السؤال الذي يشغل بال الكثيرين الآن: هل سيتدخل الجيش المصري بشكل مباشر في ليبيا خصوصا بعد طلب بعض شيوخ القبائل الليبية؟ وبعد دعوة رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح؟
كمصري لا أتمنى حدوث هذا التدخل، ولا أتمنى وقوع تلك المواجهة سواء مع قوات حكومة الوفاق أو حليفها التركي، ولكن السياسة لا تبنى على التمنيات، بل على الوقائع والقدرات والاحتياجات الفعلية.
من الناحية السياسية والاستراتيجية ليس هناك مبرر قوي لدخول الجيش المصري إلى الأراضي الليبية، إذ لا وجود لخطر حقيقي يهدد الحدود المصرية أو السيادة المصرية، وكل ما هنالك هي حرب داخلية بين حكومة الوفاق الشرعية المعترف بها دوليا وقوات متمردة عليها يقودها جنرال سابق في الجيش الليبي هو خليفة حفتر، حاول القيام بانقلاب عسكري يستولي بموجبه على السلطة في ليبيا في العام 2014 بدعم من نظام السيسي وبدعم من الإمارات والسعودية، ولكنه فشل خلال ست سنوات في تحقيق حلمه الشخصي، ورغبة حلفائه من قادة الثورة المضادة في المنطقة. وقد حاول الجنرال المتقاعد دخول العاصمة طرابلس وظل يحاصرها لأكثر من عام لكنه فشل في دخولها، رغم كل الأسلحة التي قدمتها له الإمارات وروسيا وفرنسا ونظام السيسي، واضطر في نهاية المطاف للتقهقر شرقا أمام ضربات قوات الوفاق المدعومة من تركيا، حتى وصل إلى سرت والجفرة اللتين لا تزالان تحت الحصار.
حين أعلن عبد الفتاح السيسي أن سرت والجفرة هما خط أحمر بالنسبة لمصر، كان يحتمي بموقف روسي سبقه إلى ذلك دون إعلان رسمي، ولكن عبر تعزيز الحضور العسكري الروسي في المكانين بقوات الفاجنر (غير النظامية). وكان إعلان السيسي أن سرت والجفرة خط أحمر هو أمر مناف لأبسط قواعد الاستراتيجية، حيث تبعد المنطقتان 1200 كيلومتر عن الحدود المصرية. كان الأمر سيبدو منطقيا لو أنه اعتبر أن مدينة مساعد (أول مدينة ليبية قرب الحدود المصرية) خط أحمر، وحتى في هذا الحالة لا يكون الرد بالتدخل العسكري ولكن بتكثيف القوات المصرية على الحدود لحمايتها.
يدرك السيسي أن التدخل العسكري المباشر غير وارد فعلا، لأسباب استراتيجية وعملياتية، وغالبا سيشرح له بعض القادة مأساة الجيش المصري في حرب اليمن التي فقد فيها حوالي 20 ألف مقاتل (وفقا لرواية الكاتب الصحفي وجيه أبو ذكري الذي تابع تلك الحرب).
ومن الواضح أن حليفه الأكبر (الولايات المتحدة) لن يسمح له بهذا التدخل، ولذا فقد عدل السيسي كلامه عن الخط الأحمر ليعتبر هذا الكلام دعوة للسلام وليس للحرب، وليؤكد لوفد القبائل الليبية الذي طلب تدخل الجيش المصري أن هذا التدخل يحتاج موافقة من البرلمان (وفقا لنص المادة 152 من الدستور المعمول به حاليا والتي تلزم بموافقة مجلس الدفاع الوطني وثلثي مجلس النواب). وهو كلام جديد على السيسي الذي لا يهتم بوجود البرلمان من الأساس، لكنه يعتبره أحد أدواته التي يستخدمها عند اللزوم لإخراج موقف معين، فقد استخدمه من قبل لتمرير صفقة التنازل عن تيران وصنافير، وتجاهله حين وقع إعلان المبادئ في الخرطوم حول سد النهضة في آذار/ مارس 2015، ويمكن أن يستخدمه مجددا لتغطية قرار عدم الدخول إلى ليبيا.
يدرك السيسي هذه الحقيقة، ولكنه يريد الاستفادة من أجواء الشحن المعنوي تجاه الحرب في صرف اهتمام المصريين وتفريغ شحنات غضبهم بعيدا عن همومهم الحقيقية، سواء قضية سد النهضة، أو ارتفاع الأسعار، أو قمع الحريات.. إلخ، كما يريد السيسي استخدام فزاعة الحرب لتمرير ما يشاء من سياسات وقرارات تلهب ظهور المصريين؛ بدعوى أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة (حتى لو كانت معركة وهمية). كما يريد السيسي من هذا التحشيد الوهمي إرضاء كفلائه الإقليميين الذين يلحون عليه دوما بضرورة التدخل، مع تحملهم التكاليف المالية لهذا التدخل.
يدرك السيسي هذه الحقيقة ولكنه يتلاعب بمؤسسات الدولة المصرية، ولم تسلم من هذا التلاعب والتقزيم القوات المسلحة نفسها، حيث تأتي الدعوة لها بالتدخل من جهتين ليبيتين غير شرعيتين، هما رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح، وبعض مشايخ قبائل المنطقة الشرقية، في حين أن طلب التدخل الصحيح قانونا لأي جيش يكون من برلمان مكتمل النصاب، ومن حكومة شرعية معترف بها دوليا، وبعد موافقة برلمان الدولة صاحبة هذا الجيش.
وفي حالتنا فإن عقيلة صالح رئيس البرلمان الذي وجه الدعوة لا يستطيع عقد اجتماع صحيح للبرلمان منذ فترة طويلة بعد انقسام النواب، كما أن مشايخ القبائل الذي قدموا أو استُقدموا للقاء السيسي وطالبوه بتدخل الجيش المصري لا يمثلون عموم القبائل الليبية، ولا حتى رُبعها. بل إن القبائل الكبرى مثل ورفلة والزنتان والمغاربة سارعت بالتنديد بخطوة أولئك المشايخ، واعتبروهم غير ممثلين للشعب الليبي. وحتى لو كان أولئك المشايخ ممثلين لقبائلهم فعلا، فلا يصح في الدولة المدنية الحديثة الاستناد إلى المسارات القبلية، بل إلى المؤسسات المدنية الحديثة.
الغريب أن نظام السيسي وأذرعه السياسية والإعلامية تصدوا بقوة لفكرة الحرب حين تعلق الأمر بانتقاص حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، وتباروا في ذكر المبررات العسكرية والسياسية واللوجستية لرفض مجرد التلويح بالحرب في مواجهة إثيوبيا، بينما نجد هذه الأذرع ذاتها تتحمس بشدة للحرب على ليبيا، وكأن دماء الضباط والجنود المصريين التي ستسيل في ليبيا أرخص من تلك التي كانت لتسيل في حرب النيل. وغدا سيتلقى هؤلاء "المخدوعون" صدمة جديدة من زعيمهم السيسي حين يكتشفون زيف طبول الحرب الحالية، وأنها مجرد طبل أجوف.