أخبار ثقافية

القمع وتمظهراته في الجدران المثقوبة.. لوليم هلسة

الجدران المثقوبة
الجدران المثقوبة

يعدّ وليم هلسة، المولود سنة 1951م، في بيت لحم بفلسطين(1)، واحدًا من الكتّاب الأردنيين المغمورين، وقد عمل محررًا في العديد من الصّحف الأردنيّة اليوميّة، لا سيّما صحيفة الدّستور، وهو أحد روّاد القصّة الأردنيّة القصيرة، والمجموعة القصصيّة الموسومة بـ"الجدران المثقوبة" التي نحن بصددها، صادرة عن رابطة الكتّاب الأردنيين، سنة 1981م.

 

توزّعت المجموعة على اثنتي عشرة قصّة، تتراوح كلّ قصة وسطيا ما بين صفحتين وخمس صفحات، تحمل العناوين الرّئيسية التّالية:


يارا التي تنتظر
كيف أصبحت القراءة ممنوعة؟
في الظّل
الفتاة التي كانت غريبة
الحديقة رغم كلّ الأشياء
يوم نمت الورود الحمر
الجدران المثقوبة
البئر الغربيّة
صائد الفراشات
الاعتقال
شارع الضّجيج
نسيج العنكبوت


القمع وتداعياته

 

ظهرت انعكاسات القمع بأشكاله كافة في القصّة، لتجسّد طاقة مهمّة، لها خصوصيتها، في التّعبير عن معاناة الشّخصيّة، وقد عمد وليم هلسة إلى رصد حالات القمع، إذ يمكننا أن نلمح خطًّا تصاعديًا للشخصيّة في الجدران المثقوبة، في محاولةٍ لتلمس حقيقة ذاتها في ظلّ سلطة قامعة، وقد ظهر القمع في كلّ وجوه التّعامل القائم بين الشّخصيّة والمحيطين بها جميعًا.

 

من هنا كانت فكرة هذه المقالة، ولعلّ المقدّمة التي أجراها خليل السّواحري عن هذه المجموعة أفادتنا كثيرا في مقالتنا هذه، وإن كان السّواحري قد وطّأ لوليم هلسة، فإنّه أعطانا صورة كلية عن المجموعة، قائلا بأنّ مجموعة وليم هلسة تقدم عالمًا من الكوابيس، التي تصح أن تكون رؤيا صادقة لما يعانيه الإنسان المعاصر من مظاهر القمع والاستلاب والغربة، وأستدرك هنا فأقول؛ إنّ القمع من أهمّ قضايا العصر الّتي تتعرّض لها المجتمعات، وفي وسعنا أن نضيف إلى ما قاله السّواحري أيضًا؛ بأنّ قارئ المجموعة سيلحظ مدى اهتمام كاتبها بتكريس هيمنة القمع، بقطع النّظر عن أشكاله وتمظهراته. 


البنية الفنيّة

 

تنهض المجموعة القصصيّة على تقنية السّارد العليم والمشارك، هذا بالإضافة إلى أنّ هذا السّارد غالبًا ما يتماهى تقنيًا مع مرويه كشخصيّة محوريّة، ولعلّ صورة الغلاف تعكس ما يريد الكاتب إيصاله إلى قارئه، فمن جانب هناك شخص يظهر على أنّه داخل زنزانة، وللقارئ أن يتخيّل هذا المشهد من حياة السّجين، وليتساءل عن مصيره بين يدي السّجّان، هذا فضلا عن العنوان، الّذي يرشح بالدّلالة، نظرًا لما توحيه الجدران المثقوبة في النّفس من قسوة، وغلظة، وجمود. والمثقوبة دلالة على معاناة ومأساة، وقد جاء الإهداء الّذي لا يخلو كذلك من الإشارة إلى القمع؛ لتأكيد الدّلالة، حيث يقول وليم هلسة:


"إلى الّذي علّمني كيف أقرأ، واختار لي الكتاب الأول قبل أن تصبح القراءة ممنوعة. إلى روح والدي".


وإذا ما قرأنا الإهداء قراءةً واعيةً وسابرة، فإننا سنستنتج أنّه يعقد على ثنائيّة محوريّة هي: المسموح والممنوع، وكلّ طرف من هذه الثنائيّة يستقطب أتباعه وأشياعه الّذين يماثلونه ويشبهونه، ومن يتأمّل هذه المجموعة القصصيّة، تستوقفه إشارات عدّة يوثق صلتها بموضوع القمع، لتمثل المجموعة إدانة صارخة لكلّ ما هو قمعي. 


القمع وتمظهراته في الجدران المثقوبة


في البداية، نشير إلى أنّ قصّة "يارا التي تنتظر" بوصفها معادلًا فنيًّا موضوعيًا، ورمزًا لفلسطين، تجسّد إحدى الشّخصيات المقموعة، الرازحة تحت رحا قمع الاحتلال الصّهيوني، وترسم جانبًا من المشهد الكلّي لحياة الشّخصيّة، لذلك فهي محتجزة في قلعة كبيرة تجثم على الحدود المتاخمة لمسقط رأس الرّاوي، وحارس القلعة يمارس معها أساليب الاضطهاد والتّعذيب والاغتصاب كلها، وبالمحصّلة فإنّ هذه القصّة في النّهاية تأخذ بعدًا رمزيًا.


أمّا قصّة "كيف أصبحت القراءة ممنوعة" يغلب عليها -إن جاز لنا أن نقول- القمع الثّقافي، الممارس من السّلطة القامعة، المتمثلة برجال المخابرات، ما يمكن أن نسميه بالقمع الممأسس والمنظم، وتزداد حدّة القمع حين تصل إلى مصادرة حرية التفكير؛ إذ تدور القصة حول شخصية نبيل، الصّحفي المثقف، شاب في السّابعة والعشرين، يمتلك شقة صغيرة، فيها مكتبة أنيقة، تحوي مجموعة من الكتب الفكرية والأدبيّة، تأخر ذات يوم، وإذ يتفاجأ بوجود رجلين داخل شقته، يجلسان بكلّ حرية، قائلين: نحن من جمعية حماية الأفكار، وقد حضرنا لتحذيرك من مغبّة قراءة الأفكار الرّديئة واعتناقها"، وعندما أشار نبيل إلى رفّ المكتبة العلوي، التي تحوي أشعار المتنبي وعنترة وأبي العلاء المعري، ليوضح للمحققين بأن أفكاره التي يأخذها من الكتب سليمة، وليست رديئة كما يتصوّر، قاطعه أحد المحققين بأن الرّداءة موجودة فيها، ومن الغريب المدهش أنّ المحققين لا يقلون عن نبيل ثقافة ومعرفة وقراءة ودراية بالكتب، ولا نغالي إذا قلنا بأنّهم على مستوى عالٍ من الثقافة.

 

ليكشف القاص أن علاقة هؤلاء المحققين مع قمع الأفكار ومصادرة الحريات تمثلت بالعلاقة الجدليّة، فهم معها وفي الوقت نفسه ضدها، وفيما يبدو كخلاصة نستنتجها من هذه القصّة، أنّ قمع الصّحفي نبيل، يمثّل إلى حدّ ما معاناة قطاع أو مؤسسة بأكملها، تأخذ قراراتها وتستقي أخبارها لا من مظانها الصحيحة بقدر ما تأخذها من إملاءات السّلطة القامعة.  


وفي سياق القمع ذاته، يقدّم وليم هلسة في قصة "في الظّل" نموذج إدارة المستشفى كسلطة قامعة، حيث نجد المريض منصور مقموعًا ومنكسرًا وحزينًا، ذلك بسبب رفض المستشفى طلبه للخروج إلى الشّمس، إذ إنّ حالته المرضيّة تستدعي وجود ممرض خاص بجانبه، وكان الممرضون مشغولين، فرفضوا طلبه، وهنا لا يجد منصور من عزاء له في حالات الخيبة سوى الهرب والانكفاء على ذاته، وعلى ذلك نلحظ أنّ منصورًا يمثل نموذجًا للشخصيّة المقموعة.


وإلى جانب هذه القصة، تقف القصّة الّتي تحمل اسم "الفتاة التي كانت غريبة" كنموذج آخر للقمع، يصوّر السّارد حالة الشّخصية المخيّبة، وأحلامها الموؤودة، حيث تخيّل نفسه أنّه في بيت وليد البيك، وقد فوجئ بوجود فتاة غريبة، تتمتع بجمال خاص، تعارفا، غير أنّه لا يلبث أن ينتبه لطرقات خافتة على الباب تنبئ بانتهاء الدّوام، وعلى هذا النحو، يتضح بأن القمع الممارس على الشخصيّة لم يكن بفعل الحلم والتّخيل، وإنّما بفعل اليقظة والواقع، وهنا تكمن المفارقة، الباعثة للاغتراب والتّشظي.


كما قدّمت قصّة "الحديقة رغم كلّ الأشياء" صورة للقمع، حيث تظهر الثقافة الاجتماعيّة كونها سلطة مارست بدورها قمعا أكبر على المجتمع، ممثلة بالعادات والتقاليد، لذا يسعى وليم هلسة بدوره لإدانة قمع الأب والمجتمع، حيث يهيم سارد القصّة بصفاء، وتهيم به، وبالرّغم من وفاة أبيه، إلّا أنّه ظل محكومًا بهاجس الخوف منه، وهو في قبره، وعندما ذهب مع صفاء إلى أحد المطاعم السّياحيّة، استقبلهما رجل أنيق، وصافحهما ببرود، وانحنى يهمس في أذنه، يسأله عن الفتاة التي ترافقه، فأجاب بأنّها خطيبته، وبكلّ هدوء عاود القول بأنّه لا يرى ما يدلّ على ذلك، فصرخ بصوتٍ عالٍ، بأن يكفّ عن هذا التّحقيق، فقاطعه الرّجل قائلا بأنّ التّعليمات الجديدة تمنع الحبّ والعشاق ارتياد الأماكن العامّة، وعلى هذا النّحو، يعمد السّارد عبر مجموعة من اللقطات المشهديّة وصف حال الشّخصية المقموعة.


وقصة "يوم نمت الورود الحمر" يعمل السّارد فيها على رصد حيوات السّجين، إذ يواجه (فتحي) قمعًا، لم يبذل مقاومة في ردّه، وقد حكمت عليه الأقدار أن يعاني الاضطهاد والظلم، ويحمل خشبة عذابه على كتفيه.
تأتي قصّة "الجدران المثقوبة" الّتي حملت المجموعة عنوانها، لتعزز ظاهرة القمع، إذ إنّ  السّارد يعيش تحت وطأة القمع، ما إن سمع صوتًا يدعوه لحضور اجتماع مسائي، حتّى وقف أحد الحرّاس الأشدّاء من الخدم، وأخرجه من الاجتماع.


وفي قصّة "البئر الغربية"، تواجّه الشّخصية قمعًا بفعل العادات والتقاليد، فقد وقع عادل ونورة ابنة شيخ القرية علوان في شباك الهيام والحب، أحبّها وأحبّته، وكثيرًا ما كانا يلتقيان عند البئر الغربية، يتجاذبان أطراف الحديث، يحلمان، ويرسمان، ويخططان للزواج والمستقبل، وعند انتهاء دوامه كلّ يوم خميس يذهب في نهاية الأسبوع إلى قريته ليراها، وقد رأى أعلام الزّينة تملأ سطوح البيوت، واستطاع أن يستنتج أن هناك عرسًا، تسمرت قدماه في الأرض، لمّا علم أنّ العرس لبنت الشيخ علوان، وانهارت أحلامه دفعة واحدة، ومن هذا المنظور يتراءى لنا كقرّاء أنّ الشخصية وقعت ضحية لعرف اجتماعي، خاصّة أنّ الأنثى ظهرت شخصية مغلوبة على أمرها، في ظلّ مجتمع لا زال يعيش الماضي، لا يؤمن بالحبّ والانتظار، ليغدو المجتمع مكانًا يصادر حريّة الشخصيّة.

 

وإذا ما تمعّن القارئ في عبارة نورة وهي تصرخ في أعماقها: "عادل لما بتعرف شو صار رايح تسامحني"، سيدرك جانبًا من معاناتها، لتضطر ساعتئذ الامتثال لأوامر العائلة والقبيلة والعشيرة، لهذا امتثلت أنثى السّارد لرغبات المجتمع امتثالا كليًّا، الأمر الّذي أدّى بها في نهاية القصّة إلى أن تختار الموت الرّحيم في أقصى حالات الامتثال للزّوج الجديد.


ويسعى السّارد في القصّة المسمّاة بـ "صائد الفراشات" إلى تقديم سمير كشخصيّة قامعة ومقموعة، في الوقت نفسه، وقد كانت إحدى هواياته المفضّلة صيد الفراشات الملوّنة الكبيرة، وقد كانت أمّه دائمًا تعاقبه على سرقة الفناجين، الّتي غالبًا ما كانت تتحطّم بعد أن تتغذّى فراشاته على السُّكر الموجود فيها.


وتعدّ قصّة "الاعتقال" من القصص الجديرة التي يمكن للقارئ أن يتوقف عندها قليلا، تنطلق القصّة من إعلان قوّات الاحتلال القبض على أحد الأشخاص، بتهمة القيام بالشّغب، وإثارة الفوضى، صبيحة الاحتفال بيوم الخلاص، ليكشف لنا السّارد عن سعي سلطة الاحتلال، كونها سلطة قامعة إلى قمع المعارضين والمطالبين بالحرّية والخلاص، لهذا تعمد إلى ممارسة القمع لإسكات المعارضين.


وفي الصّدد ذاته، ونعني القمع، تعد قصّة "شارع الضجيج" قصّة مكان، إذ يهتم السّارد بالمكان كحيز جغرافي، يحتوي شخوصًا تجسّدوا على هيئة ظلال، وفيما إذا قارنّا ما بين هذه القصّة وقصّة "البئر الغربية"، السّالفة الذّكر، من حيث الفكرة والمضمون والمحتوى، نلتمس خيطا مشتركًا، من الهمّ والمعاناة والقمع، حيث إنّ قارئ القصّة سيخرج باستنتاج أنّ الأنثى تعيش تحت ربقة الموروث الاجتماعي وسطوته، لا تستطيع تجاوز القيم والعادات والتقاليد المفروضة عليها، من هنا فإن المكان المتمثل بالشّارع المكتظ بالمارّة يأخذ بعدين متناقضين: بعدًا متحررًا وبعدًا قامعًا في الوقت نفسه، يقول السّارد:


"كأنها تخاف من رؤية شيء ما، تخاف أن تلتقي عيناها بهذا المجهول الذي تهرب من ملاقاته. جذبه عمق الحزن في عينيها، ونحول جسدها في غير مرض. أصبح مشدودًا للون وجهها الشّاحب، وللهالات الزّرقاء الخفيفة المرتسمة حول عينيها. عندما ابتعدا كانت تنظر حولها بخوفٍ وذهولٍ كأنّها اقترفت جريمة نكراء، وتخاف أن يراها أحد من النّاس. بعد ذلك الصّباح كانت كلّما تراه تذهب في شارع فرعي؛ تفاديًا لذلك الاحمرار الذي يحرم وجهها لونه الشّاحب؛ وخوفًا من ذلك الارتعاش اللذيذ الذي يولد الابتسامة على شفتيها".


وعلى المنوال ذاته، تتجه البنية القصصيّة الأخيرة في "نسيج العنكبوت" وفق منهجية إخباريّة إلى القمع، ولكن هذه المرّة، سيكون القمع موجّهًا من المرأة إلى الرّجل، حيث تجسّد القمع بفعل الخيانة، إذ يقول السّارد: "قضيتُ عمري أكافح من أجلها. بنيت لها قصرًا، من أجلها دست الرّحم الذي طرحني، ومزقت الأثداء التي أرضعتني. دمرت بيت أمي لأنني أحببت حبيبتي أكثر من أمي، ولكن حبيبتي لم تحب مني إلا ركوعي عند قدميها. عدتُ بعد الأعوام الطويلة... لأجد أخي ينام في فراشي مع حبيبتي"(2). وعلى هذا الأساس، فإن الرّجل الذي يتسم بالحبّ والصّدق والوفاء والإخلاص، يقمع ويتهمّش دوره في القصّة، وممن؟ من الزّوجة الحبيبة والمحبوبة والمعشوقة.


إنّ نسيج العنكبوت يحمل دلالة سلبيّة، ويشير إلى الزّيف والخداع والوهم، وبالرّغم من أن خيوط العنكبوت تبدو متماسكة إلا أنّها لا تصمد كثيرًا، لذلك وقع الرّجل ضحية مؤامرة وخيبة من محبوبته، وقد توسّم بها خيرًا وحبًّا، لهذا جاء اختيار العنوان موفقًا، بما يتناسب ومضمون القصّة.


وفي الختام، نبرز بعد هذه القراءة ملاحظة تستلفت الانتباه، وتسترعي النّظر، وهي أنه نادرًا ما يضع سارد المجموعة القصصيّة أسماء للشّخصيّات، ولكن الاستنتاج الأصدق من هذه الملاحظة العميقة، هو أنّ المجموعة كثيرًا ما تفتقد الحوار، تمامًا كما لو أنّ السّارد يمارس دورًا قامعًا، بحيث لا يترك للشخصيّة حرية ومجالًا للتّعبير عن نفسها، لهذا ظلت الشخصية ملتزمة ومحكومة بقول ما يريد السّارد قوله، الأمر الذي جعل دورها يتراجع ويتقلّص في القصّة، وعليه أملنا أن تجد الملاحظة النّقدية السّابقة رحابة صدر لدى الكاتب والقارئ.

 

المصادر والمراجع
(1) انظر، معجم الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، منشورات وزارة الثقافة، 2014، ص 330.

(2) الجدران المثقوبة: وليم هلسة، منشورات رابطة الكتاب الأردنيين، 1981.
التعليقات (0)