أفكَار

اليسار السوري بين النزوع التغييري وعطالة الأيديولوجيا (1من2)

المؤتمر 11 للحزب الشيوعي السوري في 30 تشرين أول (أكتوبر) 2010- (صفحة الحزب على فيسبوك)
المؤتمر 11 للحزب الشيوعي السوري في 30 تشرين أول (أكتوبر) 2010- (صفحة الحزب على فيسبوك)

الفكرة اليسارية، ارتبطت نظريا بالنضال من أجل الخلاص من الظلم الاقتصادي والاستبداد السياسي، لكنها واقعيا تباينت ليس في فهم الواقع وتحليله، ولكن أيضا في التعامل معه. 

ومع أن أصل مصطلح اليسار يعود تاريخيا إلى الغرب وتحديدا إلى الثورة الفرنسية عندما أيد عموم من كان يجلس على اليسار من النواب التغيير الذي تحقق عن طريق الثورة الفرنسية، فإنه وجد تطبيقه في أوروبا الشرقية، وتحديدا في الاتحاد السوفييتي مع الثورة البلشفية.. ومعه تغيّر وتشعّب استعمال مصطلح اليسار بحيث أصبح يغطي طيفًا واسعًا من الآراء لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مظلة اليسار.

عربيا نشأ التيار اليساري (القومي والاشتراكي والماركسي) أواسط القرن الماضي مقترنا مع نشأة الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار والرأسمالية الصاعدة يومها.. وبعد الاستقلال تمكنت بعض التيارات اليسارية من الوصول إلى الحكم، وكونت جمهوريات حاولت من خلالها ترجمة الأفكار اليسارية، لكن فكرة الزعيم ظلت أقوى من نبل الأفكار ومثاليتها...

وفي سياق صراع فكري مع التيار الإسلامي المحافظ تحديدا، وسياسي مع الأنظمة العربية التي تسلمت حكم البلاد العربية بعد جلاء المستعمر، استطاع اليساريون العرب الإسهام بفاعلية في تشكيل الوعي الفكري والسياسي العربي الحديث والمعاصر..

وعلى الرغم من شعارات الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، التي رفعها اليسار العربي على مدار تاريخه الطويل، فإنه ومع هبوب رياح الربيع العربي التي انطلقت من تونس أواخر العام 2010 مؤذنة بنهاية صفحة من تاريخنا السياسي الحديث والمعاصر، اتضح أن كثيرا من الشعارات التي رفعها اليساريون العرب لجهة الدفاع عن الحريات والتداول السلمي على السلطة لم تصمد أمام الواقع، وأن اليساريين العرب ورغم تراكم تجاربهم السياسية وثراء مكتبتهم الفكرية، إلا أنهم انحازوا للمؤسسة العسكرية بديلا عن خيارات الصندوق الانتخابي..

"عربي21" تفتح ملف اليسار العربي.. تاريخ نشأته، رموزه، اتجاهاته، مآلاته، في أوسع ملف فكري يتناول تجارب اليساريين العرب في مختلف الأقطار العربية..

اليوم نعرض لتجربة اليسار السوري، في ورقة أعدها خصيصا لـ "عربي21" الباحث في تاريخ الفلسفة الدكتور كريم أبو حلاوة، وننشرها في جزأين: يتناول الأول نشأة اليسار السوري ومرجعياته الفكرية، بينما يعرض الثاني لمساره ومآلاته. 

مقدمة

تتبوأ فكرة تغيير العالم مكانة قارة وراسخة في أدبيات اليسار العالمي استناداً إلى مقولة ماركس في نقده للأيديولوجيا الألمانية ممثلة بفلسفة كلّ من كانط وهيغل الذي اعتبر أن "الفلسفة قبله حاولت فهم وتفسير العالم في حين أن المهم هو تغييره". وبقيت الأدبيات الماركسية التقليدية أسيرة لهذه الفكرة إلى أن بدأت محاولات من داخل الفكر الماركسي ممثلة بالإيطالي غرامشي ومفكري مدرسة فرانكفورت في ألمانيا بإعادة النظر في العلاقة بين التفسير والتغيير بصورة نقدية، إذ اعتبر غرامشي أن صحة فكرة أو نظرية ما لا تكمن في تماسك مقولاتها ومنطقيتها فحسب، بل إن الوجاهة والفاعلية للنظريات تأتي من إمكانية تحولها إلى "ممارسة praxis" تزودها بأدلة واقعية على صحتها المعرفية وقدرتها العملية. بهذا المعنى أعاد ترتيب محددات العلاقة التي تحكم النظر بالعمل والمعرفة بالممارسة، ما يعني ضمنياً استحالة الوصول إلى ممارسة مطابقة دون فهم ومعرفة مرنة وتجاوزية ومتسقة وتنطوي على قابلية واسعة للتحقق.

فهل يمكن تغيير العالم دون فهمه وتفسيره؟ وبالتالي ما جدوى المعرفة التي لا تتحول إلى قوة تساعد في الوصول إلى عالم أكثر تحرراً وأقل استغلالاً وظلماً وأقرب إلى روحية العدالة الاجتماعية بوصفها حلماً إنسانياً ووعداً بالخلاص الإنساني هنا في هذا العالم وعلى هذه الأرض؟!

ثم ماهي محددات نشوء وتطور اليسار السوري وارتباطه بالمحطات والمراحل الأساسية في تاريخ سوريا الحديث من منظور تاريخ الأفكار؟؟ 

 

مشهد سياسي متنوع

بدأت ملامح الحياة السياسية الحديثة في سوريا تتبلور مع ولادة الدولة الوطنية الأولى 1918 إبان دخول الملك فيصل دمشق وتشكيله أول حكومة وطنية تحت مسمى الحكومة العربية الأولى إثر تداعيات الحرب العالمية الأولى وهزيمة السلطنة العثمانية فيها والتي انتهت مع دخول قوات الاحتلال الفرنسي دمشق بعد معركة ميسلون واستشهاد يوسف العظمة قائد الجيش الوطني المشكل حديثاً، وذلك بعد تصاعد موجة المد القومي وتكاثر الجمعيات والمنتديات الفكرية والأدبية والسياسية الداعية إلى حق العرب في الاستقلال عن الدولة العثمانية والتي روجت لأفكار النهضويين العرب الاوائل في سوريا ومصر.

 

ثمة خصائص ومشكلات تميز آداء اليسار الشيوعي السوري على ما بينه من فوارق، منها موقف الشيوعيين من قضايا الدين والمرأة، فضلاً عن علاقتهم التنافسية والصراعية أحياناً مع تيارات الحركة القومية العربية والقومية السورية الاجتماعية.

 



نجم عن التدخل الغربي البريطاني الفرنسي الإيطالي في المنطقة العربية وتقاسم تركة "الرجل المريض" كما كانت تلقب السلطنة العثمانية وقوع الدول العربية تحت أشكال جديدة من الاحتلال والانتداب ودخلت سوريا مرحلة جديدة من تاريخها غلبت عليه سمة مواجهة المستعمر وتنامي الحس الوطني والنزوع للاستقلال الذي جاء إبان الحرب العالمية الثانية وبعد سلسلة كبيرة من الثورات والانتفاضات والتضحيات التي قدمها السوريون للظفر بحق تقرير المصير والحصول على الاستقلال.

أخذت خارطة الأحزاب السياسية بالتوسع والازدهار بعد الاستقلال وضمت إضافة للأحزاب التقليدية أحزباً شيوعية وقومية وليبرالية وإسلامية بدأت حركة استقطاب وتنافس واضحة بين التوجهات والميول التقليدية المحافظة وبين الاتجاهات اليسارية الصاعدة مع كم كبير من الوعود والآمال والشعارات الحداثية والتحررية، بما في ذلك التنافس الذي بلغ حد الصراع بين الشيوعيين والقوميين وترك آثاره المريرة على فاعلية اليسار ومكانته اللاحقة.

 

خصائص اليسار السوري

وبعد مرور قرابة عقد كامل على العمل السياسي والحزبي يمكن تقييم أداء اليسار السوري والتعرف إلى المشكلات التي واجهها والمساهمات التي قدمها وذلك من خلال راويين متباينين لمحازبيه وأنصاره من جهة ونقاده ومناوئيه من جهة أخرى.

ثمة خصائص ومشكلات تميز آداء اليسار الشيوعي السوري على ما بينه من فوارق، منها موقف الشيوعيين من قضايا الدين والمرأة، فضلاً عن علاقتهم التنافسية والصراعية أحياناً مع تيارات الحركة القومية العربية والقومية السورية الاجتماعية.

وتبقى خاصية الانقسام الحزبي والتنظيمي أبرز ملامح تطور وعمل الشيوعيين السوريين. فمنذ تأسيس الحزب الشيوعي السوري عام 1924 مروراً باستلام خالد بكداش قيادة الحزب 1933 وصولاً إلى حل الحزب واغتيال فرج الله الحلو عام 1958، توالت الانقسامات الداخلية وتولّدت عنها أحزاب أخرى مثل (رابطة العمل الشيوعي ـ منطقية دمشق ـ الحزب الشيوعي السوري الموحد ـ ثم انشقاق رياض الترك ـ المكتب السياسي والخلاف مع جناح بكداش حول دستور الحزب ونظامه الداخلي ـ ثم تعمق الخلاف إثر تحالف أو مهادنة المكتب السياسي للإخوان المسلمين وموقفه من أحداث حماة أواخر السبعينيات والمشاركة في الجبهة الوطنية التقدمية عام 1972 مع وجود آراء مختلفة اتجاه خالد بكداش  كالقول إنه مستبد وتابع لموسكو ومتسلط على الحزب وأورث قيادته لزوجته وصال فرحة ثم لإبنه عمار بكداش، يرى آخرون أنه مناضل عنيد ووطني قاد الحزب في ظروف صعبة للغاية .

يبقى من المؤكد أن توالي الانقسامات والانشقاقات والصراعات الداخلية أدت إلى إضعاف الشيوعيين السوريين وقلصت من مساهمتهم في صياغة المشهد السياسي السوري إلى حدٍ كبير.

وربما يتشارك اليسار القومي مع اليسار الشيوعي في ظاهرة الانقسامات الحزبية، إذ انقسم حزب البعث ومن مرجعيته ظهر حزب العمال الثوري وحركة 23 شباط، مثلما انقسم الناصريون في سورية إلى اتحاد اشتراكي عربي وحركة الوحدويين العرب وتباينت التعبيرات السياسية عن حركة القوميين العرب  التي تأسست عام 1952 بعد نكبة فلسطين ثم تحولت بعد 1970 إلى تنظيمات وأحزاب عديدة مثل  الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بزعامة جورج حبش ثم الجبهة الشعبية القيادية العامة والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وجبهات النضال الشعبي والصاعقة إلى جانب حركة فتح،وكان لهؤلاء جميعاً وبدرجات متفاوتة تأثيراص على الرأي العام السوري المنخرط آنذاك كلياً بالقضية الفلسطينية بوصفها قضية العرب الأولى.

ولاتكتمل لوحة اليسار السوري إلا بالتعرف على اليسار الكردي في سوريا ممثلاً بالحزب الديمقراطي الكردي الذي خرج عن عباءة الحزب الشيوعي السوري عام 1957 وصولاً إلى حزب العمال الكردستاني بزعامة عبدالله أوجلان الذي يقبع في سجون السلطة التركية منذ حوالي عقدين بامتداداته العراقية والسورية المحسوب على حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بزعامة صالح مسلم ومع أن العديد من النقاد لايرون أن هذه الأحزاب يسارية رغم استنادها على العديد من الأدبيات الماركسية اللينية لأنها بالأساس نشأت تحت مسمى الدفاع عن الحقوق القومية للأكراد. 

(2)

وبحسب نقاده كان اليسار السوري حالماً ومغامراً ويستخف بالعوائق التي تواجه انتشاره. ولم يقدم فهماً معمقاً للبنية الاجتماعية والثقافية السورية، بل اكتفى برؤية المجتمع والدولة بعيون الصراع الطبقي والمقولات الماركسية السائدة، ولم يلتقط تأثير وفاعلية الخصوصية التي يتمتع بها المجتمع السوري والعربي عموماً وهو غرقه في الأديان والمقدس والغيبيات فضلاً عن انتماءاته الأولية المنغرسة عميقاً في نفوس أبنائه من عائلية وعشائرية وطائفية ومذهبية والتي تنتسب إلى بنية تقليدية رغم قشرتها الحداثية وهو ما يفسر ضعف فاعلية وتأثير اليسار وتراجع شعبيته بل وحتى توقف شبه تام لمساهماته الفكرية الجادة بالمقارنة مع مراحل سابقة من تاريخ سورية الحديث والمعاصر.

فإذا أضفنا إلى القصور في فهم الواقع السيسولوجي وتعقيداته، حدّة التنافس بين تيارات وأحزاب اليسار والذي وصل حدّ الصراع في كثير من اللحظات والمواقف والتضييق والقمع الذي تعرضت له بعض تياراته، والميل الطبيعي والسائد للتوجه الإيماني المستند إلى ثقافة شبه محافظة ترتكز إلى كم كبير من العادات والتقاليد والأعراف المستمرة في الفعل رغم انتماءها لعصور سابقة، اكتشفنا صعوبة تحوّل اليسار إلى قوة فاعلة على المستويين السياسي والاجتماعي.

تبين المعطيات التاريخية أسبقية الحزب الشيوعي السوري في سوريا ولبنان في الوجود والنشاط، فهو من أقدم الأحزاب الشيوعية العربية بعد نجاح ثورة تشرين أول (أكتوبر) في روسيا. ويعود تاريخ تأسيسه إلى سنة 1924.

ومثل غالبية الأحزاب العربية لم تعرف الحياة الحزبية الداخلية لليسار السوري أي مرونة وديمقراطية في الحراك والتمثيل، ولا في الانتخابات الداخلية أو العامة، وهذا تقليد موروث من أدبيات اليسار العالمي عموماً، الذي يمتلك مواقف مسبقة من كل أشكال الدمقرطة بدعوى أنها ليبرالية وغربية وصورية … إلخ.

التعليقات (0)