على هامش أزمة جائحة كورونا والاحتجاجات الواسعة والمستمرة في الولايات المتحدة الأمريكية، أجرت طهران وواشنطن، الأسبوع الماضي، صفقة تبادل جديدة
للسجناء، بموجبها تم الإفراج عن العسكري الأمريكي المتقاعد في السلاح البحري مايك وايت، المعتقل في
إيران منذ عام 2018، والطبيب الإيراني مجيد طاهري، المقيم في الولايات المتحدة منذ 33 عاما، والمعتقل فيها منذ مطلع العام 2019، بتهمة الالتفاف على العقوبات الأمريكية على إيران، فضلا عن إطلاق سراح العالم الإيراني مهندس المواد
سيروس أصغري، المعتقل فيها منذ عام 2016 بتهمة سرقة وثائق تجارية.
جاءت الصفقة بعد
مفاوضات طويلة خلال الشهور الأخيرة، ومؤشرات ظهرت خلال آذار/ مارس الماضي على أنها في طريقها نحو النجاح، بعدما منحت طهران خلال هذا الشهر إجازة "طبية" و"إنسانية" للمعتقل الأمريكي مايك وايت، ليقضيها داخل السفارة السويسرية، قبل الإفراج عنه الأسبوع الماضي في إطار صفقة تبادل.
كما أن الصفقة لم تنجز من خلال مفاوضات مباشرة، بل تمت بواسطة سويسرا، راعية المصالح الأمريكية في طهران، حسب إعلان الخارجية السويسرية، علاوة على وساطة قطرية، حسبما كشف الحاكم السابق لولاية نيو ميكسيكو الأمريكية "بيل ريتشاردسون".
أثارت الصفقة المبرمة تساؤلات عن دلالاتها السياسية، ومعها راجت توقعات وتكهنات بأن الخطوة لها ما بعدها، لكونها ستُقرأ في سياق معطيات إقليمية عدة، منها انتخاب رئيس الوزراء العراقي الجديد مصطفى الكاظمي وموافقة الطرفين على تسميته للمنصب، وتحركات أمريكية "لافتة" في ساحات إقليمية، منها إخلاء قواعد في العراق وسحب أنظمة "باتريوت" ومقاتلات من السعودية أخيرا، بالإضافة
لوصول الناقلات الإيرانية الخمس إلى فنزويلا من دون عرقلة أمريكية. كما أن البعض سيسعى لتعزيز هذه التكهنات بالاستشهاد بتغريدات ترامب حول الصفقة، وتقديمه الشكر مرتين لإيران، وحديثه عن إمكانية "صفقة كبيرة" معها، ودعوتها إلى التفاوض لإنجازها وعدم انتظار نتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة.
إلا أن قراءة كل تلك المعطيات مجتمعة في سياق واحد للخروج بنتيجة واحدة: أن هناك شيئا ما يحدث وراء كواليس السياسة بين ترامب وإيران، وأن هناك توافقا ما بينهما، لا يبدو منطقيا. إذ أنه بالتزامن مع ظهور هذه المعطيات ثمة ملامح تصعيد جديد ظهرت بين الطرفين خلال الفترة الأخيرة، سواء في المياه الخليجية أو ما يرتبط بموضوع رفع حظر الأسلحة على إيران بموجب القرار 2231 المكمل للاتفاق النووي خلال تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، وحراك كثيف أطلقته واشنطن لتمديد هذا الحظر، أو فرض المزيد من العقوبات على طهران خلال الأسابيع الماضية، وما شابه من مؤشرات تصعيد أخرى.
بالتالي، فالأجدر قراءة المعطيات آنفة الذكر في سياقات تخص كل معطى وحدث بشكل منفرد. فعلى سبيل المثال، في ما يتعلق بانتخاب الكاظمي لا أعتقد أنه جاء نتيجة توافق مسبق بين طهران وواشنطن، بل إن ظروف المرحلة فرضته على الطرفين، وسط أمل أمريكي أن يحد هو من
الدور الإيراني في العراق، بعد اغتيال قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، وقناعة طهران بأن الأوراق التي تمتلكها في بلاد الرافدين تحول دون ذلك. فرغم أن الكاظمي لم يكن خيارها المفضل، لكنها وافقت على انتخابه لاعتقادها أن استمرار الفراغ في العراق من شأنه أن يشكل خطرا كبيرا على الأمن القومي الإيراني، وفي الوقت نفسه دورها هناك من خلال إضعاف الحلفاء.
وفي ما يرتبط بالصفقة الأخيرة أيضا، فمن الأفضل قراءتها في سياق تبادل سجناء فحسب، وليس في سياق سياسي، للحؤول دون الخروج بتوقعات وتحليلات بعيدة عن الواقع، رغم أن الخطوة بحد ذاتها تبعث رسائل خاطئة في هذا الاتجاه. إذ أن الصفقة هي الثانية من نوعها في عهد الرئيس الامريكي الحالي، بعد صفقة كانون الأول/ ديسمبر 2019، حيث أفرج كل طرف عن مواطن لآخر، لكن الصفقة الأولى لم تشكل أي اختراق في الأزمة المركبة بينهما، رغم تصريحات ترامب "الودية" حينها، وأمله في أن تؤدي إلى اتفاق شامل، وهي تصريحات كررها بعد الصفقة الأخيرة خلال الأيام الماضية.
إلى ذلك، فتضخيم الصفقة من قبل ترامب عبر عدة تغريدات مثيرة، قد يكون له علاقة بمساعيه لحرف الأنظار عما يجري في الداخل الأمريكي نحو قضايا خارجية، عبر التسويق لنجاجات صغيرة مثل عملية تبادل السجناء، أو الترويج لـ"نجاحات افتراضية" من خلال حديثه عن إمكانية التوصل إلى اتفاق شامل مع إيران، بعيد المنال كل البعد، أقله خلال الشهور التي ستسبق الاستحقاق الانتخابي الأمريكي. إذ أن طبيعة الاتفاق الذي ينشده ليست بالضرورة مثل اتفاق صفقة تبادل السجناء، لتنبني على قاعدة "ربح ربح".
وما يريده ترامب في الاتفاق الشامل، هو أن يكون على أساس قاعدة "ربح خسارة"، أي أن تقدم طهران تنازلات مؤلمة في عدة ملفات أساسية، مقابل رفع العقوبات أو تخفيفها، وهي مطالب تعتبرها إيران مساسا بالخطوط الحمراء وترفضها، كما لو افترضنا أن التوقيت الراهن والأزمة الداخلية في أمريكا، يشكلان دافعا قويا لدى ترامب للتراجع خطوات إلى الوراء في ملفات خارجية، للوصول إلى حلول هي بحاجة إليها، في مقدمتها الأزمة مع طهران، إلا أن ظروفه الانتخابية أيضا تمنعه من النزول عن الشجرة والتراجع عن المطالب الأساسية، لإقناع طهران باتفاق شامل يوظفه الرئيس الأمريكي في البازار الانتخابي.
وفي المقابل أيضا، لا يبدو في وارد حسابات إيران، الرهان على ما تعتبره حصانا خاسرا في هذا التوقيت، ومنحه حبل النجاة من وضعه المتأزم. إذ أن وضعا كهذا يشجع طهران على الصمود في مواجهة الضغوط الأمريكية القصوى، على أمل أن تطيح الأزمة الحالية بترامب وتتهيأ ظروف أفضل بين البلدين لإجراء عملية تفاوض، مرة أخرى، على قاعدة "ربح ربح"، للوصول إلى صفقة أخرى على غرار صفقة الاتفاق النووي شبه المنهار.