هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يحلّل الناقد المغربي عبدالفتّاح كيليطو في كتابه "الغائب" إحدى مقامات الحريري، وهي المقامة الكوفية، وإن كان فن المقامات أكثر فن نثري قديم تعرّض للدراسة والبحث في العصر الحديث فإنّ لكيليطو طريقته التي تميزه عن كثير من الباحثين في قراءة التراث العربي القديم عامةً، وفن المقامات خاصةً. وقد ظهر هذا التميّز مبكرا في كتابه "المقامات: السرد والأنساق الثقافية" وهو في الأساس أطروحته لنيل الدكتوراه.
ليس من عادة عبدالفتاح كيليطو، أن يعلن عن طريقته وآلياته في قراءة التراث وتحليله، غير أنّ المتابع لكتاباته لن يجد صعوبة في تمييز أنه يلجأ غالبًا إلى القراءة التفكيكية، لذلك سنسعى إلى شرح موجز لهذه الطريقة(1) يمهّد لنا فهم آلية تعامله مع مقامة الحريري الكوفية. تقوم التفكيكية على أربع ركائز أساسية، هي:
أولاً: التفكيكية طريقة في القراءة و ليست منهجا، بل إن فكرتها تقوم على تقويض المنهجية.
ثانيًا: ترتبط التفكيكية بمرحلة ما بعد البنيوية، ولكن هذا لا يعني أنها تخلّت عن البنيوية؛ إذ إن الخطوة الأولى في القراءة التفكيكية هي الكشف عن البنية والتموضع فيها، ومن ثم السعي إلى تقويضها وهدمها. لذا فإن التفكيكة لا تعترف بالمركزية.
ثالثًا: إن فكرة نقض المركزية تقود إلى أفكار أخرى مرتبطة بها: إذ إن تخلي القارئ/ الناقد عن المركزية يقود إلى تخليه عن المعنى؛ فهو يهدم المعنى المركزي ويبني مكانه معنى آخر في الوقت الذي يرفض فيه أن يحل المعنى الجديد محل الأول.
الأمر الذي يقودنا إلى البحث عن معنى آخر، أي إلى تعدد المعاني، ومن ثم، إلى لا نهائية المعنى؛ أي إلى انتفاء المعنى في المحصلة. وهو ما يلتزم به كيليطو جزئيا في دراساته؛ إذ إنه في طريقه إلى هدم المعاني التقليدية في المقامة، يلجأ إلى تقديم قراءة مغايرة، فهو لا يلجأ إلى الحسم في المعاني، بل يُبقي الباب مشرعًا. غير أنه لا يتطرف في تطبيق التفكيكية فلا يسعى في قراءته إلى قتل المعنى.
رابعا: انتفاء المعنى وتقويض المركزية يقودان إلى انتفاء المرجعية، وإن كان الناقد في هذه الدراسة يتعامل مع التراث فإن انتفاء المرجعية يحرره من التأويلات الكلاسيكية التي حملتها بطون الكتب التراثية. الأمر الذي يطلق العنان لأفكار كيليطو وخياله في التعاطي مع النصوص التراثية؛ مما يحوز على إعجابنا أكثر من اقتناعنا. ولكنها في المحصلة قراءة منسجمة مع الآلية التي يتبعها في قراءة التراث.
ملخّص المقامة الكوفية
يروي لنا الحارث بن همام –وهو الراوية الرسمي لمقامات الحريري- قصةَ تسامره مع مجموعة من الأصدقاء الذين يتصفون بالبيان، حتى إنهم تفوقوا به على وائل بن سحبان، وتبادلهم الأحاديث والأشعار إلى حين غياب القمر.
الأمر الذي يعني انتهاء السمر وافتراق الأصحاب، غير أنهم سمعوا صوت مستنبح –أي طالب ضيافة- فإذا هو رجل فصيح تطيعه البلاغة في النظم والنثر. وحينما يعيد الخادم إشعال السراج سيعرف الراوية أنّ الضيف هو أبو زيد السروجي، بطل مقامات الحريري المتكرر، وبعد أن يكرموه يطلبون منه أن يروي لهم قصة من العجائب التي شاهدها في أسفاره. وسيروي لهم أبو زيد القصة التي حدثت معه في ليلته هذه:
فقد طرق بابا يطلب الاستضافة بشعر بليغ تتقطع له الأكباد، ليتلقى الرد من غلام يماثله في البلاغة ويخبره بأن البيت خال من الطعام والشراب وأن أصحاب البيت أكثر فقرًا من السائل. وسيعجب أبو زيد بالغلام ويسأله عن نسبه ويستزيده إيضاحا؛ فيعرف أنه غلام يعيش مع أخواله وأن والده هجر أمه وهو لا يزال جنينا في بطن أمه وانقطعت أخباره. ليكتشف أبو زيد أن الغلام ابنه الذي تركه جنينا في بطن أمه، ولكن الفقر وصفر اليد يمنعانه من ضم ابنه إليه كما يدعي.
يتأثر المستمعون بقصته، ويتعهدون له بنصاب من المال كتبوا له به وصلا. حتى جاء الصباح واستلم أبو زيد ما وعد به؛ يمضي الحارث معه ليرى ابنه ويستمع أكثر لقوله البليغ. بيد أن أبا زيد يستوقفه ساخرًا منه ومعترفا بأن القصة كلها من خياله، اختلقها ليحتال عليهم.
تحليل المقامة
على الرغم من أسلوب الناقد التشويقي الممتع الذي يدفعك دفعا إلى متابعة القراءة فإن أسلوبه يتسم أيضًا بالتشعب وصعوبة التلخيص، كما أنّ دراساته توصف عادةً بأنها مكتوبة بطريقة تشوّش على الطريقة الأكاديمية في البحث. غير أننا سنسعى إلى عرض أفكاره بطريقه متسلسلة، وذلك لأن الهدف من عرض الدراسة هو شرح أفكار الناقد لا تقليد أسلوبه في الكتابة. وسنعرض هذه الأفكار على شكل نقاط:
أولاً: أبوة الهمذاني
يرى كيليطو أنه ليس من باب المصادفة أن يطلق الحريري اسم الكوفة على مقامته وأن يجعلها الخامسة من حيث الترتيب؛ فإذا طالعنا مقامات الهمذاني وجدنا له مقامة تحمل الاسم نفسه وترتيبها الخامسة من بين المقامات. إنّ هذا يحيلنا إلى اعتراف الحريري بأبوة الهمذاني وتلمذة الأول على يديه؛ ويعترف الحريري في مقدمة مقاماته بأبوة الهمذاني صراحةً بقوله: "وأنّ المتصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فضالته...".
بيد أن القارئ الفاحص سيجد في كتابات الحريري رغبة جامحة في قتل الأب؛ فهو يقول على لسان أبي زيد:
إن يكن الإسكندري قبلي
فالطَّلُ قد يبدو أمامَ الوبلِ
والفضلُ للوابلِ لا للطَّلِ
ويرى كيليطو أن المقامة الكوفية تنقسم إلى قسمين: الأول محاكاة والثاني ثورة. فمقامة الهمذاني تنتهي عندما يتعرف عيسى بن هشام على أبي الفتح، والقسم الأول من مقامة الحريري ينتهي عند التعرف أيضا، في حين تمتد المقامة انطلاقا من رغبة الحريري في قتل الأب، وهكذا يولد القسم الثاني كما سنرى.
ثانيا: ثنائية الليل والنهار
تبدأ المقامة بذكر الليل وتنتهي بذكر النهار، والبداية تحت علامة قمر شاحب والنهاية تحت شمس ساطعة. في الليل يكون الخداع والتهويم والزيف تحت ضوء القمر، وفي النهار يكون الوضوح والحقيقة تحت الشمس الساطعة. فالخداع والكذب موصول بالقمر، والصدق بالشمس. وهنا يكسر الناقد الصورة التقليدية للقمر التي تقوم على الجمال والكمال، ليقدمه بصورة سلبية، ويرى كيليطو أن المقامة تستند إلى معتقدات قديمة قد تعود إلى زمن وثني وثيق الصلة بعبادة الكواكب. ويربط المقامة بثلاثة أبيات لابن المعتز يذم فيهن القمر:
يا سارق الأنوار من شمس الضحى / يا مثكلي طيب الكَرى ومنغّصي
أما ضياء الشمس فيك فناقص/ وأرى حرارة نارها لم تَنقصِ
لم يظفر التشبيه منك بطائل/ متسلّخ بَهقا كلونِ الأبرصِ
وبناء على هذه الأبيات يحلل الناقد مقامة الحريري، وسنجد أن المقامة متشربة بهذه الأبيات متسللة، أو أن الناقد أعاد إضاءة الخط السردي بناء على هذه المقامة؛ فالقمر هو صاحب ضوء مزيف غير صادر عنه، وهو ضوء مستعار. والمقابلة بين نور الشمس ونور القمر تعادل المقابلة بين الملكية الشرعية والملكية المغتصبة المبنية على الخداع.
وفي المقامة حينما يغيب القمر (رمز الزيف) وتقترب السهرة والسمر فيها على الانتهاء( السمر مرتبط بالخرافة والأحلام والخداع أيضا) يظهر أبوزيد السروجي (المخادع والمزيف) كمعادل أرضي للقمر، لذلك يقول الحارث بن همام: (فإن يكن أفل قمر الشِعرى فقد طلع قمر الشعر). والسراج هو المعادل الأرضي للشمس، لذلك سيتعرّف الحارث على أبي زيد بمعونة ضوء السراج، غير أن كشف الحقيقة سيكون بمعونة الشمس.
والقمر متسلّخ، كالأفعى، يبدل هيئته (جلده) كل فترة على عكس الشمس الواضحة ذات اللون الواحد. كما أن القمر طارد للنوم ومسبب للسهر كما يصفه ابن المعتز. وهذا ما نجده في المقامة؛ فالحريري يصف ليلة (أديمها ذو لونين) والأديم الجلد واللونان إشارة إلى التبدل والتقلّب. كما أن غياب قمر الشعرى يؤدي إلى انفضاض المجلس لولا ظهور قمر الشعر (السروجي). لذلك سيلعب السروجي دور القمر في الخداع والزيف وسيحصل على أموال الجماعة بالخدعة ولن تنكشف حاله إلا مع ظهور الشمس. ويقول الحارث بعد الاستماع لقصة السروجي (ورقشنا الحكاية) أي كتبوها وأصل الرقش يشترك فيه الأفعى والقلم، لذلك قيل (الأقلام تنفث السم وتقتل كالحية).
ثالثاً: التناص
إن المقامة الكوفية حافلة بالتناصات الدينية، كما يوضّح الناقد، إذ إن كثير من الجمل تحيل إلى قصص الأنبياء، فيستحضر أبو زيد قصة النبي موسى أثناء سرده قصته الكاذبة عن وقوفه أمام بيت ابنه سائلاً –دون أن يعلم بحقيقة نسبه- إذ يقول واصفا حاله وفقره: (وأنا ذو مجاعة وبوسى، وجرابٍ كفؤاد أم موسى). فهو يشبّه فقره وخلو جيبه بفؤاد أم موسى تناصا مع قوله تعالى في سورة القصص: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا). فأبو زيد تخلّى عن ابنه وأم موسى فعلت كذلك، لذا فإن هذه الإشارة ليست عبثية.
كما أنه يطلب في القصيدة التي ينشدها على مسامع ابنه شخصا عذب المنهل يقول لأبي زيد: (ألق عصاك وادخل). والعصا هنا متعددة الدلالات؛ فهي مرتبطة بالسفر والغربة –سفر أوديب والسندباد وغربتهما- وإلقاء العصا مرتبط بالتوقف عن المشي والحلول عند قوم والانتساب المؤقت لهم. إضافة إلى ما تلعبه العصا في قصة النبي موسى ، والجملة (ألق عصاك) تحيل إلى سورة الأعراف وإلقاء النبي موسى عصاه وتحولها إلى ثعبان. والأفاعي هي محور المقامة كما يرى كيليطو.
ونجد أن النبي إبراهيم حاضر في المقامة، بل هو الحاضر الأساسي فيها، ويتضح ذلك في عدة نواحٍ: الأولى في إشارة الابن في شعره إلى (الشيخ الذي سنّ القِرى) الذي هو إبراهيم الخليل المشهور بإطعام الضيف. كما أن تضحيه إبراهيم بابنه إسماعيل في القصص الديني تقابلها تضحية أبي زيد بابنه؛ فقد ترك أبوزيد ابنه وهو جنين مثلما فعل النبي إبراهيم حينما ترك هاجر وهي حامل بإسماعيل. إضافة إلى الشبه القوي بين إبراهيم وابنه إسحاق إذ لا يفصل بينهما إلا الشيب –لذلك سمي إبراهيم بالشيخ، الذي يقابله الشبه بين السروجي وابنه في شدة الجوع والبلاغة إذ لا يفصل بينهما إلا الشيب أيضا.
الهوامش:
اعتمدنا في شرح التفكيكية على سامي عبابنة، التفكيكية وقراءة الأدب العربي القديم: عبدالفتاح كيليطو نموذجا، مجلة دراسات، مج48، 2015م، ص 1075-1086.