هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا زال "كورونا يطاردنا بأسئلته. وإذا كنت ممن يمتهنون الكتابة، فإن الأسئلة ستلاحقك على نحو يومي؛ عبر أخبار وفيديوهات وتسجيلات تطرح نظريات ومعلومات يومية جديدة أو قديمة؛ تتم مطالبتك بالإجابة عليها.
الذي لا شك فيه أن نظرية المؤامرة هي أكثر ما طاردنا منذ ظهور "الجائحة" وحتى الآن
حيث ظهرت تفسيرات شتى؛ آخرها أن ما جرى هو مؤامرة على الإسلام والمسلمين، بدليل إغلاق المساجد!!
لكل طرف مؤامرته بطبيعة الحال. منهم من يتهم الماسونية والصهيونية، ومنهم من يتهم أمريكا والإمبريالية، ومنهم من يتهم حكومة أو حكومات العالم الخفية، ويستعيد أسماء عفى عليها الزمن مثل روتشيلد وروكفلر، وسوى ذلك من أشياء وردت في كتب قديمة، وهناك قلة اتهموا الصين بقصة الحرب البيولوجية، أو تصنيع الفيروس.
أما المؤامرة الأكثر رواجا، فهي تلك التي نُسبت إلى بيل جيتس الذي يريد من خلالها وضع شريحة في أجسام البشر، بل الحيوانات أيضا، من أجل التجسس عليهم، والسيطرة على حياتهم. ولم تشفع للرجل جهوده الإنسانية في مواجهة الأوبئة في العالم، ولا المليارات التي دفعها.
الأكثر غرابة في كل قصص المؤامرات هي أنها لم تكن حكرا على العرب والمسلمين، بل تجاوزتهم إلى قطاعات عريضة في العالم، بل حتى في أمريكا التي ذهب فيها اليمين نحو نظرية التآمر على ترامب من قبل الديمقراطيين لإفشاله في الانتخابات، حتى تورّط فيها نجل ترامب نفسه الذي تنبأ بنهاية المؤامرة في نوفمير (موعد الانتخابات الرئاسية).
لعل السبب الأهم وراء اندلاع نظرية المؤامرة على هذا النحو الرهيب، بجانب رد الفعل الطبيعي في مواجهة المحطات الصعبة التي يمرّ بها العالم، حتى تلك الأقل أهمية من كورونا.. لعل السبب الأهم هو أن الجائحة أصابت البشرية جمعاء؛ بدولها الفقيرة والغنية، وبفقراء الدول وأغنيائها أيضا، ما جعل من الطبيعي أن يشارك في النقاش حولها كل البشر، ويقدموا تفسيرات لها؛ كلٌ بحسب عقله أو هواه.
الحق أن هناك حقيقة بالغة الأهمية يجب أن تُطرح في مواجهة نظرية المؤامرة برمتها، أعني تلك التي تتحدث عن الكون بوصفه لعبة بأيدي فئة من الناس تعمل في الخفاء، أو حتى دولة بعينها.
والحقيقة التي نتحدث عنها هي حقيقة قرآنية وسنّة ربانية، لكنها من زاوية غير المسلمين حقيقة تاريخية يمكن رصدها من خلال التاريخ المكتوب للبشرية.
الحقيقة التي نتحدث عنها هي أن خالق الكون قد جعل "المدافعة" أحد أهم سننه
ويمكن تسميتها "الصراع"، أو أي اسم آخر، ولخّصتها الآية القرآنية: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين". وهذه السنّة كما تشير الآية تتحدث عن الناس، وليس عن المؤمنين. أما ترجمتها التاريخية، فتتمثل في حقيقة أنه لم يحدث في أي يوم من الأيام أن كانت هناك قوة واحدة تتحكم في الكون من دون أن تجد من يعارضها أو يقاومها أو ينافسها أو يحاربها؛ بحسب اللحظة التاريخية.
في التاريخ الحديث حدث خلال مرحلة عابرة أن سادت "الأحادية القطبية"، بين سقوط الاتحاد السوفياتي وحرب العراق (حوالي عقد ونصف العقد)، لكن حتى في تلك الأثناء، لم تكن أمريكا تسيطر على كل الكون، إذ كان هناك من يعارضها ويرفض سياساتها، بل يتحداها، كما في أمريكا اللاتينية، وكما سيحدث لاحقا في العراق وأفغانستان، ومن ثم يكبّدها خسائر مرعبة.
الخلاصة أن للكون رب واحد، وهو وحده من يتحكّم به، وهو سبحانه من وضع فيه سنة "المدافعة" أو الصراع.
وإذا كانت قصة المؤامرة فاسدة علميا في القديم بسبب هذا البعد، فإنها في زمن الفضاءات المفتوحة، والصراع المحتدم كما هو الحال راهنا في ظل "تعددية قطبية"، تبدو أكثر وضوحا، ما يعني نفسه النظرية برمتها فيما خصّ كورونا، حتى لو بقي هناك من يؤمن بها في سياقات أخرى.
الجانب الآخر الذي ينسف نظرية المؤامرة في قصة كورونا تحديدا هو ذلك البعد المتعلق بالضرر الذي أصاب العالم أجمع، وليس دولة دون أخرى، أو محورا دون آخر، وبالتالي، فمن هو الذي سيتآمر، وعلى من سيتآمر؟ سيقول أحدهم الصهيونية (هي ذاتها الماسونية عند البعض)، والجواب أن هذه الأخيرة لم تستفد شيئا، فالتعددية القطبية القادمة ليست في صالحها، وضعف أمريكا ليس في صالحها أيضا، ودولتها (الكيان الصهيوني) تضررت مثل الآخرين، وهي تعاني من مخاوف كثيرة، وإن حلمت باستثمار ما بعد الحريق الراهن في المنطقة من أجل تصفية القضية الفلسطينية.
ولكن ماذا عن الأسئلة الأخرى التي تطاردك فيما خصّ كورونا وأدويته وإجراءات مواجهته، وما ترتب عليه من تداعيات، وما سيتبعه من أحداث كذلك.
هذه كلها قضايا قابلة للخلاف، إذا تتوفر تفسيرات شتى لكيفية ظهور الفيروس، وانتشاره، وطبيعية تأثيره، وكيفية مواجهته، ومنطقية الإجراءات التي ترتبت عليه، وما يتبع ذلك من تداعيات اقتصادية وتكنولوجية ومعيشية، مثل طرائق العيش القادمة في المستقبل.
هذا مع العلم أن كثيرا مما يٌطرح بشأن القادم بعد كورونا لم يكن جديدا، مثل تداعيات انتشار الذكاء الاصطناعي، والعمل من البيوت، والشرائح الطبية التي توضع في أجساد البشر، وما شابه ذلك من أسئلة المستقبل الكثيرة. وقد سبق أن قلنا مرارا قبل كورونا إن من يُقدَّر له أن يعيش العقود الثلاثة القادمة سيرى عالم مختلفا من سائر النواحي المتعلقة بحياة الإنسان.
الخلاصة هي أن الجائحة لم تكن مؤامرة من أحد، بصرف النظر عما سيترتب عليها، وكيفية استثمارها من هذا الطرف أو ذاك، أو التداعيات على الحياة الإنسانية.
هي ليست مؤامرة من طرف على طرف، وكان وسيكون بوسع الجميع أن يتعاملوا معها؛ كل بطريقته، بين فشل ونجاح، وأرباح وخسائر.
كورونا أثبت ضعف الإنسان وهشاشته أمام أي جائحة، وميله إلى تفسيرات مريحة، وحاجته تبعا لذلك إلى قدر من الإيمان واليقين الذي يجعله قادرا على التعامل مع حياة أكثرها "كبد"، و"كدح"، وفيها القليل من السعادة والطمأنينة وراحة البال، وكلها يصعب توفيرها بغير مسار الإيمان بالله واليوم الآخر، والقناعة بأن الحياة رحلة عابرة نحو أخرى أفضل وأجمل؛ عند مليك مقتدر، لمن تعاطى معها بروحية الإيمان والمحبة والعطاء.