تنضم بيروت إلى قائمة المدن الشهيدة في المشرق العربي، حلب وحمص وبغداد والموصل، هذه الحواضر التي اغتالتها نخب التبعية وأمراء الحروب وتجار الأزمات، وهي صفات من يديرون السياسات في بلادنا.
كمثل وميض البرق، وخلال ثوان معدودة، تحوّلت بيروت إلى حطام مدينة، ولسان حال عمرانها وسكانها يقول من هنا مر عصف مدمّر أدمانا وحطم هياكلنا وقوانا، في وقت كنا نجثو على ركبنا من شدّة أزمة اقتصادية مدمّرة؛ ركبت على ظهرها جائحة كورونا فزادت من وهننا ومن عنائنا.
تقف بيروت، ولبنان كله، على حافة الخطر منذ سنوات طويلة. الانفجار كان حاضرا في وعي الناس وهواجسهم، والجميع في لبنان كانوا ينتظرون حدوث الانفجار، لكن متى وكيف سيحصل، ذلك ما كان غائبا، لكثرة الاحتمالات وتعددها. فكل قضية وكل إشكالية وكل موقف قابل لأن يصبح صاعقا لتفجير المشهد وتحويل البلد إلى ركام.
تقول الرواية إن سفينة قدمت منذ سبع سنوات احتجزتها سلطات الميناء لاكتشافها عيوب تقنية تمنع السفينة من الاستمرار في الإبحار، وبعد مداولات عديدة مع الشركة التي تعود لها ملكية السفينة، ورفض الشركة دفع مستحقات خدمة الميناء، تمت مصادرة حمولة السفينة من مادة نترات الأمونيوم وتخزينها في العنبر رقم 12.
والسؤال الذي تردّد صداه في بيروت، وربما في غالبية دول العالم، هو لماذا بقيت هذه المواد الخطرة لمدة سبع سنوات دون إيجاد حل لقضيتها؟ ولماذا لم تتحرك الجهات المسؤولة لإنهاء هذه القضية؟ وأين جهات تقدير المخاطر وإدارة الأزمات؟ أين صناع القرار؟ هل كان مطلوبا من المواطن اللبناني الذي لا يعلم شيئا عن هذا الأمر إيجاد حل لهذه القضية؟ لماذا إذا وجدت الدولة والوظيفة العامة والمسؤولية؟
في السنوات السبع التي أقامت فيها شحنة الموت في العنبر 12، كانت النخب اللبنانية مشغولة بالبحث عن أدوار إقليمية أكبر من حجمها، كانت تستهلك وقتها وطاقتها في المناكفات والهرطقات
في السنوات السبع التي أقامت فيها شحنة الموت في العنبر 12، كانت النخب اللبنانية مشغولة بالبحث عن أدوار إقليمية أكبر من حجمها، كانت تستهلك وقتها وطاقتها في المناكفات والهرطقات. وفي تلك السنوات السبع ركع لبنان على ركبتيه، بلدا مفلسا وجائعا وطاردا لناسه، أصبحت الجريمة فيه حدثا اعتياديا، لكن كل ذلك كان من سفاسف الأمور أمام المهمات التي اشتغلت عليها نخب لبنان العظيمة.
مصيبة بلاد المشرق أن الأزمة متى ما وقعت في إحداها يصبح الخروج منها مستحيلا، بل في الغالب تولد أزمات عديدة لا تنتهي. العراق دخل في أزمة منذ سنة 1990 وإلى اليوم ليس ثمة أفق بخروجه من هذه الأزمة، وسوريا المأزمة أصلا منذ حكم البعث، دخلت في نفق الأزمة منذ عقد كامل ولا يوجد ضوء ولا نهاية لهذا النفق، والشيء نفسه في لبنان وفلسطين، فالأزمات توجد لتبقى.
أثبتت الأحداث والأزمات أن نخب المشرق مصمّمة فقط لجني المكاسب من الحكم، وهي تجيد حياة الرخاء والرفاهية وتقسيم الثروات فيما بينها؛ فالمسؤوليات العامة بالنسبة لها هي أرصدة في البنوك، سفريات ورحلات، سجاد أحمر وقاعات شرف في المطارات، ومعيار النجاح تجهيز الأبناء لوراثة الآباء في الحكم أو الأحزاب، بالإضافة إلى إسنادهم بعشرات التوكيلات لشركات أجنبية، وشراء الشقق والفيلات في البلاد الأوروبية، مع التأكيد أن هؤلاء الأبناء عصاميون بنوا بأنفسهم كل هذه الثروات فيما كان آباؤهم، المبدئيون، يحرقون أنفسهم لخدمة هذه الشعوب البائسة والدفاع عن قضايا بلادهم التعسة.
في الأزمات، ليس لدى هذه النخب سوى استراتيجية واحدة، وهي تحويل الأزمة إلى مصدر كسب جديد، ومن ثم فإن شروط حل الأزمة يجب أن تتطابق مع مصالح النخب
في الأزمات، ليس لدى هذه النخب سوى استراتيجية واحدة، وهي تحويل الأزمة إلى مصدر كسب جديد، ومن ثم فإن شروط حل الأزمة يجب أن تتطابق مع مصالح النخب، وإذا كانت مصالحها متوافقة مع استمرار الأزمة فليكن، حتى إن جزءا كبيرا من الأزمات جرت صناعته لأن النخب الحاكمة وأمراء الحروب وتجار
الفساد رأوا فيها مخارج من الكساد، أو لتحطيم بوادر بزوغ أمل جديد لدى شعوب المنطقة.
بيروت كانت دائما في قلب هذا السياق، ولم تكن يوما خارج مسارات مأساة المشرق، بل إنها انفجرت باكرا، منذ سبعينيات القرن الماضي، فهي أول حواضر المشرق التي تعولمت وظهرت فيها نخب مرتبطة بالخارج ومنفصلة عن وطنها؛ كان يهمها بالدرجة الأولى تحقيق أعلى درجة من الثراء، ولو على حساب رهن دماء اللبنانيين لأي مشروع جيوسياسي، إسرائيلي أو إيراني وما بينهما.
منذ سنوات عديدة وبيروت تقف على رجل ونصف، هكذا عاقبها أمراء الحرب، وما جعلها تصمد ليس سوى قوّة إرادة شعبها وحبه للحياة. وظني أن الرهان على اللبنانيين لن يذهب سدى، وغدا سيكنسون آثار الدمار من بيروتهم، وفي طريقهم سيكنسون النخبة العفنة التي انتهت صلاحيتها من طول مدة التخزين في العنبر اللبناني.
twitter.com/ghazidahman1