إذا كانت هذه الحياة
الدنيا دار ابتلاء وألم وكبد عارض مؤقت، وليست فردوسا أو نعيما مُقيما؛ بل هي دارُ معبرٍ إلى دار مقر، وإذا كان الإنسان لا يعرف فيها راحة، ولا يذوق شيئا من التنعُّم إلا وجاوره منغصات شتى، ولما كانت الحكمة الإلهيَّة قد اقتضت أن يكون الابتلاء لكل بني آدم (بلا استثناء من نبي مُرسل أو ولي مُقرَّب) إقامة للحجَّة عليهم، وجعلت أداة الابتلاء هي الحريَّة الإنسانيَّة في الاختيار، والمرتبطة بالمقدرة على اختيار
الشر وإتيانه؛ صارت كل طوبيا تُعادي الشر البراني مُعادية بدورها للحريَّة الإنسانيَّة. وصارت محاولة استئصال الشر من الوجود كأنها محاولة لاستئصال الإنسان نفسه، بما يكتنِفها من جهل وإنكار إلحادي لتركيبيته الإنسانيَّة، وحريته التي فطره الله عليها. بل كانت هذه المحاولة نفسها بابا لأعظم الشرور في تاريخ الإنسانيَّة، كما يتجلَّى في اللحظات النماذجيَّة الطوباويَّة إبَّان القرن العشرين: الستالينية والنازية والصهيونيَّة والماويَّة(1).
والمثير للتأمُّل، أن التضخُّم والتغول البراني لـ"الشر" الإنساني، وما ينتج عنه من أهوال وآلام مُفجِعَة؛ قد ارتبط ارتباطا شبه حتمي بالحداثة، وبالتضخُّم الطفولي المرضي لتوقُّعات الإنسان من هذا الوجود الدنيوي القصير، وحُسبانه فردوسا أرضيّا نهائيّا يُمكننا "الاكتمال" فيه بكل ما نشتهي، بعد أن نتحكم في كل موجود؛ كما أوهمتنا بذلك دعايات الغرب العلمويَّة وطنطنة عبيده منذ عقود.
وإذا كان تضخُّم توقعات الإنسان من واقعه المحدود قد ارتبط بأسباب علمويَّة موضوعيَّة (لا مجال لتفصيلها في هذا الموضع)، جعلته يُصدق فعلا أنه قد يكون بصدد بلوغ فردوسه ونعيمه عاجلا على هذه الأرض، ومن ثم يُنكِرُ اليوم اﻵخر، ولو ضمنا؛ فلعلَّ التضخُّم الإضافي للشر الإنساني، وتغوله بهذه الدرجة؛ يكون من الألطاف الإلهيَّة، التي تُنبه أصحاب الفِطَر السليمة إلى حجم الوهم في توقُّعات بني جنسهم، وتجعلهم يربطون ربطا سببيّا مباشرا (وكاشِفا) بين التضخُّمين: تضخُّم الشر حتى كاد يتم تأليهه، وذلك بالتوازي مع تضخُّم تطلُّع الإنسان إلى فردوس أرضي يتوقَّف فيه الكَبَدُ، ويسقط التكليف؛ ليتنعَّم البشري بعالمٍ لُفِّقَ على هواه. عالم "ملائكي" توهَّم إمكان تحقُّقه، لولا عدَّة ملايين من "الأشرار"؛ الذين يلزمه محوهم من الوجود محوا! ولاحظ أن كل أيديولوجيَّة شموليَّة ستُعيد تعريف "الأشرار"، الذين يتعيَّن عليها محوهم من وجهة نظرها؛ بما يتوافَق مع طبيعة الفردوس الأرضي الموهوم الذي تدعو إليه(2).
لكن بما أن هذه الدنيا دار ابتلاء، وجودنا فيها عابر عارِض مؤقت؛ فإن من المستحيل عقلا (ناهيك عن الأدلة النصيَّة المتواترة) عند أي مسلم صحيح الإسلام توهُّم إمكان بلوغ طوبيا أو فردوس أرضي في هذا الوجود المنقوص. ومن ثم، فإن "الفردوس الأرضي" نفسه لا يَصِحُّ حتى بوصفه مثالا إنسانيّا نصبو إليه، فهو تصور ساقِط معدوم الإنسانيَّة، إذ هو تصور غير تاريخي للتاريخ.
لقد جعل التصور الإسلامي من توهُّم الوجود الفردوسي الأكمل، في المخلوق التاريخي العارِض الناقِص بطبيعة خلقه؛ توهُّما قد يُخرِج صاحبه من الإسلام بغير وعي، ويدفعه ليُنكِرَ ضمنا شيئا من المعلوم من الدين بالضرورة، كاليوم اﻵخر. إذ إن المسلم (سليم الفطرة صحيح الاعتقاد) قد عَلِمَ ابتداء أنه في دار ابتلاء، وأن طبيعة هذه الدار هي النقص والمكابدة والألم.. إلخ، إلى سائر المنغصات التي لا توجد في الجنة. ومن ثم، أيقن أنه سينتقل بعدها إلى دار أخرى، وأن موطن إقامته في الدار اﻵخرة، الذي سينتقل إليه بعد اليوم الموعود؛ مرهون بصدقه مع الله. هذا الإيمان، باليوم اﻵخر وما بعده؛ يقتضي ضمنا الكفر بالفردوس الأرضي والطوبيا الدنيويَّة، التي تُبشِّر بها شتى الأيديولوجيات. وهو اعتقاد من لوازمه اليقين أن أيَّة محاولات لاختلاق الفردوس الأرضي الموهوم، لن تُثمِر إلا تضخُّم الشر وازدياد الأذى وتفاقُم الألم؛ إنها محاولات جد باهظة، وهي السبب الرئيسي لشقاء البشريَّة؛ إذ ليس لها من ثمن سوى تحطيم إنسانيَّة الإنسان وتقويض عبوديته لله، وحرف استقامته، وخرق التزامه بمقتضيات التكليف.
وإن استحالة الفردوس الأرضي يجب أن تَسْوق المؤمن للتساؤل ومحاولة استكناه طبيعة "الفردوس" ممكن التحقق، في دار الابتلاء؛ أي: الفردوس القلبي. إذ هو الفردوس الوحيد ممكن التحقُّق في هذه الدنيا وعلى هذه الأرض. إنه: فردوس الإيمان، الذي يُمثِّل خلاصا حقيقيّا من منغِّصات الحياة البرَّانية وآلامها. إنه الفردوس الحقيقي الذي يُحرر المؤمن من المخاوف والأوهام، ويهوِّن عليه الخُسر البرَّاني الحتمي. وهو فردوس لا يُقلِّص مشاق الحياة ومصاعبها الموضوعيَّة، وإنما تَهون به كلها في روع المؤمن، إذ يُدرك أنها ليست كل شيء، وليست مآل الوجود ولا نهايته. هذا الفردوس القلبي هو باب السلام النفسي، إذ به يُدرك المؤمن أن الحياة قد تتفاقم مشقتها لأنه مكلَّف بمكابدتها، ولأنه يعرف أنه لن يُدرك منها ما يُريد، ولا حتى بعضه؛ وأن جوهر تكليفه هو صدق السعي ومداومته على هذا الصدق إلى آخر نفس.
ومن ثم، يصير كل ما بينك وبين الفردوس والسلام الحقيقي سجدة واحدة مُخلصة لله؛ سجدة تنسكِبُ فيها كل الدنيا. حينها، وحينها فقط؛ يصير الجحيم الحقيقي هو غيابك عن المعيَّة الإلهيَّة، ولو للحظات. ويصير الشر المحض هو أن تُوكَل لنفسك. ساعتها يُمسي اهتزاز إيمانك أو نُقصانه مرضا حقيقيّا يُنهِك روحك وينهش جسدك، ذلك أن حياتك كلها تبدأ وتنتهي في صدرك.
لكن برغم كون الفردوس القلبي هو كل الفردوس الوحيد الممكن فعلا في هذه الدنيا، إلا أنه ليس فردوسا نهائيّا مضمونا أبدا، بل يقتضي دوام مكابدة للاستقامة كما أمرت. وهو ما يعرفه المتنعِّمون ببعض الفردوس القلبي: فإن كل منغصات العالم البرانية لا يمكن أن تهتز لها شعرة في أجسادهم، وإن الألم الحقيقي لا يبدأ إلا مما تعلَّق به القلب، وما عدا ذلك فتراب إلى التراب. إن الفردوس القلبي نعيم ظاهره الرحمة، وباطنه المكابدة، أو إن شئت قلت: بعضا من عذاب قد يُنجي من عذاب يوم الفزع الأكبر.
إن محاولة اقتلاع الشر الإنساني هي الشر الأكبر، لا لأنها تقويض للإنسان ومحق لإرادته فحسب، ولا لمجرَّد كونها محاولة عبثيَّة لإيقاف التاريخ والكبد، وتعطيل التكليف؛ بل لأنها تتغيَّا ضمنا القضاء على قدرتنا الفطريَّة على إتيان
الخير، إذ تُحيل الحياة إلى وجود آلي أُخلي عنوة من الحياة؛ ذلك أن جوهر الوجود الإنساني ومداره هو وجوده الأخلاقي، المتجاوز للوجود البراني الآلي؛ أي قدرته على التمييز بين الخير والشر، ثم الاختيار من بينهما. بهذا وحده فُضِّل على المخلوقات، وتمايزت إنسانيته. وبهذا وحده أُسجدِت له الملائكة.
__________
1- يُراجع المقالان السابقان: "
مدخل لفهم الشر"، و"
مخلوق اسمه الشر".
2- فكرة الطوبيا نفسها هرطقة فلسفيَّة قديمة قِدم الإنسان نفسه، لكنها لم تكتسب زخما يسعى لفرضها قسرا على الواقِع، إلا مع الحداثة؛ التي زودت الإنسان بآليات إبادة غير مسبوقة لنوعه!