هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يروى أن المأمون بن هارون الرشيد كان على درجةٍ من العلم والأدب لم تكن لخليفةٍ من بني العباس سواه.. على خلاف أخيه الأمين الذي تصوره لنا كتب التاريخ جاهلا مسرفا في الملذات، منصرفا عن أمور الحكم إلى اللهو.. لا صاحب له إلا الجواري ولا نديم إلا الكأس..
وقد وُلد هذا الأخير لأُم عربية.. أما المأمون فقد كانت أمه فارسية..
وكلاهما شبَّ لكي يصبح الرجل الذي أرادته له أمه تماما.. فما إن مات عنهما الرشيد حتى تنازعا الحكم فيما بينهما، وبدأت كفة النصر تميل للخليفة المأمون على الخليفة الأمين.. إلى أن انتهى الأمر إلى قتل الأمين وانتصار المأمون على أخيه لا بسلاحه وخيله فحسب، بل بدهائه وحسن تدبيره أو بسوء تدبيره، فنظرة الناس إلى فعل الناس لا تتطابق..
فهل كان الأمين حقا ذلك الرجل الذي صنعته لنا أيدي المؤرخين؟؟
وهل كان المأمون كذلك؟؟ أم أن التأريخ كما عودنا دائما.. يهب نفسه كصفحة بيضاء للمنتصر؟؟
والمأمون هذا إلى جانب ما كان يقوم به الخلفاء المنتصرون عادة، قام بعملين يراهما المتتبع لسيرته غريبين، لا بد للمرء من التوقف عندهما طويلا.. وهما في الحقيقة أغرب من قتاله وقتله لأخيه "ابن العربية"..
لكن هذه الحادثة تفسر عندي كثيرا مما قام به بعد ذلك، وخاصة ما أقدم عليه من عملين يكاد الذاكر لعهد المأمون لا يذكر له سواهما:
الأول: تسميته للإمام علي بن موسى الرضا ولياً لعهده. وقد كان إماما زاهدا عابدا يحبه الناس ويبجلونه لنسبه "العلوي" وعلمه..
وهذا العمل الذي انقسم فيه الناس بين مستغرب لا يجد له تفسيرا؛ وساذج يفسره بمثالية لا يمكن أن يتصف بها شخص المأمون.. هو برأيي ليس إلا إحتواءً مؤقتا لطائفة كبيرة من الجند والرجال الخرسانيين الذين اعتمد عليهم في قتال أخيه، والذين كانوا واضحي الميول إلى أبناء علي عليه السلام.. وقد نجح الرجل في ذلك..
ثم انتهى أمر الإمام العلوي مسموما بظروف غامضه!!
كما أنه أراد أن يخفف من حنق القبائل العربية التي كانت تميل في هواها للأمين عليه؛ كونه "ابن الفارسية"، ويوحي لهم بأنه لم يقتل أخاه طمعا في الحكم والدنيا، إنما أراد خير المسلمين بتولية الأمر لأهله!!
ولو أراد ذلك حقا لنزل للرجل عن الخلافة من فوره دون الحاجة لاستخلافه من بعده!! ولكنه ما أراد إلا خداع الناس وكسب الوقت إلى أن يُثَبِّتَ أركان خلافته..
أما عمله الثاني الذي استوقف المهتمين فهو حمل الناس على القول بخلق القرآن، وهو ما يحب أن يسميه أصحاب العباءة الدينية "بفتنة خلق القرآن"، وهذا العمل كان بحق أكثر دهاءً ومكرا من الأول..
إذ استطاع ومن حوله خلط كلِّ الأوراق لصالحه، بأن جعل من هذه القضية الشهيرة فتنةً دخلت بوهم أهميتها العظيم وفراغ حسمها من الفائدة؛ إلى كل بيت من بيوت المسلمين عربا كانوا أم عجما، فوحدت هذه القضية الناس أعراقا وفرقتهم مذاهب، فأصبح أبناء البيت الواحد يختصمون فيها أعداءً، في حين يلتقي فيها ابن بادية العرب مع أحفاد فارس إخوانا والعكس صحيح.. فطارت في سبيل هذه اللعبة الرقاب، ومُلِئت السجون عن آخرها!!
وبهذا استطاع ابن الفارسية خداع الأمة حتى آخر يوم من حياته، كما استطاع خداع التاريخ نفسه حتى لحظة الناس هذه!!
ولا أجد لذلك وصفا أدق من وصف المأمون نفسَهُ لنفسِه حين قال: "معاويةُ بِعَمرِهِ.. وعبد الملكِ بِحَجَّاجِهِ.. وأنا بنفسي".
فقارن "بينه" وبين "معاوية" و"وعبد الملك".. وساوى "نفسَهُ" "بعمرو بن العاص" "والحجاج بن يوسف".
والخلاصة عند القارئ.. أما المعنى ففي بطن الراوي.