تحدث
السيسي يوم 20 حزيران/ يونيو الجاري أثناء استعراضه لقوات من الجيش
المصري
بالمنطقة الغربية العسكرية على الحدود الليبية، وهدد
وتوعد باستخدام القوة
العسكرية ضد قوات حكومة الوفاق، وإن لم يسمِّها صراحة، في محاولة لتحجيم ما أسماها
"قوى تعتمد على أدوات
القوة العسكرية لتحقيق طموحاتها التوسعية على حساب
الأمن القومي العربي". وعلى نغمة الأمن القومي العربي عزفت القنوات التابعة
لحكومات الإمارات والسعودية ومصر، لكنه كان عزفا قبيحا وصوت نشاز.
كتب
الدكتور الراحل حامد ربيع سِفْرا هاما أسماه "نظرية الأمن القومي
العربي"، وحاول أن يصوغ إطارا نظريا لهذا المفهوم مع تطبيقات على الواقع وقت
كتابة مؤلَّفه، وأصبح يُشار إليه باعتباره واضع نظرية الأمن القومي العربي، فما
الذي قاله الأستاذ الرائد حامد ربيع؟
أشار
ربيع إلى أن "الفكرة الأساسية التي يدور حولها المفهوم، أن أحد التزامات
الدولة هو الحماية العضوية والمادية لكل مواطن ينتمي إلى الجماعة أولا، وللجماعة
ثانيا كحقيقة بشرية، بحيث لا تُعرض كيانها لأية مخاطر بأي معنى من معانيها". ومن
هنا فإنه اعتبر أن "المشاكل القومية لا تعرف أسلوب التفاوض، ومن ثَمَّ لا
تقبل استخدام أسلوب الاتصال كأداة وحيدة لتصفية الصراع"؛ فالتفاوض بهذا
المعنى يأتي مكملا للقوة.
بإسقاط
هذا على الحالة المصرية، لا نجد للمواطن أدنى درجة من درجات الحماية، فالإجراءات
الاقتصادية التي جرت منذ 2014 تمت دون حماية اقتصادية، وسُحق فيها المواطنون سحقا،
والحماية الصحية بَانَ وضعها مع أزمة بحجم كورونا. فالأطباء لا تتوفر لهم درجات
الحماية الكافية فأصبحوا ضحايا، والمواطنون أسوأ حالا بالطبع. أما الحماية الشخصية
للأفراد فيكفي أن تكون مشتَبَها بمعارضة النظام السياسي ليتم سحق كل حقوقك، وإذا
تَلبَّستَ بمعارضته فيكون نصيبك التنكيل بعد فقدك للحقوق، وربما طال التنكيل أسرتك
إذا طالبَتْ بحقك؛ كما أصاب أسرة علاء عبد الفتاح ومحمد سلطان. إذاً نحن أمام عدم
تحقق أساس مفهوم الأمن القومي ابتداء، فكيف سيعمل مثل ذلك النظام
على المستوى
الخارجي؟
شهدنا
هنا حالتين متناقضتين، فعلى المستوى العربي يقوم النظام السياسي بدعم تمرد عسكري
على الحدود الغربية لمصر، وهنا يعمل النظام بالأداة الاستراتيجية أو العسكرية
بحجة
الأمن القومي، رغم أن الوضع هناك قضية داخلية "ظاهريا"، لكنه على
المستوى الأفريقي أمام تهديد قومي وجودي تقوم به إثيوبيا، ونجد الاتصال/ التفاوض
هو الأداة الوحيدة في التعامل، ولا أدري إلى أي مدى كان سيحافظ الراحل حامد ربيع
على وقاره إذا شهد هذه الحالة المتناقضة! لكن ما نعلمه أن تفسيره صاغه بقوله:
"كل من يتصور أن سياسة داخلية فاشلة قادرة على أن تقود سياسة خارجية ناجحة
يرتكب مغالطة حقيقية".
للتوسع
في فهم مقتضيات الأمن القومي العربي، فإن الراحل وضع له خصائص، وأول هذه الخصائص
أن مفهوم الأمن القومي يتضمن نوعا من التوازن بين الأنانية الذاتية بقصد الحماية
القومية من جانب، ومنطق سياسة الجوار بما تفرضه من التزامات التعايش والتعامل السلمي
من جانب آخر.
وثانيها،
أن الأمن القومي العربي أحد أوجه سياسة حسن الجوار، التي هي أساس ما يُسمى بسياسة
التجمعات، فهو يتجه أساسا إلى
الدول المجاورة لأنه يدور حول حماية الإقليم القومي.
وثالثها،
أن مقتضى الأمن القومي العربي يقوم بعملية تحويل
للضعف الاستراتيجي باتخاذ إجراءات
وقائية تمنع ألا يكون الضعف مصدرا لتمزقات معادية، من خلال صياغة مبادئ سياسية، وهو
لذلك لا يمكن أن يكون إلا حصيلة التعاون بين المخطِّط العسكري والمُنَظِّر
السياسي.
وآخرها،
أنه يستلزم تقنينا لمجموعة من المبادئ تتضمن قواعدَ للسلوك القومي تُمثل الحد
الأدنى للحماية الذاتية، وهذا يفسر كيف أن الحاكم لا يملك أن يخرج على تلك
المبادئ، وأن خروجه عليها لا يعني فقط فقد الشرعية، بل تعريضه لتهمة الخيانة
العظمى.
إذا
نظرنا لهذه الخصائص الأربع، لا نكاد نجد في المحيط العربي من يدركها ويقوم على
رعايتها، بل الواقع أن الأنانية الذاتية لشخص الحاكم هي المهيمنة على القرار
الداخلي والخارجي. ونقول شخص الحاكم لا الأنانية المتعلقة بدولة ككيان اعتباري، بل
الأمر أخطر من أنانية الدولة، ثم نجد أن العداوة هي القائمة على شكل العلاقات بين
الدول لا حُسن الجوار، وهذا ما نشهده في أزمة حصار قطر، والسعي المحموم لمحور الشر
العربي بقيادة الإمارات في إفساد كل مظاهر الديمقراطية في المنطقة. كذلك لا نجد
حضورا للسياسي إزاء العسكري في التخطيط الشامل، بل هي هيمنة لشخص الحاكم أو
المؤسسة العسكرية.
أخيرا،
إن القوانين مُهدَرَة ولا يملك كائنا مَن كان أن يواجه الحاكم بخروجه عن القانون،
بل هو القانون حتى لو تنازل عن أراضٍ حيوية في دولته.
إذا
كانت خصائص الأمن مفقودة هكذا، فكيف جرى ابتذال المفهوم بهذا الشكل؟ يجيب ربيع عن
هذا بأنه جرت "إزالة المفاهيم الصلبة في إطار أكثر اتساعا"، بمعنى أن
التوسع في مفهوم الأمن القومي ليشمل كل النواحي من شأنه أن يقوم بإضعافه. ولا
يجادل ربيع بأن مقتضيات الأمن متشعبة، لكن توسيع التطبيقات بصورة مبالغ فيها يؤدي
إلى إذابة المفهوم بشكل كلي. فمثلا يتساءل عن اعتبار أمن دولة الاحتلال الصهيوني
يتعلق بالأمن القومي الأمريكي، رغم التباعد بآلاف الكيلومترات، فهذا مثال من أمثلة
التوسع الدعائي لا الحقيقي.
يلفت
الانتباه كذلك تنبؤه عن إيران وتركيا و"الحبشة" ووصفها بالقوى الجديدة
في المنطقة، "ولا بد أن يغريها ضعف المنطقة العربية"، وهو ما نشهده
اليوم. فإيران وسعت مناطق نفوذها لتشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتركيا تتدخل
في سوريا والعراق وليبيا، كما دعمت ثورات الربيع العربي. صحيح أن هناك فارقا بين
التدخل الإيراني والتركي، لكنه في النهاية مؤشر للضعف العربي. ثم هناك إثيوبيا
التي كان الحديث عنها منذ 40 عاما غريبا، وهي الآن تستغل الضعف المصري لتعبث بأخطر
ما يمس أمن مصر.
الإشكال
العربي مع تركيا وإيران، يقول عنه أن "العلاقات العربية الإسلامية أخطر من أن
تترك دون تنظير حقيقي"، فهذه مصادر قوة للعالم العربي والإسلامي الذي يرتبط
بأوشجة عديدة، ولا ينبغي أن يكون هناك تصادم أو مقاطعة، ولم يسبق
للأمة أن كانت ممزقة بين القومية والإسلام كما هي اليوم، إذ كان التماسك سمة
أساسية للسياسة العربية، الأمر الذي جعله يطرح التساؤل الأليم: "هل أمة
السياسة لم تعد تعرف السياسة؟".
twitter.com/Sharifayman86