كل شيء كان يبدو واضحاً للعيان بشأن
ما تخطط له السعودية أو ما تدفع إليه من قبل
الإمارات وحاكمها الفعلي محمد بن زايد. فمنذ اللحظة الأولى غرَّدَ من بات واقعياً "سفيراً سعودياً غير مقيم" لدى
اليمن، محمد آل جابر، مبدياً فيها انزعاجه "الظاهري" من مناورات تجريها القوات التابعة للحكومة
الشرعية في شقرة.
كان ذلك في الأسبوع الثالث من شهر آذار/ مارس الماضي، وقد تزامن مع تحركات للمجلس الانتقالي في عدن ضد عملية سعودية لنقل جنود يمنيين موالين للرياض إلى عدن، ضمن قوة مخصصة (كما هو معلن من الجانب السعودي) لحراسة المنشآت في العاصمة المؤقتة.
ها نحن أمام معركة استنزاف تدور رحاها في محافظة أبين وصُمِّمتْ بعناية من قبل الرياض، بالتنسيق الكامل مع أبو ظبي. كلا الدولتين تُمسكان جيداً بأتباعٍ سيئين مستعدين للتضحية ببلادهم مقابل الاصطفاف المدفوع الأجر مع أبو ظبي أو الرياض.
ولدى البلدين ظهيرٌ دولي انتهازي تمثله روسيا وفرنسا، وإلى حد ما بريطانيا، وهي الدول التي يواظب سفراؤها وموظفوها الدبلوماسيون على إجراء اللقاءات المتكررة مع رئيس
المجلس الانتقالي الجنوبي في أبو ظبي والرياض، في تحرك يوحي برسوخ الدور الذي يؤديه المجلس، ويبرر كذلك
للخطوات التصعيدية والخطيرة التي اتخذها هذا المجلس مؤخراً.
منذ بدء تدخلهما العسكري في اليمن هيأت الرياض وأبو ظبي الأسباب المتاحة لصراع بدا ذا طابع سياسي بين فريقين يفترض أنهما يقعان ضمن معسكر الشرعية، فكان فريق أبو ظبي يمضي قدماً في تسويق مشروعه الانفصالي عبر خطاب بغيض وعدائي ضد معسكر الشرعية. وكان هذا النوع من الصراع السياسي يغطي على الترتيبات التي تأخذ معركة استعادة الشرعية بعيداً عن أهدافها، وتشجع
السعودية والإمارات على التحلل من التزاماتهما تجاه السلطة الشرعية.
وطبقاً للخطاب الإعلامي للانتقالي الجنوبي، فإن معسكر الشرعية أو معظمه شرير ومعاد للجنوب، باستثناء الرئيس هادي الذي ينتمي للجنوب هو ومعظم القيادات الرئيسية في السلطة الشرعية. لكن الحملة العدائية التي يتبناها الانتقالي كانت تتجه بشكل مباشر ومقصود نحو التجمع اليمني للإصلاح، الذي يشار إليه باعتباره جزءا، بل كل التنظيم الإخواني الإرهابي، استناداً إلى اللائحتين السعودية والإماراتية للإرهاب "السياسي الانتقائي".
السيمفونية النشاز التي يعزفها الانتقالي عبر منظومة متنوعة من وسائل الإعلام المدعومة من الإمارات، تتهم الشرعية ورئيسَها بالخضوع الكامل لأجندة الإخوان، في الوقت الذي يجري فيه تصنيف الإخوان على أنهم أداة قطرية تركية، وبالتالي فإن الشرعية وقواتها وطيفها السياسي معسكر معاد وينفذ أجندة قطرية تركية ويتلقى تمويله من هاتين الدولتين.
وفي الوقت الذي يُستبعدُ فيه الرئيسُ هادي من هذا التصنيف، فإنه يبقى بنظر هذا الخطاب مرتهناً بشكل أو بآخر لأجندة الإخوان المسلمين، وهذا يعني أنه بمجرد الانتهاء من استخدامه سياسياً فإن كل المبررات جاهزة لقتله المعنوي والسياسي في أية لحظة تقرر فيها الرياض وأبو ظبي أن الأمور باتت جاهزة لتقرير مصير اليمن، بعيداً عن الدمية الرئاسية المزعجة المحفوظة في أحد الأجنحة الفارهة بالرياض.
وفي المقابل، يتصاعد الخطاب الإعلامي والسياسي المبرر من جانب معسكر الشرعية ضد الانتقالي الذي هو أداة إماراتية، وضد الإمارات كذلك التي قدمت كل الأدلة على أنها باتت بلداً معادياً لليمن بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
ويمكن القول إن الفريقين المتشاكسين دخلا منذ سنوات مضت مرحلة الاستنزاف السياسي المتكافئ في إطار معسكر يقع عملياً تحت مظلة التحالف السعودي الإماراتي، لكنه بهذا القدر من التناقض والعدائية التي لا تسمح أبداً بالتوافق حول الدور المفترض والجامع لهذين البلدين على الساحة اليمنية، بحيث يبقى ما يقومان به مبرراً من أحد الطرفين مهما كان سيئاً، وبغض النظر عن آثاره الكارثية على اليمن وسيادته وسلامة أراضيه.
الخلاف بين معسكري الشرعية المتشاكسين ينتقل اليوم إلى حالة من المواجهات العسكرية التي تأخذ المنحى ذاته من الاستنزاف متعدد الساحات، بدءا من شبوة ومروراً بعدن وأبين وانتهاء بمحافظة أرخبيل سقطرى.
وتشاء الأقدار أن أشد وأعنف المواجهات تدور في محافظة أبين، التي ينتمي إليها الرئيس هادي، حيث تَجمَّع فيها مقاتلون متعددون يجمعهم الولاء لأبو ظبي والخصومة مع الرئيس ومحافظته وأبناء محافظته.
فتجد أبناء الضالع ويافع الجنوبيين يجتمعون مع جماعة طارق عفاش الشماليين، متسلحين بأحدث المعدات العسكرية الإماراتية، في خليط متناقض الأجندات، ومع ذلك يخوض هذا الخليط من المقاتلين معارك عنيفة مع قوات الشرعية التي ينحدر أبناؤها من محافظتي أبين وشبوة، لمنعها من دخول مدينة زنجبار عاصمة المحافظة، وخشية من تحركها نحو العاصمة السياسية المؤقتة عدن التي تبعد 65 كيلومتراً فقط إلى الغرب من زنجبار.
يحاول أنصار الإمارات التغطية على الأبعاد المناطقية لهذه المعركة، لكن تسجيلات وتسريبات عديدة من ناشطين مناصرين للانتقالي، تُظهرها على حقيقتها كمواجهة مناطقية بالأساس، وصراع جهوي على السلطة تتم تغذيته هذه المرة من أحد دولتي التحالف السيئتين.
يقول أنصار الإمارات إنهم يخوضون حرباً ضد القوات الإخوانية الموالية لقطر وتركيا، وهو توصيف يدعو للشفقة، لأن أي عاقل لا يستطيع تصديق أن القوات التي تزودها السعودية بالنزر اليسير من السلاح تقاتل في أبين؛ لا للعودة إلى عدن وتمكين السلطة الشرعية التي تدعمها السعودية، بل لتوسيع نفوذ تركيا في الساحة اليمنية.
هذا النوع من الهرطقة السياسية مقصود لذاته، فهو في النهاية يسهم في تنميط المعركة باعتبارها مواجهة بين التحالف الذي يمثله
المجلس الانتقالي الانفصالي، وبين التحالف القطري التركي الذي تمثله قوات الحكومة الشرعية.
لا تستغربوا، فهذا التنميط سيجري توظيفه قريباً عندما تصبح هذه المعركة استنزافية، ولن تفضي إلى نتيجة ميدانية جوهرية لصالح الشرعية، بحيث يجري إقناع الشرعية بأنه من الصعب تطبيق اتفاق الرياض بعد فشل قواتها في تطبيقه على أرض الواقع.
وهذا يعني في ما يعنيه دفع الشرعية طواعية إلى القبول بالنتائج السياسية للمعركة، وهي تحقيق ما تريده الإمارات بالتحديد، وهو جنوب منفصل عن كيان الدولة اليمنية، وضعيف بما يسمح لها بتحقيق الأحلام المبالغ فيها لحاكمها الذي يتطلع إلى بناء دور توسعي لأبو ظبي، على حساب واحدة من أقدم الدول في العالم وهي اليمن..
twitter.com/yaseentamimi68