هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
منذ أزيد من ست سنوات، تفضّل أستاذي الدّكتور ناصر شبانة، فأهداني نسخة من ديوانه الشّعري، الّذي حمل اسم "سفر يليق بقامتي"، ممهورًا بتوقيع وخط جميل، حينها كنت طالبًا في الجامعة الهاشميّة، ولمّا انتهيت من قراءة الدّيوان، وجدتني أشعر بالرّغبة للكتابة عن هذا المنجز الشّعري، وأحبّ أن أغتنم هذه الفرصة لأشكره، إذ كان علمه النّقدي المعروف في الجامعة دافعًا لي، وكذا تشجيعه إياي على البحث العلمي، كما من الواجب أيضًا أن أقدّم شكري لأساتذتي في الجامعة الهاشميّة؛ لما لهم من فضلٍ، غمروني به.
من المهمّ أن نشير هنا، إلى أنّ من
نافلة القول: الادّعاء بأنّ بالإمكان أن يقدّم النّاقد والدّارس تحليلًا للنّص
الأدبي، يجمع الشّمول والكمال، الذي لا يترك لغيره مزيدًا لمستزيد.
وإذا كانت ناقدة في إحدى الجامعات
الأردنيّة، هي الدّكتورة مها العتوم، صاحبة دراسة "مصادر التّناص
وأشكاله"، قد أغراها شعر الشّاعر، ولم تدّخر جهدًا في رصد ظاهرة التناص،
على أنّي أرى ظاهرة التناص بادية للعيان في شعر شبانة، ولا تحتاج إلى كبير عناء
لاستظهارها، ولستُ
أقول هذا غضًا من الناقدة، ولا تقليلًا من شأن الدراسة، ولا عصبية عليها لغيرة،
وحسبها أن سلّطت الضوء على جانب من جوانب هذه التجربة، وتنبّهت للشّاعر، وفتحت
الباب على مصراعيه إلى شعر متميز، لم يدرس من قبل(1).
وعلى ما سبق ذكره، إلا أنّ الحقّ الذي
يجدر أن يقال: هو أنّ المقالة التي أجراها النّاقد الأكاديمي الدكتور عماد الضّمور،
ضمن كتابه "آفاق نقدية"، الموسومة بـ "فضاءات الأنا في ديوان سفر
يليق بقامتي"، كشفت لي الكثير من الأمور، الّتي كانت موضع شكّ عندي، غير أنّي
لا أتفق مع وجهة نظره القائلة بأنّ للشّعر دورًا في معرفة الحقيقة، والحدس والخيال
وسيلة مهمة للمعرفة(2).
لعلنا نلاحظ في وجهة نظر الناقد، طابع
التّعميم، فضلًا عن أنّه رأي متسرّع، لا يقوم على دراسة وبحث جادين، وعلى فرض أننا
نوافقه بأنّ للشّعر دورًا في معرفة الحقيقة، فكيف نوافقه على أنّ الحدس والخيال
وسيلة مهمة للمعرفة؟
لذلك؛ فإنّ هذا التّصور وما يقوم عليه من
إطلاقية، من شأنه أن يدفع القارئ إلى درب التشكيك في حقيقة الشعر ودوره بصفة خاصّة،
والأدب بشكل عام. ولا شكّ أنّ هذه الملاحظة لن تقلل من شأن مقالة الناقد، وأملنا
أن تجد هذه الملاحظة النّقدية رحابة صدر لدى الباحث والقارئ معًا.
وبعد كل هذا، فإنّ القارئ ليتساءل
الآن: ما الجديد الذي ستضيفه هذه المقالة المتأخرة على المتقدمة، وما المسوّغ إن
كان من مسوّغ؟
لعلّ وجه الاختلاف بين هذه المقالة،
ومقالة الضمور السّابقة، هو عدم تخصيصه حيزًا لظاهرة الاغتراب، بالرّغم من أنّ
مضمون النصوص الشعرية لا يحيد عن
الاغتراب، واستكمالاً لذلك فقد كانت هذه المقالة وتقررت. من هذا المنطلق، ترومُ
هذه الوقفة محاولةَ إماطةِ اللثام عن الاغتراب في الدّيوان.
ناصر شبانة شاعرًا وناقدًا
في مخيم البقعة، أحد أكبر مخيمات
اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، ولد شبانة، سنة 1968، وقد امتهن بعد حصوله
على الدكتوراه تدريس اللغة العربية في العديد من الجامعات الأردنية(3). ويعدّ شبانة أحد شعراء الأردن، وقد
تشكّل اتّجاهه الشّعري كفنّ أدبي تحت تأثير التّجربة الرّومانسيّة، ولم يعرف شبانة
بكونه شاعرًا بقدر ما يعرف بكونه ناقدًا أكاديميًا وأستاذا جامعيًا، هذا وينطلق في
نتاجه النّقدي من انحياز تام ودائم للعمل الأدبي الحديث، ومواكبة لحركات التّجديد
في الأدب، لا سيما الشّعر.
الاغتراب اصطلاحًا
ما يلاحظ خلال تتبع تعريف الاغتراب عند
معظم الدّارسين والباحثين، أنّ حظهم من الاتفاق دون حظهم من الاختلاف، بحيث يكادون
في رؤيتهم للاغتراب يقتربون إلى حد كبير بعضهم من بعض في النّظرة السّلبيّة
للمفهوم(4).
إنّ الاغتراب بوصفه مصطلحًا متعدد
الاتجاهات والمجالات والموضوعات، يتسع كثيرًا في المعاني الحسية والمعنوية، وعلى سبيل المثال، هو البعد والفراق والوحدة والشوق والقلق والضياع
والشكوى والخوف والحزن، والشعور بالدونية والإقصاء والتّهميش، وغيرها من
الدّلالات.
تجليات الاغتراب في سفر يليق بقامتي
أوّل ما ينبغي الإشارة إليه في هذا
الصّدد، هو أنّ الاغتراب منزع
رومانسي، ولعلّ
الوعي بهذه الحقيقة، تجسد بشكل واضح عند عدد كبير من الشّعراء الذين ينتمون للاتجاه الرّومانسي.
ومن هذا المنطلق، فإنّ ديوان شبانة الشّعري لا يخرج عن كونه تعبيرًا
عن الاغتراب، فقد اتّسمت نصوصه الشّعريّة بنبرة عالية من الاغتراب، وقد يفسّر هذا
عنوان الدّيوان، إذ عبّر عن الحالة النّفسية الذي يعانيها الشّاعر، وشعوره
بالاغتراب الذاتي، فالسّفر دلالة على عدم الاستقرار، لهذا فإنّ الشّعور بالعجز في
تحقيق ما يصبو إليه هو الذي جعله يشعر بالاغتراب.
كما أنّ الإهداء الذي جاء على شكل تناص، أو ما يمكن أن أسمّيه بالتّناص المفاجئ،
مخيبًا توقع القارئ، وقد ظهر في
صورة صادمة؛ نظرًا لما
يفيده من معنى مزدوج، ليمثل صرخة احتجاج
في وجه الآخر، حيث يقول: "إلى ثلاثة.. رابعهم كلبهم". من هذا
المنطلق يحيل الإهداء على علاقة صداميّة بين الشاعر والآخر، وفي الوقت نفسه كشف النقاب عن الاغتراب.
وكثيرًا ما يغرق شبانة في ذاتيته، ملتصقًا بها من عنوان الديوان حتى
آخر قصيدة، ولا يخرج من دائرة العاطفة الفردية، مجسدًا حالته النفسية، وقد تميّزت
تجربة ناصر بأنّ تجربة اغترابه كانت داخليّة، وفي وسطه الاجتماعي والثقافي، لتعكس صورة
صادقة عن همومه وعذاباته وانشغالاته الفكرية.
ولو اطلعنا على عناوين قصائد الدّيوان، لوجدنا في عناوينها ما يشير
للوهلة الأولى عن هذا الاغتراب، الذي لا يتجاوز بكاء الذات، على نحو: نصوص الغربة،
أموت واقفًا، يا دمي لا تصدّق رصاص الكلام، نص الخديعة، قبر لي وآخر لحبيبتي، لا
ورد لي.
في قصيدة "الشنفرى" يقدّم شبانة صورة من الاغتراب على طريقة الإسقاط، وقد عبّر عنها من خلال شعوره بالمعاناة والرّفض والقهر، تمامًا كما هو حاصل عند الشنفرى، من
إقصاء واضطهاد وتهميش ومأساة، إذ يقول:
"طريد الجنايات
يا صاحبي الشنفرى
لعلها الصّدفةُ وحدها
اغتالتك في حلل الظلام
لعلّه الثأر القديم
لعلها تعويذة الموتى
تقدّم جثّتكْ"
وفقًا لما تقرر أعلاه، يصوّر شبانة الحالة المأساويّة التي أصبح عليها؛ الطّريد الشّريد، من
هنا يتلبس الشاعر بلباس الشنفرى، الشاعر الثائر، الرافض للامتثال لتعاليم العشيرة والقبيلة،
وعلى ضوء ذلك، يصبح الشنفرى قناعًا ومرآة عاكسة لهموم الشاعر وانشغالاته، وما
يعانيه من اغتراب وضياع، الأمر الذي جعله يشعر باستبدادية الواقع.
ومن بواعث اغتراب الشّاعر شعوره بالإقصاء والتعسف، ففي قصيدة "اعتراف"
المشحونة بالرفض والتمرّد والاحتجاج، يتفجّر شبانة غضبًا، ويصرخ صراخا مدويا، حيث
يقول:
"دعوني الآن أعترف
بأني أكرهكم
من قمّة الياء إلى قرارة الألف
يا من جدلتم الدموع بالدماء
في قصيدتي
لسوف مثل الشوك في طريقكم أقف
وفي وجوهكم...."
إنّ الفراغ المنقّط بوصفه تعبيرًا عن ناقص وغائب، قد استغرق قفلة
القصيدة، ولعلنا نتساءل هنا عن دوره، وعمّا يثيره في القارئ.
في معرض الإجابة نقول؛ إنّ الفراغ ترك للقارئ حرية التأويل والمشاركة، وعلى هذا الأساس
يصبح بإمكانه تأويل العنصر الغائب، ذلك بقوله: أبصق، أشتم، أصرخ، وما إلى
ذلك.
ويقدم شبانة في "نصوص الغربة" قصائد كنموذج
للاغتراب، وأوّل ما يطالعنا في هذه النّصوص قصيدة "رحلة الهباء"،
والرّحلة غير محددة جغرافيًا وزمانيًا؛ لتعميق الإحساس بالعجز والوحدة وفداحة
الاغتراب، الناتج عن عدم
القدرة على التوافق مع الواقع، يقول:
"ألقيتُ روحي في الهباءْ
وانفضّ عنّي الأصدقاءْ"
على هذه الشاكلة يرتبط الاغتراب عند الشاعر بالفقد والوحدة والشّكوى،
مصوّرا من خلالها أغوار ذاته الحزينة.
وفي قصيدة "من مفكرة جميل بثينة"، يستمر
حسّ الاغتراب عند الشاعر ممزوجًا بالمشاعر الذّاتية، إلى الحدّ الذي صار الشاعر يرى نفسه بأنّه غريب عن كلّ ما يحيط به، لعدم استطاعته تحقيق
طموحاته:
"وأنا الغريب يا بثينةُ
وأنا الغريب أنا الغريب أنا الغريب"
وفي مكان آخر، عبّر شبانة عن معاناته في أجمل صورة شعريّة بما يتلاءم
مع حالته المغتربة، حيث يجد القارئ في قصيدته الموسومة بـ "إنّي غريبٌ حيثما أقفُ"
شيئًا من التظلم والشكوى، تدل
على عمق غربة الشاعر، إذ يقول:
"إنّي غريبٌ حيثما أقفُ
في باحةِ الحُلمِ، في الدُّفلى، وفي قمرٍ
لا يُشبه القمرَ المُلقى على جَسَدِ
الزّنجيّةِ القَلبِ لا تحنو على أحدِ"
وعلى الرّغم من شعور شبانة الطّاغي
بالاغتراب عن وسطه الاجتماعي، إلاّ أنّ قصيدة "أموت واقفًا" جسّدت عزّة
النفس والكبرياء، وهذا بالفعل ما يتراءى لنا في الظاهر دون الخوض طبعًا في نوايا
الشّاعر الباطنة، ليظهر اغتراب شبانة نتاج التعالي والتباهي على الآخرين، يقول:
"أريدُ أن أعيش مثلما أريد
أريدُ أن أموت واقفًا
بلا طقوس القهوة السّمراء
أو حدود غرفة العزاء"
يمتد اغتراب شبانة إلى أن صار قدرًا لا
مفرّ منه، والقصيدة الموسومة بـ"من مذكرات حي بن يقظان"، تشير
إلى ذروة التأزم النفسي التي يعانيها؛ جرّاء الاغتراب إلى حدّ الخوف، يقول:
"إنّي أخافُ التّرنح خارج أعمدة
الأرض
إنّي أعيشُ بلا وطن في السماء"
وتجسّد قصيدة "نصّ الخديعة"
اغترابًا حادًّا، يعبّر الشاعر من خلاله عن عمق اغترابه، وانسلاخه عن الواقع،
الأمر الذي جعله يحس بوطأة انسلاخه عن المكان، رغم أنّه يعج بالضجيج الكسيح:
"لا أهل لي
ولا ظهر لي
ولا قمح لي
ولا قبرَ لي
وسط هذا الضجيج الكسيحْ"
يفقد الشّاعر إحساسه بالمكان، وإن هذه
الـ "لا" النّافية للجنس، الضّاجة بالحزن والألم والغزلة والقهر،
ما هي إلا وليدة الإحساس والشعور بالخيبة والصّدمة، ليدخل الشاعر في مرحلة الضياع
واللااستقرار، نازعًا في ذلك نحو التشاؤم والسّوداوية، ويصدق ذلك تمامًا على قصيدة
"قبر لي وآخر لحبيبتي"، التي تمتاز بمسحة من السّخرية العابرة،
فيما يمكن إدراجها ضمن ما نصطلح على تسميته بـ "وجع الاغتراب"، يقول:
"هل ثمة قبرٌ لي إنْ متْ
في حوض البقعة حيثُ ولدتْ
هل ثمّة قبرٌ لي
في موقع عزرائيلَ
على شبكات الإنترنتْ"(5)
نظرًا لضيق المجال هنا، نأتي على نهاية
المقالة، وخلاصة ذلك كلّه أنّ شعر
شبانة يعدّ شعرًا رومانسيًا ذاتيًا، الأمر الذي يجعله متحررًا من قيود
المدرسة الكلاسيكيّة، ويسمح له بحرية في التّعبير. فضلًا عن ذلك، فإن شعره يمثل تعبيرًا عن خلجات نفسه المبنية على
العاطفة الخالصة، لهذا يمتاز بظاهرة كبيرة من الحزن الذاتي المفضي للاغتراب.
كما تخلص المقالة إلى نتيجة مفادها أن تجربة الاغتراب في شعر ناصر
شبانة سمة بارزة، تمثلت في البحث عن الذّات المتشظية والحرّية المفقودة والشّعور
بالتّهميش وعدم التّكيف، لذلك عكست تجربة الاغتراب الحزن المخبّأ في صدر الشّاعر،
إضافة إلى أن نغمة الاغتراب استفاضت في ديوان سفر يليق بقامتي، حتى صارت تستلفت
النظر، إلى الحدّ الذي صارت فيه محورًا أساسيا في معظم النصوص، والقارئ مدعو لمراجعة شعر الشّاعر ليرى
فيه المزيد.
*باحث وناقد، حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب والنقد الحديث.
المصادر والمراجع
(1) انظر،
مصادر التناص وأشكاله في شعر ناصر شبانة: مها العتوم، مجلة اتحاد الجامعات العربية
للآداب، مج8، ع1، 2011.
(2) انظر،
آفاق نقدية، دراسة لحركية الخطاب الشعري في الأردن: عماد الضمور، ط1 ـ 2008، دار
يافا للنشر والتوزيع، عمان، ص 131.
(3) انظر، معجم
الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، منشورات وزارة الثقافة، 2014، ص 303.
(4) انظر، الاغتراب وأزمة الإنسان المعاصر: إسكندر رمزي، ط1 ـ 1988، دار
المعرفة الجامعية، الإسكندرية.
(5) سفر يليق بقامتي: ناصر شبانة، ط1 ـ 2005م، أزمنة للنشر والتوزيع،
عمّان.