هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تفتح الرواية الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الأخيرة، والصادرة في الجزائر عن دار ميم للنشر، صفحة من تاريخ الجزائر والعالم الإسلامي، شرق المتوسط وجنوبه، في حقبة منه شديدة العتمة، هي حقبة أفول النفوذ العثماني في شمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، وتزامنها مع الهجمة الفرنسية الأوروبية على الجزائر، التي انتهت إلى إخضاع البلد العربي للسيطرة العسكرية الفرنسية سنة 1830، معلنة انطلاق الحقبة الاستعمارية الأوروبية للمشرق والمغرب العربيين.
من خيوط التاريخ تنسج رواية (الديوان الإسبرطي) قماشتها، على منوال الرواية التاريخية، التي ترى في نفسها فناً موازياً للتاريخ ومواكباً له.
وإذا كانت الرواية التاريخية عموماً، تهدف إلى أن تكون جسراً يربط الماضي بالحاضر، فإن اختيارها لعناصر البناء من بين عناصر كثيرة، وكيفية البناء من بين كيفيات لا محدودة، تلعب دوراً حاسماً في التشكيل النهائي على نحو مفارق لكل رواية تاريخية سابقة.
أعدّت الرواية العدة لفتح جرح التاريخ الجزائري، وتسلحت بالأدوات المعرفية والفنية اللازمة لهكذا عملية، وإذا كانت الرواية الجزائرية أكثرت من تناول حقبة التحرر من الاستعمار الفرنسي (1954-1962)، بوصفها حقبة استرداد الهوية الوطنية، فإن (الديوان الإسبرطي) اختارت التصدي للحقبة المظلمة من تاريخ البلاد، ومساءلة أسباب الانهزام أمام مشروع استعماري أجنبي شرس، سعى منذ اللحظة الأولى إلى تجريد البلاد من هويتها الوطنية، وعزلها عن الامتداد الثقافي العربي والإسلامي فيها.
انبنت الرواية وفق مخطط هندسي حسن الإعداد، فتكونت من خمسة أقسام متساوية الحجم متماسكة الأركان، وانتظمتها لغة سردية محكمة العبارة، عالية المستوى، من غير هبوط إلا اليسير منه في زفراتها الأخيرة. وانضبطت أقوال الشخصيات فيها على قدر المقام، من غير استطراد أو افتعال.
ولعل أكمل ما في الرواية هو اختيار الشخصيات فيها، وبناؤها وفق بصيرة يتواشج فيها الدور التاريخي لكل شخصية مع التكوين النفسي لها. وكأن الرواية بعثت الأموات من رقدتهم في بطون الكتب التاريخية، ورممت ملامحهم الإنسانية في معمل الإبداع الروائي، واستعادت حرارة أنفاسهم، وأحيت حساسية مشاعرهم، دفئها وبردها، عنفها ورقتها، اضطرابها وإقدامها.
يمتد زمن الرواية على مدار ثلاث السنوات الحاسمة، بدءاً من وصول الإسطول الفرنسي سواحل الجزائر، وانتهاء باستتباب الأمر للمحتل داخل البلاد.
وتحكي الرواية قصة الجرح الجزائري النازف خلال هذه السنوات الثلاث، وتمتاز تقنية الحكي بتخفّي السارد خلف شخصيات خمس، انتقاها بعين المؤرخ وبراعة الروائي، لتروي الأحداث بلسان حالها، ومن زواياها المختلفة، وبخلفياتها المتباينة، وأدوارها الفاعلة في مجريات الوقائع.
وتتصارع الشخصيات الخمس فيمها بينها، وتتآلف وتتخالف، وتتشابك في صراعها أولويات المصالح الخاصة بالعامة، ضافرة خيوط الحدث التاريخي العام بخيوط المطامح والأحلام والآمال الفردية.
الشخصيات الخمس هي شخصيات تاريخية حقيقية، لعبت أدوراً مهمة في مجريات الحملة الفرنسية، وأخفت الرواية أسماءهم الحقيقية، ومنحتهم أسماء أخرى.
اثنتان من هذه الشخصيات فرنسيتان، الصحفي الباحث عن الحقيقة (ديبون)، والضابط البونابرتي الحاقد على الجزائريين والأتراك (كافيار). وثلاث جزائرية، الوجيه المسالم (ابن ميار)، والريفي الثائر (حمّة السلاوي)، والمومس (دوجة). وتروي كل واحدة منها شهادتها على وقائع الاحتلال من زاويتها، وتتقاطع الشهادات وتتعاقب بتوزيع مدروس على امتداد أقسام الرواية، مكونة أجزاء الصورة الشاملة التي هدفت الرواية إلى رسمها بتفاصيلها العامة والدقيقة، مبرزة عوامل الهزيمة وأسبابها.
الشخصيات الخمس شاهدة على الأحداث، ومتفاعلة معها، بالدعم أو القبول أو الرفض. واختيار الرواية لهذه الشخصيات لم يكن عفو الخاطر، فلكل منها موقف من الأحداث، ودور فيها. وبرغم أنها ليست صاحبة القرار، إلا أنها تصارع بما تملكه من وسائل للتأثير في صنّاعه.
يحاول الصحفي المرافق للحملة (ديبون) استخدام تأثير الصحافة للتخفيف من قسوة القمع الفرنسي للجزائريين، وهو الاشتراكي المثالي، المؤمن بمبادئ الثورة الفرنسية، إلا أن دعوته إلى معاملة إنسانية وعادلة تجاه الجزائريين، تلقى تجاهلاً وسخرية من السياسيين والعسكريين الفرنسيين المسؤوليين عن سياسة الاحتلال القمعية، فيقع فريسة للإحباط ومشاعر الندم حين يكتشف نفاق سياسة بلاده وازدواجيتها.
وعلى النقيض من (ديبون) يلعب الضابط (كافيار) دور محامي الشيطان، فيمهد للحملة، ويحرض قادتها على قتل الجزائريين، وتدمير مساجدهم، ومصادرة أملاكهم، والانتقام من الأتراك وإذلالهم، ورفض التفاوض معهم. وتجتمع في شخصيته الدوافع الشخصية العنصرية مع الدوافع الوطنية المتطرفة لواحد من الجنود المخلصين لمبادئ نابليون بونابرت، لتصنع ملامح شخصية حكيمة ذكية، ولئيمة حاقدة في الآن نفسه.
وتتقاطع شخصية (كافيار) في معظم سماتها النفسية والفكرية، وتفاصيل دورها في الأحداث، مع شخصية حقيقية هي الجاسوس الفرنسي (فنسنت بوتان) 1772- 1815، الذي وضع خطة الحملة الفرنسية على الجزائر بأمر من نابليون بونابرت. وتتطابق الشخصيتان باستثناء أن (بوتان) وقائده نابليون لم يعشيا ليريا خطتهما الاستعمارية في موضع التنفيذ.
وتصنع الرواية من الشخصيتين وجهين لعملة واحدة، هي عملة المستعمر بوجهها الجميل الذي يمثله (ديبون)، ووجهها القبيح الذي يمثله (كافيار). وما الصداقة التي تنشأ بينهما على ظهر السفينة الحربية، والشعور الأبوي الذي يكنّه (كافيار) تجاه (ديبون) إلا دليل على الحقيقة القبيحة للمستعمر على اختلاف أساليبه.
في الجانب الجزائري، تصنع الرواية وجهين آخرين للمقاومة الجزائرية للمستعمر، الوجه الأول يمثله (ابن ميار) المثقف الارستقراطي المسالم، الذي يسعى إلى مهادنة المستعمر الفرنسي كما هادن السلطة العثمانية. والوجه الثاني يمثله الشاب الريفي الثائر (حمّة السلاوي)، الذي يرفض الحكم الفرنسي لبلاده، ويرى بأنه لا يختلف في سوئه عن الحكم العثماني بباشاواته الجشعين، وانكشاريته الجبانة المرتزقة.
يرفض (ابن ميار) لجوء الجزائريين للمقاومة العنيفة في الأرياف والبوادي والجبال، ويختار الأساليب السلمية المتمثلة في توثيق الانتهاكات الفرنسية لتعهداتها تجاه الجزائريين والأتراك، ويكتب الرسائل، ويرسل العرائض إلى ملك فرنسا ورئيس حكومتها.
ينخرط (السلاوي) في صفوف المقاومة الشعبية فور رؤيته لأعلام فرنسا ترفرف فوق الأسطول المحاصر لمدينته المحروسة. ويصاب في القتال، لكنه يواصل المقاومة فردياُ ومع خلايا المقاومة، وينجح في قتل قَوّاد المدينة (المزاور) الذي يمتهن تجنيد الفتيات الفقيرات في مبغى شهير، كان يخدم الجنود الأتراك وصار يخدم الجنود الفرنسيين.
تمثل شخصيات (ابن ميار) و (السلاوي) و (دوجة) الوجه الجزائري في الرواية، من جوانبه المختلفة. وبرغم تباين أساليب الرجلين في مقاومة المستعمر الفرنسي، إلا أنهما يتفقان في الموقف الأساسي الرافض لوجوده في بلدهما. وكلاهما يتعاونان على انقاذ (دوجة) من العمل في المبغى عند (المزاور)، ويحميانها بوصفها الوجه النقي للجزائر الذي لوّثه واستغله الأتراك.
الاختلاف الأساسي بين الرجلين لا يكمن في الموقف من المستعمر الفرنسي، ولكن في الموقف من السلطان العثماني، (فابن ميار) يفرق بين الحكمين، ويرى في الحكم العثماني خلافة شرعية لا احتلالاً، وفي السلطان حامياً لا مستعمراً، أما ( السلاوي) فيرى في الحكمين احتلالاً يجب مقاومته، وعائقاً أمام حكم وطني للجزائر لا بدّ من إزالته.
اختارت الرواية تسمية (الديوان الإسبرطي) عنواناً لها، وهو اسم أطلقه على الجزائر الضابط (كافيار) في مدوناته، لأنه رأى فيها "ثكنة عسكرية"، لا دولة حضارية، ثكنة يحكمها القراصنة الأتراك المهيمنين على البحر المتوسط، كهيمنة دولة إسبرطة اليونانية القديمة، وأن واجب الأوروبيين المتحضرين أن يحاربوا همجية الأتراك كما حارب الأثينييون همجية الإسبرطيين.
تتجه الرواية في مقولتها النهائية إلى إدانة العهدين، التركي الآفل، والفرنسي البازغ، من دون تفريق بينهما من النواحي الدينية والثقافية والتاريخية، وتجعل من الجزائر ضحية لقوتين استعماريتين تتعاقبان على حكم البلد الطامح إلى حكم وطني.
التزمت الرواية بالضوابط التاريخية في روايتها للأحداث، وقيّدت أجنحة التخييل التي يبيحها الاشتغال الروائي، ويسمح بصناعة قصة متخيلة داخل المادة التاريخية، وألزمت نفسها بحدود الأدوار الفعلية لشخصياتها الحقيقية، كشخصية (ابن ميار) التي تحكي قصة (حمدان خوجة) المولود في الجزائر سنة 1773، ونفاه الجناح الاستعماري المتشدد في الحكومة الفرنسية إلى القسطنطينية، بعد أن ضاقوا ذرعاً بمكاتباته إلى الملك، التي توثق انتهاكاتهم لحقوق الجزائريين.
وبرغم سردها المحكم، وقدرتها على ربط الأحداث بمصائر الشخصيات الخمس في تقاطعات مقنعة، إلا أن الرواية انبنت على الحدث التاريخي، وأخلصت لوقائعه، فغلب عليها طابع الدراما التاريخية.