، فقــال لي:
وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة
هـاجـرت لسمــاعها وكتـابتهـا ومعرفـة علمهــا،
فضحـك وقـال: كيف تدعـي أنـك عرفت علمهـا،
وقـد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها وبقيت
بــلا علـم؟ ثـم أمر بعض أصحــابه فسلـم إلــي
المخــلاة، فتركت تلك الحـادثة في نفسي أثرا
كبيرا وقلت فـي نفسـي: هذا مستنطق أنطقه
الله ليرشدني به فـي أمري، فلما وافيت طوس
أقبلت علـى الإشغال ثلاث سنين حتـى حفظت
جميـع مــا علقتـه، وصـرت بحيـث قُطــع علـــي
الطريق لم أتجرد من علمي.
بعد ذلك، انتقل الغزالي إلى مدينة المعرفة نيسابور، فتلقى العلم على يد إمام الحرمين أبي المعالي الجويني إمام الأشعرية في عصره.
ولما توفي الجويني، ضاق صدر الغزالي فترك المدينة، فساقه القدر إلى مدينة معسكر حيث الوزير السلجوقي نظام الملك، فأكرمه وجعله من مجالسيه، وقد تميز مجلس الوزير بكثرة العلماء والخطباء والشعراء.
طلب الوزير من الغزالي التدريس في المدرسة النظامية ببغداد عام 1192م، لكن مهنة التدريس لم تلق صدى لديه، فقال فيها:
هـي غير صـالحة لوجـه الله تعـالى بل باعثها
ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت
أني عل شفا جرف هار.
غادر بغداد، فدخل الشام واعتكف في مسجد دمشق فيصعد منارة المسجد طوال النهار ويغلق بابها على نفسه، ثم رحل إلى القدس، فكان يدخل قبة الصخرة ويوصد بابها عليه، ثم ارتحل إلى الإسكندرية، ومنها جال في بعض المدن، قبل أن يعود إلى مدينته طوس ليتفرغ للتأليف.
اضطرابات العصر
تميز عصر الغزالي باضطرابات سياسية ودينية وفكرية حادة، وكثير من مواقفه وكتبه ارتبطت بضرورات عصره: الصراعات بين أفراد الأسرة السلجوقية الحاكمة، ثورات الحركات الباطنية الدموية، الصراعات المذهبية السُّنية فيما بينها، الفتن بين السُّنة والشيعة، الغزو الصليبي.
ولعل ما قاله الحارث ابن أسد المحاسبي يعتبر أدق توصيف لتلك المرحلة:
رأيت زمانا مستعصيا قد تبـدلت فيـه شرائـع
الإيمان، انتفضت فيه عرى الإســلام وتغيرت
فيـه مـعـالم الـدين وانـدرسـت منـه الحـدود
وذهـب الحـق وبـاد أهلـه وعـلا البـاطل وكثر
أتباعه ورأيت فتنا متراكمة يحـار فيهـا اللبيب
ورأيـت القـوى غـالبا وعــدوا متمكنا وأنفسـا
وآلهـة عـن التفكيـر محجـوبة وحـللهـا الريــاء
فعميت عن الآخرة.
كتب ابن الجوزي أن ملك السلاجقة أبو طالب طغرل بك سيطر على نيسابور ثم سيطر على كامل خراسان، ثم اتجه بعد ذلك بسنوات إلى بغداد وقضى فيها على الدولة البويهية عام 1055.
ويذكر علي الصلابي أن السلاجقة ساندوا الخلافة العباسية في بغداد ونصروا مذهبها السنّي بعد أن أوشكت على الانهيار بين النفوذ البويهي الشيعي في إيران والعراق، والنفوذ العبيدي (الفاطمي) في مصر والشام.
لكن الدولة السلجوقية شهدت الكثير من الاضطرابات نتيجة الصراعات الداخلية، فقتتل في البداية الملك طغرل بك مع أخيه إبراهيم، ثم حدثت بعد ذلك ثورة أبي الحارث أرسلان البساسيري الذي قاد حملات التمرد، حتى استطاع بمعونة الخليفة المنتصر الفاطمي أن يخلع الخليفة القائم من الحكم قبل أن يعيده السلطان طغرل بك إلى مكانه بعد أن قضى تماما على البساسيري الذي نشر الخوف والرعب في الناس.
بعد وفاة طغرل بك خلفه ابنه ألب أرسلان، فتوالت الفتن الداخلية بينه وبين ابن عمه قطلمش بن إسرائيل، وبعد وفاة ألب أرسلان تولى الحكم بعده ملكشاه، الذي واجه ثورة عمه قاورت.
رافق هذه الأحداث السياسية ظهور خطر الإسماعيلية الباطنية الذين قتلوا كثير من العلماء والأمراء، ولم يسلم من بطشهم حتى الوزير نظام الملك، فقتلوه، ثم قتلوا ابنه فخر الملك.
وكسبت الحركة الإسماعيلية شيعا وأنصارا، وأصبحت مؤسسة في غاية السرية يرهب جانبها وتخشى غائلتها، حتى أصبحت قوة تحسب لها الإمارات الإسلامية حسابا كبيرا.
لكن التحول الخطير كان عام 482 هـ / 1089 ـ 1090م، حين أسس الحسن بن الصباح الدولة الإسماعيلية النزارية بعد استيلاءه على قلعة ألموت، وهي حصن جبلي موجود في وسط جبال البرز أو جبال الديلم جنوب بحر قزوين في (مدينة رود بار) بالقرب من نهر شاه ورد، وتبعد حوالي 100 كم عن العاصمة طهران.
ثم كانت الفتن المذهبية والعقدية بين أتباع المذاهب، فكانت الصراعات بين الأشاعرة والحنابلة، ثم بين السنة والشيعة.
في هذه المرحلة بدأ الغزو الصليبي على ديار الإسلام، فنجحوا بداية في السيطرة على طليطلة عام 1085م ثم سيطروا على بيت المقدس عام 1099م، لتكون اللوحة السياسية، اختراق صليبي يترافق بانقسام سياسي جغرافي: الدولة السلجوقية في العراق وخرسان والدولة الفاطمية في مصر والشام ودولة الحسن الصباح في فارس وقلعة ألموت في بلاد الديلم ودولة المرابطين في شمالي إفريقية.
بين الشك واليقين
ظلت مسألة البحث عن اليقين تؤرق الغزالي، واضطره الأمر إلى قراءة كل الأفكار والمذاهب المنتشرة في عصره، كتب:
لم أزل في عنفوان شبابي وريعــان عمـري منذ
راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلـى الآن وقد
أنـاف السن علـى الخمسين، اقتحم لجــة هـذا
البحر العميق لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلــع
علــى بـاطنيتـه ولا ظــاهريـا إلا وأريـد أن أعلــم
حاصل ظـاهريته ولا فلسفيـا إلا وأقصـد الوقـوف
علـى كنـه فلسفته ولا متكلمــا إلا واجتهـد فـي
الإطــلاع على غـاية كـلامه ومجادلته ولا صوفيا
إلا وأحرص علـى العثور علــى سر صـوفيته ولا
متعبدا إلا واترصـد ما يرجع إليـه حـاصل عبــادته
ولا زنديقـا معطــلا إلا واتجسس وراءه للتنبـه لــ
أسباب جرأته في تعطيله وزندقته.
للوصول إلى العلم اليقيني، بدأ الغزالي بالفطرة الأصلية للإنسان لأنها واحدة لدى البشر، والعلم اليقيني عنده، هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم.
عمد إلى تصفح العلوم بحثا عن العلم اليقيني، فلم يجد علما يتصف بهذه الصفة، إلا في الحسيات والعقليات، لكنه سرعان ما شك فيهما: فلا يمكن الركون إلى الحسيات، ذلك أن حاسة البصر وهي أقوى الحواس ترى الظل ساكنا والتجربة تدل على أنه يتحرك، وترى الكواكب صغيرة وهي على الحقيقة أكبر من الأرض، وكذلك الأمر في ما يتعلق بالعقليات، ذلك أنه يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسببتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوما بالإضافة إليها.
وظل الغزالي على هذا الوضع من الشك قرابة الشهرين، حتى قذف الله في صدره نور إلهي انكشفت على أثره البديهيات والحقائق الأولى.
ويعتبر بعض الباحثين أن الغزالي سبق ديكارت بالمنهج الشكي العلمي، في ما يرفض آخرون وصف هذا الشك بالعلمي، فإذا كان قد اعتمد الاكتساب سبيلا للتعلم، فإنه اعتبر أن العلم اليقيني لا يتأتى إلا بالذوق.
وانكشاف البديهيات والحقائق الأولية ليست عملية سهلة ومتاحة للجميع، بل هي عملية صعبة للغاية لا تأتي إلا لمن رحم ربك وأراد به خيرا، وقليل ما هم!
ويرى الغزالي أن هناك طريقين للمعرفة الصوفية: الحدس والاكتساب، الأول خاص حيث لا يحصل لكل إنسان، والثاني يمكن أن يحصل بالاستدلال والتعلم.
وقد وصلت معرفة الغزالي إلى:
ـ الحدس الصوفي: الذي يكون عند أى إنسان.
ـ الدراسة والتعليم: الذي يكون أفضل استدلال.
ـ العلوم الضرورية: حاضرة في النفس مكشوفة للعيان.
ـ مقومات الصوفية: الزهد، حب الله، الفناء فى الله، الإلهام.
انتقل الغزالي بعد ذلك لمعاينة أصناف الطالبين للعلم اليقيني، فوجدهم أربعة أصناف:
ـ المتكلمون، وهو علم واف بمقصود المتكلمين غير واف بمقصود الغزالي.
ـ الفلاسفة، ممن يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان، فعلومهم الرياضية ومنطقهم لا يتعلقان بالأمور الدينية نفيا أو إثباتا، أما إلهياتهم فهي أكثر أغاليطهم.
ـ الباطنية، وهم أصحاب التعليم لأنهم يقصرون العلم على الاقتباس من الإمام المعصوم.
ـ الصوفية، وهم أهل المكاشفة والمشاهدة.