هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: تفسير القرآن بالقرأن الكريم
المؤلف: الدكتور طه جابر العلواني
الناشر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي
الطبعة الأولى 2020
عدد الصفحات: 968
كان من المتوقع أن تكون آخر محطات الدكتور طه جابر العلواني ـ رحمه الله ـ العلمية تفسير القرآن الكريم، فالرجل بعد رحلة بحثية مليئة بالإبحار في حقول معرفية شتى، انتهى سعيه إلى أطروحة "حاكمية القرآن" و"هيمنته" على الوعي الإنساني وعلى الواقع، وانتهى إلى حتمية الأوبة إلى القرآن لتشكيل المفاهيم وبناء المعرفة، بل ورد المعارف كلها إلى القرآن.
وكان من الطبيعي بعد هذه الخلاصة التي انتهى إليها في مسار حافل من التأليف والبحث العلمي والأكاديمي، فضلا عن التحاور والتدارس ضمن مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أن يتفرغ للتأمل في القرآن وشغل آخر حياته به وصرف النظر عما سواه كما كان يعبر لزواره الذين تجشموا الصعاب وسافروا من بلدان بعيدة من أجل لقياه.
غير أن هذه الأوبة البحثية للقرآن وشغل النفس والفكر به وصرف النظر عما سواه، لم تكن ثمرة الإحساس فقط باقتراب الأجل بعد الأمراض المزمنة التي هجمت على الرجل، بل كانت امتدادا لحصيلة بحثية انتهى إليها في مساره الأكاديمي، حيث ترجح لديه أن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن تبنى إلا بخطين متوازيين، أو قراءتين جامعتين، تنطلق الأولى من القرآن، أو الوحي المقروء، وتستلهم الثانية المعرفة من الوحي المنظور أي الكون والواقع.
والحقيقة، أن التفسير الذي كان آخر محطات الدكتور طه جابر العلوني رحمه الله قبل وفاته لم يغادر هذه الرؤية، فلم يأت تفسيره على نسق تفاسير المأثور، ولا على نسق تفاسير الرأي، التي تعرف مقدماتها ومناهجها، وإنما اختار نسقا مزدوجا يعتمد المأثور من تفسير القرآن بالقرآن، وهذا هو عماده في تفسيره، ويتقاطع من جهة ثانية مع تفاسير الرأي في اعتماد التدبر في فهم القرآن.
العلواني والتفسير التدبري
ويعني طه جابر العلواني رحمه الله بالتدبر تفسير بعض القرآن ببعضه الآخر، وتوفير الجاهزية والاستعداد الإنساني والإقبال على القرآن بطهارة قوى الوعي حتى يتيسر انفتاح مغلق القرآن للقراء على حد تعبير العلواني رحمه الله.
يؤمن العلواني بمفهوم الفتح، ليس بالمعنى الصوفي، ولكن بالمعنى الفكري التدبري، الذي يعني طهارة القوى الواعية في الإنسان وجاهزيتها لاستقبال المعاني القرآنية بعد أن كانت مغلقة أو مكنونة. فالتدبر الذي يبني عليه تفسيره، يقصد به التفكير فيما وراء الظواهر، ومعرفة أدبار الأمور وعواقبها، وما لا تراه العين للوهلة الأولى منها، ذلك أن مفتاح الخطاب القرآني هو التدبر، أي إقبال الفرد المؤهل بقواه ووعيه ووسائل إدراكه لتدبر القرآن بعقل علمي. فالتدبر عند العلواني رحمه الله ضروري لأنه يقوم بقيادة القارئ للتفاعل مع الخطاب القرآني، ومعرفة دوره بالنسبة إليه. فالتدبر يجعل القارئ يبحث عن المعنى الذي ينشأ نتيجة تفاعله مع الخطاب القرآني، لا عن المعنى الكامن أو المكنون، فيصبح المعنى آنذاك أثرا تمكن ممارسته لا موضوعا يمكن تحديده.
لماذا تفسير القرآن بالقرآن وما الجديد في ذلك؟
يورد طه جابر العلواني الأوصاف التي وصف بها القرآن نفسه، والوظيفة التي أناطه الله بها، وكونه يتضمن الشرعة والمنهاج التي تهدي الناس للتي هي أقوم، ويذكر كيف يسره الله للذكر، وجعله في متناول القلوب والعقول، وفي الوقت ذاته تحدى به الإنس والجن، فعجزوا عن الإتيان، به مجتمعين متعاونين، وأن القرآن، مع صفتي التيسير والتحدي، جعل الله له حارسا من داخله، يقيه التبديل والتحريف هو نظمه الداخلي، ويذكر العلواني رحمه الله من دعائم النظم القرآني، ويعدد منها وفرة الإفادة وتعدد الدلالة وتنوعها مع وجازة الآية واشتمالها على أدق وجوه البيان، وأجمل أنواع البديع. ويؤكد العلوني رحمه الله أنه في فضاء الآية يعثر المتدبرون الغواضون على اللآلئ والجواهر عديمة النظير، وتتكشف مكنوناته كذلك عبر العصور.
ويشير العلواني رحمه الله إلى قضية مفارقة، فالقرآن مع مزاياه وخصائصه وصفات الكمال فيه وحسن نظمه وسمو بلاغته وعلو فصاحته وتيسير الله سبحانه له، يبقى في حالة من السمو تجعل استجلاء معانيه بشكل قريب من الكمال عملية تحتاج إلى إدامة الصلة بالقرآن الكريم وبناء اللاحقين من أبناء الأمة، على ما أسس السابقون، واعتبار عمليات تفسيره وتأويله واستجلاء معانيه والتطهر للوصول إليها، شغل المسلمين الشاغل عبر العصور في مختلف الأجيال.
ولا يتردد العلونني رحمه الله في القول بأن بعض التفاسير شكلت حاجزا بين القرآن والقراء، وربما حرمتهم من استجلاء معاني القرآن العظيم ومحاولة تدبره.
يسجل العلواني رحمه الله أن المسلمين ورثوا في مجال التفسير من التفاسير ما لم يرثوا في حقل معرفي آخر، وذلك من حيث العدد والاتجاهات اللغوية والآثارية والنحوية والبلاغية والفقهية والإشارية والبيانية والعقلية والعددية والفلسفية وما إلى ذلك، لكن مع هذا التنوع والتعدد والغنى في حقل التفسير إلا أن هذا التراث لم ينجح في استجلاء معاني القرآن الكريم، وبقي في هذا الكتاب الخالد من العوالم التي قد يشعر الإنسان بأنه لو خلي بينه وبين القرآن يراجعه ويسائله ويتدبر فيه ويتذكر ويتعقله، لاستفاد من معانيه وتجلياته وما فيه من نور وهداية أكثر بكثير ما استفاده من تدخلات المفسرين.
ولا يتردد العلواني رحمه الله في القول بأن بعض التفاسير شكلت حاجزا بين القرآن والقراء، وربما حرمتهم من استجلاء معاني القرآن العظيم ومحاولة تدبره.
في هذا السياق تأتي محاولة الدكتور العلواني رحمه الله في رحلته مع تدبر القرآن ومحاولة فهمه من داخله على هذا النسق المنهج التدبري الذي يستحضر سياقات القرآن ويعتبر بقصصه وأمثاله ويحاول إدراك مقاصده وغاياته.
عوائق التدبر
يستعرض الدكتور العلواني رحمه الله العوائق التي تحول بين القارئ وفهم القرآن وتدبره، ويذكر من ذلك الاختلاف فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي المتنازعين في فهم القرآن بتركه إذ في حالة الشقاق والخصام سيتحول القرآن إلى أداة لتكريس الفرقة وإعطائها بعدا دينيا، ثم يذكر من هذه العوائق أيضا قراءة القرآن بنية البحث عن شواهد وأدلة لدعم موقف معين، إذ أن ذلك سيحجب القارئ عن جوانب مهمة من أنوار القرآن وأضوائه ووسائل هدايته ومعانيه، ويذكر من العوائق أيضا الدخول في عملية تدبر القرآن بأحكام مسبقة، لأن ذلك يحول بين القارئ وبين استجلاء معاني القرآن وتدبره، فالقرآن إنما ينفتح على القارئ الذي هو في حاجة إليه، والذي يستنطقه ويستشيره لكي ينال هدايته ومن معانيه ما يسدد طريقه ويصوب خطاه، في حين يقرأ الذي يدخل إلى معاني القرآن بأحكام مسبقة بطريقة من يفرض على القرآن معاني لا يتحملها نصه، ولا يشير إليها ولا يدل عليها خطابه بأي وجه من الوجوه.
مقدمات ما قبل الولوج إلى القرآن
يضع العلواني رحمه الله جملة مقدمات يعتبرها أساسية لكل قارئ قبل الدخول إلى القرآن والولوج إلى ساحة تدبره، ومنها أن يحدد القارئ موقعه من الخطاب القرآني، وهل جاء إلى القرآن طالب هداية أم طالب تعبد أم طالب معرفة وحكم أم طالب سنن إلهية وسنن اجتماعية أم تاريخ أقوام أم استنباط هداية؟
وإلى جانب ذلك يشترط العلواني رحمه الله مقدمة ثانية لولوج القرآن هي تنزيل القراءة على القلب، ويعتبرها أمرا ضروريا حتى تحصل ثمرة القراءة وتجنى فوائدها، فالقراءة بالعينين وتحريك اللسان دون إشراك القلب، لا تؤدي ما تؤديه القراءة عندما ينزل القرآن قراءته على قلبه مباشرة، ويرى العلواني رحمه الله أن تنزيل القراءة على القلب، يقتضي تيقظ الوعي الإنساني كله، ويحتاج إلى التدريب على ذلك حتى يصير للقارئ دأبا وسنة، فيصير قلبه المستقبل الأول لآيات الكتاب الكريم.
وأما الأمر الثالث، فهو وجوب الوعي بأن القرآن هو كلام الله وليس صورة أو تمثالا، وأن كلمات الله لا تعني كلمات عادية من اللغة العربية، بل هي كلمات إلهية هي أقرب إلى المفاهيم التي وجب استخلاصها وتدبرها ومعرفة مآلاتها ووظائفها. ولذلك يعتبر العلواني أن القرآن الكريم هو الأولى بتحديد معنى كلماته، وأنها مثل اللبنات التي تؤلف بناء وتؤلف مفاهيم قرآنية. ويرتبط بهذه القضية وجوب استحضار لسان القرآن، واختلافه عن أي لسان آخر، بما في ذلك اللسان العربي، فاللسان القرآني يصعب إخضاعه للألسنيات، خاصة منها الألسنيات المعاصرة، التي تنطلق من عملية دراسة النصوص وتفكيكها ثم إعادتها إلى كلمات مفككة للتيسير من أجل تحليلها.
في معنى تفسير القرآن بالقرآن عند العلواني
يرى العلواني رحمه الله أن من شرط التقديم لتفسيره أن يشرح منهجه، وماذا يقصد بتفسير القرآن بالقرآن، ويميز منذ البداية بين تفسير القرآن بالقرآن الذي يعتمده كمنهح في تفسيره، وبين التفسير الموضوعي، فالتفسير الموضوعي كما استقر مفهومه في مقدمات كتب التفسير، هو الذي يجمع الآيات الواردة في الموضوع الواحد، ويلجأ إلى تاريخ النزول وأسبابه وسياقه ويفسرها اخذا بالاعتبار هذه الحيثيات، لكن بالنسبة إلى تفسير القرآن بالقرآن الذي يعنيه العلواني، فهو شيء آخر غير التفسير الموضوعي، ذلك أنه يقصد به ما يستوعب التفسير الموضوعي وما يتجاوزه، فالتفسير الموضوعي عند العلواني ليس إلا إحدى المراحل التي لا يستغنى عنها في تفسير القرآن بالقرآن، إذ يقصد بتفسير القرآن بالقرآن عملية تدبر للقرآن كله، وجعل القرآن هو المرجع الأساس في فهم القرآن المجيد، سواء تعلق الأمر بالأحكام أو العبر أو السنن الإلهية، أو القوانين، أو بناء الحضارات، أو بناء العمران، وتحقيق التزكية، وتحقيق التوحيد، وبناء التصور السليم وبناء المعتقد الصحيح. ويذكر العلواني شواهد من مواقف النبي صلى الله والصحابة الكرام في توقفهم في فهم بعض الآيات وكيف كانوا يستدعون آيات القرآن ويفسرون بها القرآن بحيث كان القرآن بالنسبة إليهم مرجعا في تفسير القرآن.
مميزات تفسير العلواني
أول ما يمكن ملاحظته في تفسير العلواني هو أنه يضم سفرا واحدا يمتد 968 صفحة، وأنه لم يعمد لتفسير كل سور القرآن، وإنما فسر بعضها، والظاهر أن الموت قد أدركه قبل أن ينهي عمله، لكن الذي يثير الانتباه هو قفزه على السور، بحيث تجد في تفسيره، تفسير الفاتحة وسورة البقرة، ولا تجد تفسير آل عمران والمائدة، ويترك التفسير فراغا كبيرا بين سورة الأنعام وسورة طه، وينضبط عنده التفسير من سورة طه إلى سورة السجدة ويتوقف عندها. فواضح من هذه الفراغات من جهة، وهذا الانضباط من جهة أخرى، أنه لم يكن يباشر فعل التدبر بنحو مرتب، وإنما كان يفسر القرآن بحسب انفتاح وعيه على معانيه في بعض السور، ولم يحصل له الاطراد المنضبط إلا ما بين سورة طه وسورة السجدة.
وأما الملاحظة الثانية، فهو أنه لم يساير ما قام به المفسرون من تقسيم القرآن إلى فقرات أو مقاطع أو مشاهد أو وحدات موضوعية، وإنما اعتمد مفهوم النجوم استهداء بنزول القرآن منجما، للوقوف على بعض قضاياه وذلك حتى يتيسر تدبره.
ويقدم تفسيره لسورة الفاتحة نموذجا لمنهجه، ففي تفسيره لهذه السورة، حدد خمسة أعمدة للسورة بدءا بالعمود الأول الذي هو (التوحيد بأنواعه كلها توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الحاكمية)، ثم العمود الثاني الذي هو (التزكية) ثم العمود الثالث الذي هو (العمران) ثم العمود الرابع الذي هو (الأمة) ثم العمود الخامس الذي هو (الدعوة)، ثم عمد بعد ذلك إلى تحديد المفاهيم الواردة في السورة، فاستخرج منها اثنتي عشرة مفهوما هي (البسملة، والحمد، ومفهوم الرب والربوبية، ومفهوم الرحمة، مفهوم مالك وملك، ومفهوم الدين، ومفهوم العبادة، ومفهوم الاستعانة، ومفهوم الهداية، ومفهوم الصراط، ومفهوم النعمة، وتصنيف البشر وبيان الصفات والمفاهيم الدالة على كل صنف) فيتجه العلواني إلى تحديد هذه المفاهيم، ويتتبعها في سياقات القرآن المختلفة، ثم يعمد إلى صياغتها صياغة قرآنية في إطار وحدته البنائية، ويجعل القرآن المصدر الأوحد لبنائها، ثم يعمد إلى بيان هذه المفاهيم على سبيل التفصيل.