قضايا وآراء

الدولة الوظيفية في أحضان الكيان الصهيوني رسميا

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600

تساءلت في مقالي السابق؛ لمصلحة مَن ستكون المعركة التي تستدعيها الإمارات وتريد إشعال نيرانها بين مصر وتركيا؟ لكي نفهم حقيقة دورها الوظيفي ولمَن تلعب ولصالح مَن، وما هي الدولة التي يهمها إضعاف أقوى جيشين في المنطقة، والزج بهما في معركة المنتصر فيها مهزوم.

ولم يمض يوم واحد إلا وقد جاءت الإجابة من الإمارات نفسها، وعلى مسمع من العالم كله؛ فقد أعلنت رسميا تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني في جميع المجالات، على لسان "ترامب" الذي كان شاهدا على هذه الاتفاقية الحرام التي أطلق عليه زورا وبهتانا "اتفاقية سلام"، وكأنهما كانا في حالة حرب، وليس في حالة عشق وغرام مكشوف أمام البعيد قبل القريب! إنه أول اتفاق سلام يحدث في التاريخ بين المُحتل وعميله!!


لم يكن هذا الإعلان مفاجئا لمَن يتتبع مسيرة أبو ظبي منذ أن اعتلى "محمد بن زايد" سدة الحكم فيها، فكل الأحداث كانت تشير إلى ذلك، بل هو تحصيل حاصل، وربما تأتي الدهشة من تأخر إعلانه رسميا كل هذا الوقت. فالتطبيع بين الجانبين كان يجرى على قدم وساق منذ أمد بعيد، وازدادت وتيرته منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، واشتركا معا في إجهاضها، وكانا وقودا للثورة المضادة، فالاثنان ضد الديمقراطية وحرية الشعوب العربية.

والتطبيع أخذ أشكالا عدة: تطبيعا رياضيا باستضافة الفرق الرياضية والاحتفاء بها، ورفع العلم الصهيوني في سماء "أبو ظبي" مع عزف النشيد الوطني للكيان الصهيوني، وتطبيعا ثقافيا، واستقبال وزيرة الثقافة والرياضة الصهيونية المتطرفة "ميري ربغيف" بالورود والرياحين، واصطحابها لزيارة مسجد "الشيخ زايد"، وهي التي وصفت الأذان من قبل بـ"نباح محمد"!! لقد أجهشت بالبكاء من كرم الضيافة، فلقد تحقق الحلم الصهيوني الذي طال انتظاره كثيرا، وأصبح في استطاعة الصهيوني أن يتجول في الدول العربية في وضح النهار وعلى مرأى من العالم كله، دون إخفاء لهويته الصهيونية!!

كما كان هناك تطبيع عسكري، فاشتركا معا في مناورات عسكرية مشتركة عامي 2016 و2017 ، بالإضافة لشراء أبو ظبي الأسلحة من الكيان الصهيوني، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، طائرات التجسس وأدوات استخباراتية حديثة، وأنظمة دفاع جوى متطورة أرسلتها إلى ليبيا لدعم المنقلب المجرم حفتر..

ولعب الفن دورا هاما في التطبيع، فقد أنتجت "أبو ظبي" مسلسلات متصهينة بلا أدنى حياء وعرضتها في شهر رمضان الفائت، بعدما أصبح العشق الصهيوني لولي العهد علنا، بعد أن ظل سنوات طوال مختفيا وراء الستار!!

وكذلك فعلت محطات مملوكة من السعودية وتبث من دبي؛ فقدمت مسلسلات تلقي الضوء على تاريخ العلاقات المتميزة بين العرب واليهود!! فمسلسل "أم هارون"، يشيد بروعة الأم اليهودية مقارنة بجاراتها العربيات!!

وقدموا مسلسلا آخر يدعو للتطبيع مع العدو الصهيوني، بصراحة غير مسبوقة، باسم "المخرج7"، وفيه يطرح موضوع التطبيع بفجاجة وتضليل؛ حيث أنه يتعدى رغبة بلد في التطبيع، بل لتبرير ذلك بهجوم على الشعب الفلسطيني بأقسى الاتهامات التي يصعب عرضها في قناة عربية، إلا بأمر من "ابن زايد" وابن سلمان مباشرة!

كانت هناك حملات منظمة؛ لتجميل الوجه القبيح للعدو التاريخي للأمة، وتصويره في صورة المسالم الراقي والمتحضر (أبناء العمومة)، عبر الدراما والبرامج التلفزيونية المختلفة وشبكات التواصل الاجتماعي، وتصريحات ممن يطلق عليهم النخب الإماراتية لتعميق هذا المفهوم المضلل في الوجدان العربي، لتغيير البوصلة والترويج للتطبيع. ومن السخرية بمكان أن الصهاينة أنفسهم لا يؤمنون إطلاقا بما يسمى "التطبيع" مع العرب لأسباب دينية بحتة، ترجع لمفهومهم للتوراة، لكنهم يظهرون ما لا يضمرونه للعرب من كراهية وازدراء واحتقار، لكسب مزيد من التعاطف الدولي..

لقد استقبلت دولة "المؤامرات" الوزراء والشخصيات الصهيونية من جميع المجالات، في مؤتمرات عديدة أقامتها في "دبي"، وقد تسرب مؤخرا أن نتنياهو قد زار أبو ظبي مرتين سرا، كما زار مسؤولون إماراتيون الكيان الصهيوني سرا وعلنا عشرات المرات. وقامت أبو ظبي بشكل علني بإرسال طائرتين محملتين بمعدات الحماية الشخصية خلال أزمة كونونا إلى مطار "بن غوريون"، ولقد سمحت للطائرات الإماراتية بالذهاب مباشرة إلى المطارات الصهيونية، كما أبرمت العديد من الصفقات التجارية الكبرى، ولقد أبرمت مؤخرا اتفاقية تعاون بينهما في مكافحة فيروس "كورونا"!!

لقد ولى عهد السرية إلى غير رجعة، وطويت لاءات الجامعة العربية (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني) التي أطلقت في قراراتها، بعد هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967، في ستائر النسيان، كما دفنت مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك "عبد الله بن عبد العزيز" عام 2002، التي تبنتها الجامعة العربية واعتبرتها أساسا للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتشترط إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليا على حدود 1967، وعودة اللاجئين، وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية وتل أبيب..

ولكي تستوفي الإمارات جميع الأوراق المطلوبة ويتم اعتمادها رسميا من الكيان الصهيوني، كان لا بد لها من بناء المعبد اليهودي على أراضيها وتتم الصلاة فيه. ولقد احتفت الأوساط الإعلامية والدينية في الكيان الصهيوني بإقامة أول صلاة سبت في جزيرة العرب!! هذا بخلاف استجلاب ما يقرب من ثلاثة آلاف يهودي من دول مختلفة للإقامة في الإمارات، وإنشاء حساب رسمي لهم على موقع تويتر يُعرف باسم "الجالية اليهودية في الإمارات"، في الوقت الذي تطرد فيه الفلسطينيين من أراضيها!!

هذا ما كان معلنا للجميع، وحرصت "أبو ظبي" على إبرازه بحجة نشر روح التسامح والسلام في المنطقة، لتجميل العلاقة الحرام بينها وبين الكيان الصهيوني، أما ما كان مخفيا ويجرى من وراء الكواليس فكان أعظم وأخطر. فتعاون "أبو ظبي" مع "تل أبيب" في مواجهة الإسلام تحت مسمى محاربة "الإرهاب" كان الهدف الرئيس لتقاربهما، وأهم ما يجمع الدولة الوظيفية بالدولة المُوْظِفّة، أي التابع والمتبوع.

فالاثنان يضمران كرها شديدا للجماعات الإسلامية، خاصة الإخوان المسلمين، ويخشيان على كيانيهما منها. فابن زايد يصفها بالخطر الإسلاموي المحدق، لذلك فقد أصبحت المعركة بالنسبة لهما مصيرية، ومعركة وجود، وأصبحا شيئا واحدا.. أحدهما يفكر ويخطط والآخر ينفذ وينفق المليارات على المؤامرات. لكن المُنفذ أو الخادم ليس كالسيد صاحب العقل المدبر، ولا يمكن أن يرتقي إليه بأي حال من الأحوال، وإن كانا في النهاية يصبان في كيان واحد، بحيث يمكننا القول بأن الإمارات قد أصبحت ولاية من ولايات الكيان الصهيوني، فهو يستخدمها لتحقيق أهدافه ومصالحه القومية، ولكن لا يحق لها أن تلعب دورا أكبر من حجمها، ولا أن تناطحه في السحاب الشرق أوسطي، الذي يسعى طموح "محمد بن زايد" للشراكة فيه، فلا بد من إيقاف الدولة الوظيفية عند حدها المرسوم لها وألا تتخطاه، وإن كانت تتم مجاراة واستغلال طموحه (ابن زايد) المجنون هذا، لتحقيق مآرب الكيان القومية.

ولعل السجال الذي تم بين سفير الإمارات في الولايات المتحدة "يوسف العتيبة"، وبين مستشارة نتنياهو السابقة "كارولين غليك" منذ شهر يوضح تلك العلاقة الجدلية أو غير المتكافئة. فقد كتب "العتيبة" في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الصهيونية أن "الإمارات وإسرائيل تستطيعان من خلال امتلاكهما لأفضل القدرات العسكرية في المنطقة وقلقهما المشترك إزاء الإرهاب والعدوان وعلاقتهما العميقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إقامة تعاون أمني أوثق وأكثر فاعلية".

وفي فقرة أخرى من المقال يقول: "ولأنهما القوتان الاقتصاديتان الأكثر تقدما وتنوعا في المنطقة، فإن بإمكانهما توسيع الروابط التجارية والمالية وتسريع النمو والاستقرار في مختلف أنحاء الشرق الأوسط".

فردت عليه "كارولين غليك" بعنجهية شديدة واستخفافا بدولته، في صحيفة "إسرائيل اليوم" قائلة: "إن الجانب الأقوى في هذه الشراكة هي إسرائيل، فالاقتصاد الإسرائيلي أقوى بكثير من الاقتصاديات النفطية في دول الخليج الفارسي (ولم تقل العربي إمعانا في التحقير). فمن ذا الذي يظن العتيبة أنه يخوفه بتهديداته بينما يباع برميل النفط الآن بسبعة وثلاثين دولار؟".

هذا هو الكيان الصهيوني بكل صلفه وغطرسته، والذي تهرول إليه الأنظمة المتصهينة الذليلة في سعي محموم للتطبيع معه، لتنال رضاه السامي وشرف حمايته. وهنا تحضرني رائعة الشاعر الراحل "نزار قباني" (المهرولون):

"ودخلنا في زمن الهرولة

ووقفنا بالطوابير، كأغنام أمام المقصلة

وركضنا ولهثنا وتسابقنا لتقبيل حذاء القتلة"

وليتهم يا "نزار" توقفوا عند تقبيل حذاء القتلة، بل إنهم شاركوه في القتل، واستعملوا بندقيته في قتل أبناء الأمة، ليس في فلسطين فحسب، بل في سوريا وليبيا واليمن والعراق ولبنان!

من المؤسف أنه في الوقت الذي خيم الصمت في الجامعة العربية، ولم يصدر أي موقف رسمي تجاه هذا الاتفاق الذي أطلق رصاصة الرحمة على المبادرة العربية (وبالمناسبة أنا ضدها منذ أعلنت)، واختفى أمينها العام صديق عميلة الموساد "تسيبي ليفني"، وبلع لسانه ولم ينبس ببنت شفة؛ نجد نشطاء وصحفيين يهودا مناهضين للاحتلال يهاجمون تطبيع العلاقات بين الإمارات والكيان الصهيوني، مبررين ذلك الرفض بأن الاتفاق يأتي في إطار مساعي تلميع كل من الاحتلال الصهيوني وممارساته الوحشية في الأراضي الفلسطينية، والإمارات وانتهاكاتها الجسيمة في اليمن..

ولا يمكننا أن نغفل عن توقيت وسياق هذا الاتفاق المشبوه، فقد جاء في وقت كل من أطرافه الثلاثة (عرابها "ترامب"، "نتنياهو"، "محمد بن زايد") في أزمة. حقا إنه اتفاق "المأزومين" كما أطلق عليه الكاتب الصحفي "فراس أبو هلال". فترامب يواجه مشكلات داخلية كبيرة، خاصة بعد فشله في معالجة أزمة "كورونا"، وتصاعد أزمته مع الصين، وهو على موعد مع الانتخابات بعد أشهر معدودة، واستطلاعات الرأي تظهر تأخره عن منافسه "بايدن"، ويريد أن يحقق إنجازا سياسيا خارجيا؛ يدعمه ويحظى به بتأييد الصهاينة اليمينيين.

ونتنياهو يواجه تهم فساد موثقة، وهو في أضعف حالاته ويأمل أنه بهذا الاتفاق؛ يستطيع أن يخرج من أزمته ويحسن صورته أمام المجتمع الصهيوني، ويُعاد انتخابه مرة أخرى..

أما محمد بن زايد الذي مُني بهزائم عسكرية وسياسية في ليبيا واليمن، يحتاج لانتصار دبلوماسي يعيد له مكانته.. الثلاثة يعيشون في وهم الانتصارات الزائفة!!

كم من الجرائم العربية تُرتكب باسمك يا فلسطين، وعلى صخرتك تتعرى وتنكشف عورات الخائنين!! على مر السنين؛ تتخذك الأنظمة العربية المتصهينة "سلعة" تتاجر بقضيتك العادلة، وعلى حساب تضحيات شعبك البطل، من أجل مصالحها الخاصة. لقد وصل الفُجر والعمالة بدولة المؤامرات أن تدعى أنها أبرمت هذه الاتفاقية لصالح الفلسطينيين، ولإلغاء قرار الضم ولبناء الدولتين. وهذا ادعاء ساذج ومضلل، سرعان ما فضح كذبه "نتنياهو" في تصريحاته بعد الإعلان عن الاتفاق مباشرة؛ بأن قرار الضم قائم ولكنه مؤجل!!

وفي حقيقة الأمر أن نتنياهو اتخذ قرار تأجيل الضم بعد رفض المجتمع الدولي والغالبية من الشعب الصهيوني له، حيث يُعد انتهاكا صريحا للقانون الدولي، ويخشون عواقبه على المستوطنين الصهاينة..

وفي آخر تصريحات لنتنياهو منذ يومين، يقول: "اتفاق التطبيع مع الإمارات لا يفرض على إسرائيل الانسحاب من أي أراض". كما أكدها عراب الصفقة، ترامب بنفسه، بقوله "إن إسرائيل غير ملزمة الآن ولا في المستقبل بالانسحاب من أي أرض"..

أما الصدمة القوية التي تلقتها "أبو ظبي" فكانت بالأمس من الحبيب، خلال احتفال عرسها فأفسد عليها سعادتها ونشوتها، باستضافة العريس "نتنياهو" على شاشتها "سكاي نيوز عربية"، حينما سألته المذيعة وهي على ثقة، أن يرد التحية ويؤكد تبرير الإمارات بأن الاتفاقية كانت مقابل وقف الضم، ولكنه أبى إلا أن يفضحها، كعادة الصهاينة دائما مع عملائهم العرب، وقال: "بصراحة كان هذا استجابة لمطلب أمريكي".

لن يستفيد من هذه الاتفاقية الملعونة سوى الكيان الصهيوني الذي يريد التوغل في قلب الأمة العربية، وتتسلل شركاته إلى دولها، وتذهب أموالها للاستثمار في أرض فلسطين المحتلة لتمتلئ خزائن العدو الصهيوني بمئات مليارات الدولارات؟ لم يحلم "بن غوريون"، مؤسس الكيان الصهيوني، بأن يأتي يوم ينقذ فيه العرب الاقتصاد الإسرائيلي، ويضخون في شرايينه الحياه. للأسف الشديد المؤامرة على الأمة تتم بأيد عربية!!

إن أخطر ما في هذه الاتفاقية المشبوهة، والتي ستجر وراءها باقي دول الخليج تباعاً وبعض الدول العربية الأخرى (كما صرح "كوشنير" بان تطبيع العلاقات بين الاحتلال الصهيوني والسعودية أمر حتمي)، أن مثل هذه الاتفاقيات تتعدى "التطبيع" إلى اتفاق "تحالف استراتيجي" على جميع الأصعدة، بحيث تتيح لهذه الدول العربية الانضمام رسميا إلى جانب الكيان الصهيوني، في شن أي حرب ضد الفلسطينيين، أو ضد أي دولة إسلامية، تركيا مثلا أو إيران، وهذا هو مربط الفرس كما يقولون!! وما هذه الاتفاقية إلا نواة لحلف "الناتو العربي الصهيوني"، بقيادة أمريكا والكيان الصهيوني..

لا شك في أن التحالف الإماراتي الصهيوني، في ظل الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، يعتبر خيانة لفلسطين وللقدس والأقصى، وهو طعنة غادرة في صدر القضية الفلسطينية، في محاولة جديدة لتصفيتها، ولكنها ستنتهي بالفشل كما انتهت إليه كل المحاولات السابقة التي سعت لذات الهدف. لقد تلقى الفلسطينيون خلال سنوات نضالهم الطويل، العديد من الطعنات في الظهر من إخوة الدين والدم والتراب، وعاشت فلسطين وظلت القضية الفلسطينية قضية الأمة التاريخية، حية في الوجدان العربي، وفي ضمير كل حر في العالم، ولن تتأثر باتفاقية استسلام جديدة، أو اعتراف من هنا أو هناك. وستظل البوصلة دائما متجهة إلى فلسطين، مهما حاول العدو الصهيوني والأنظمة العربية المتصهينة معه؛ تحويلها في اتجاه آخر بعيدا عن قبلتها، وستظل المقاومة هي الحل لتحرير فلسطين، كل فلسطين من النهر إلى البحر مهما طال الأمد..

twitter.com/amiraaboelfetou

التعليقات (0)