هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تبني رواية "كأنّها نائمة"، للروائي اللبنانيّ إلياس خوري، حكايتها على نظرة خاصة للفترة الزمنية التي تدور فيها الأحداث، وهي الفترة الزمنية السابقة على نكبة فلسطين عام 1948، حيث تبدأ الأحداث عام 1946 في لبنان.
وتقوم هذه الرؤية على ضرورة بناء الحكايات التي تعبّر عن حجم النكبة، ليس على فلسطين فحسب، وإنّما على المنطقة العربيّة برمّتها، وأثرها على المجتمع والإنسان فيها.
الحكاية في هذه الرواية محور مركزيّ في الصراع، فهي ما يرصد انفعالات الأفراد ومخاوفهم ونكبتهم في معيشتهم وأحوالهم نتيجة ضياع فلسطين، وهو ما يستدعي حجما هائلا من الرصد والتتبع لتكوين فكرة واضحة عما وقع فيه الإنسان الفلسطينيّ والعربيّ في تلك المرحلة على المستوى النفسي والاجتماعيّ. وهو أمر غير مكتمل في الأدب العربيّ على الرغم من حضور القضية الفلسطينية باعتبارها قضية مركزية في الثقافة العربيّة.
مثّل إلياس خوري في الرواية الشعور العام الذي هيمن على تصوّرات الناس في الفترة السابقة على النكبة، وهو شعور متداخل ضبابيّ لا يملك فيه الناس رؤية دقيقة لما كان يحدث.
وجاءت الحكاية على مستوى بنيتها وأحداثها تصويرا فريدا لتلك الحالة الضبابيّة، لتكون الرواية محاولة لاكتشاف المكان وأحواله، وتصوّرات أهله في ذلك الزمان.
وتعمل الرواية على ذلك بقدرة مميّزة للغاية، فهي تجعل البناء الفنيّ والحدث متوافقين إلى حدّ رهيب في خلق ذلك التأثير للحالة الضبابيّة، وما تتركه الرواية في المتلقي من الإحساس بالضياع وعدم القدرة على تحديد مستوى معرفة الشخصيّات وما كانت تشعر به تجاه الأحداث الهائلة التي كانت تحيط بها.
وتتخذ الرواية من الأساليب ما يبرز هذا الشكل من التصوّر حكائيّا بخفّة ورهافة كبيرة، فتجعل صورة التردد والخوف والحيرة في أفعال الشخصيّات وأقوالها سمّة مهيمنة، كما تظهر بنية الحكاية قائمة على التكرار وتداخل المشاهد واستحضار الحكايات التاريخيّة والأسطوريّة والدينيّة في متن الحكاية الرئيسة.
ولعلّ أهمّ ما تتميّز به الرواية لبناء هذا التصوّر هو أحلام ميليا الفتاة اللبنانية التي تتزوّج من منصور الفلسطينيّ، فتخرج مع زوجها والضباب يلفّهم وحياتها ومَن حولها تضطّرب بأحلامها التي تتداخل مع مشاهداتها لما يحدث أمامها من مآس تتقطع خلالها علاقات الناس ويعجزون عن التواصل حتى لا تتمكن أمّها من حضور ولادتها الرهيبة وانتهاء حياتها في حدث رمزيّ كبير في المشهد الأخير من الرواية.
وعبر أحلام ميليا اللامتناهية يمتدّ زمن الرواية الذي يقوم فعليّا على السنة الأولى (والأخيرة) من زواجها من منصور إلى تاريخ المنطقة برمتها لا سيّما تاريخ العائلات المسيحيّة، فتستحضر الرواية التراث الدينيّ المسيحيّ، ويكتمل في مدينة الناصرة في فلسطين التي ينتقل إليها الزوجان، حيث يظهر حملُ ميليا بمولودها الذي لن تراه في نهاية المطاف بسبب موتها أثناء الولادة في مخاض طويل ورهيب، ويصبح هذا المولود إشارة إلى الاستمرار حتى مع ظهور مرحلة النكبة بآلامها ومآسيها على المنطقة برمتها. فالطفل الوليد الذي يظهر في المشهد الأخير بداية حياة جديدة ستبدأ، وسيبحث بالضرورة عن حكايته التي تشكّل هُويته وتاريخه الممتد في حياة أمّه ميليا وعائلتها.
وتعبّر الأحلام أيضا عن صدمة ميليا الهائلة من حدث النكبة الذي أخذت آثاره المدمّرة تظهر في تفاصيل حياتها فيبدو كلّ شيء حولها غير طبيعيّ ومكانا للصراع، وترى بعض أفراد عائلتها يحملون السلاح في المقاومة ويفقد بعضهم حياته، فتفضّل العودة إلى الأحلام هربا من ذلك الخوف الذي يتكرر في جميع معالم حياتها.
اقرأ أيضا : "جنتلمان في موسكو": قدرة الرواية على تضمين رؤاها
وبينما تخاف على نفسها وزوجها منصور، يبقى خوفها الأكبر على ابنها الذي ما زال في بطنها، تخاف عليه من الموت وقصصه التي لا تنتهي، فتستحضر الرواية قصّة إبراهيم وابنه إسماعيل في مقاربة لمفهوم الفداء الذي يبقى الذبح صورة جوهريّة فيه، فتورد الرواية أشكالا مختلفة للقصّة النبويّة، لكنّها جميعا مخيفة لما فيها من انتهاء بالموت، ويبقى مخيفا أن يُقبل الأب على ذبح ولده، فتفضّل ميليا شخصية يوسف النجار على الرغم من أنّه هامشيّ وليس نبيا ولا قدّيسا، وذلك لأنّه هرب بابنه إلى مصر ورفض أن يضحّي به عندما شعر بالخطر.
تخالف الرواية مشهد الفداء في النهاية وتعكس الحكاية ليس على مستوى اللفظ فقط، وإنّما على مستوى الفعل، من خلال موت ميليا نفسها ونجاة ولدها، فكأنّها فضّلت أن تكون هي الفداء بدلا من ابنها.
وهذه لحظة كاشفة، على الرغم من ضخامتها وألمها في نهاية الرواية، تعكس مدارات الخوف من المواجهات والقتل والدمار الذي حلّ بالمجتمع وقطّع الصلات بينهم وحوّلهم جميعا إلى الوقوف في المواجهة الأكيدة مع الدمار.
مات أمين أخ منصور، وهو ماثل أمام الجميع في النعش، وميليا "أحست أن رائحة الموت تقترب منها، ولم ترفع يدها عن بطنها طوال الأسبوع.."
وبالموازاة مع عالم أحلام ميليا وخوفها، تأتي الناصرة "المدينة البيضاء أو زهرة الجليل المطلة على مرج ابن عامر"، وتقوم على تراث دينيّ عبر أحيائها الروم والموارنة واللاتين، مدينة الروح والأساطير، فتحاول ميليا اكتشاف المكان مع الشخصية الأسطورية طانيوس الذي يأخذها في رحلات كثيرة بين الكناس والأماكن الدينية فيها، وتظهر عشرات الحكايات من التراث الدينيّ والتاريخيّ تضاعف الحالة الضبابيّة. وتكتشف ميليا من جانب آخر أنّ زوجها المولع بالشعر وترانيمه وإيقاعاته يخفي في داخله سرّا، وهو أنّه جاء إليها ليحتمي بها بعدما كانت تظنّ أنّه جاء ليحميها، "وعدها بالحماية لكنه أراد في الحقيقة الذهاب إلى عوالمها كي يحتمي من الخطر..."
وفي العموم، تقتنص رواية "كأنّها نائمة" زاوية من الرؤية لا يلتفت إليها التاريخ، تمثّل وطأة النكبة الكبرى على الإنسان الفرد وعلاقاته الاجتماعية ومخاوفه أمام أبعاد الصراع الدينيّة والتاريخيّة والسياسيّة والعسكريّة. وتشكّل الرواية عبر حكاياتها المتعددة والمتوالدة على المستوى الواقعيّ والتاريخيّ والدينيّ والشعريّ حكاية الإنسان التي هي قلب الصراع وأساسه، وهي ذاكرته وهُويّته، إنها بحثٌ وبناءٌ لحكاية ميليا؛ الإنسان الذي واجه صدمة النكبة وراح ضحيّتها.