هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يصعب على المراقب لتطورات
الأوضاع الدولية، خاصة منذ تفشى وباء كورونا عالميا، التشكيك في حقيقة أن مكانة
الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى، قد تأثرت سلبا وبشدة. وفي تقدير محلِلين
كثر، ومنهم أمريكيون.. ففي الوقت الذي كشفت فيه الأزمة عن أوجه خلل داخلية فادحة
وضعف واضح في إدارة الأزمة من قبل الولايات المتحدة وتراجع بنيتها التحتية للصحة
العامة، وعجز النظام عن تقديم حلول والإصرار على إجهاض دور الأمم المتحدة
ووكالاتها المتخصصة، وفَر الوباء الفرصة للصين للظهور كقوة عالمية قادرة ليس فقط
على اللَحاق بركب التفوق التكنولوجي الغربي، بل وإمكانية التقدم عليه والاستخدام
الماهر للتكنولوجيا لتأكيد مشروعية نموذج الحوكمة الداخلية في الصين وسلامة مبادئ
الحوكمة العالمية التي تدافع عنها في سياستها الخارجية.
والواقع أنه يجب النظر إلى التوتر المتصاعد
بين واشنطن وبكين ارتباطا بأزمة (كوفيدــ19) على أنه جزء لا يتجزأ من التنافس
الجيوسياسي الممتد بين الجانبين، منذ إعلان إدارة ترامب ــ بموجب استراتيجيتي
الأمن والدفاع القوميين ــ الصين منافسا جيوسياسيا وشن حرب تجارية عليها. وتخفي
هذه الحرب بدورها المصدر الرئيسي للتصعيد الحاصل بين البلدين، والمتمثل في التفوق التكنولوجي
الصيني في مجال المعلومات والاتصالات. ويدرك الأمريكيون ما كشفت عنه إدارة الأزمة
حول العالم من أن هذا التفوق التكنولوجي كان عاملا رئيسيا في نجاح بكين في السيطرة
على الوباء واحتوائه. وفي خضم هذه الحرب العالمية على الفيروس ضاعفت إدارة ترامب
من توظيف أدوات سياسية مثل الرقابة على الصادرات وعلى الاستثمارات للصين في محاولة
للحفاظ على القدرة التنافسية الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية ومكانتها
الجيوسياسية وأمنها القومي.
والمشكلة هنا من منظور أولئك الذين يحذرون من
خطورة قدرة الصين المتزايدة على منافسة الولايات المتحدة في هذا المجال أن الشركات
الأمريكية الرائدة في مجالات التكنولوجيا تنعم بنشاط واسع في الصين ولديها شراكات
لا يستهان بها مع شركات صينية بما فيها مشاريع كبرى، وبالتالي قد يكون من الصعب
عليها مساعدة الحكومة الأمريكية في مواجهة الصعود التكنولوجي والجيوسياسي الصيني،
على الأقل إلى الحد الذي تأمله الحكومة. وفي هذا السياق، عادة ما يتم اتهام هذه
الشركات بالقيام بدور خطير لدعم الدولة الصينية وتوسيع ما يسمونه بـ «الاستبداد الرقمي»،
خاصة وأن بعض الشركات الصينية الشريكة تدار من قبل الدولة أو مملوكة جزئيا لها،
وبالتالي ترتبط بالدولة وبالحزب الشيوعي الصيني. بل ومن المرجح أن تمرر تلك
الشركات التطورات التشغيلية والتكنولوجية إلى الحكومة والجيش الصيني، بما يعزز من
نفوذ الصين العالمي في النهاية، وهو ما يشكل تحديا كبيرا للأمن القومي الأمريكي،
على النحو الذي يبدو وبوضوح في تطبيقات الذكاء الاصطناعي لأن الابتكارات
التكنولوجية في هذا المجال يمكن أن تكون لها آثارا عسكرية.
وهكذا تحول هذا التشابك
والاعتماد الاقتصادي والتجاري المتبادل بين البلدين إلى نوع من النفوذ السياسي
بوسائل متعددة، وأدى تزايد اعتماد الشركات الأمريكية المحتكرة لقطاع التكنولوجيا
المتقدمة على السوق الصينية إلى جعلها ــ ومعها الدولة الأمريكية نفسها ــ أكثر
عرضة لضغط بكين، خاصة وأن الحكومة الأمريكية تعتمد بشكل متزايد على الخدمات التي
توفرها هذه الشركات، بما في ذلك أجهزة الأمن والمخابرات، وبالتالي باتت تلك
الشركات جزءا من القاعدة الصناعية الدفاعية في الولايات المتحدة.
والمحبط لترامب وإدارته ارتباطا بالجائحة
إجادة الصين، وبامتياز، إدارة الأزمة متبنية في ذلك خطابا يقوم على التعبئة
الوطنية وأن الأمر يتعلق «بحرب شعبية» أو معركة مشتركة تهم كل الناس، والتشديد على
مسئولية كل فرد عن «المشاركة في القتال». وبما أن العقد الاجتماعي في الصين يعتمد
على قدرة الدولة على تحقيق الرفاهية الاقتصادية والمادية للمواطنين، فقد استجاب
هؤلاء للتدابير الصارمة التي أقرها النظام الحاكم للتعامل مع الجائحة، بجانب الإرث
الثقافي الفريد للأمة الصينية وتماسك منظومة قيمها وأهدافها. وقد ساعدت التكنولوجيا
المتقدمة، لا سيما تكنولوجيا المراقبة، في وضع خطة شاملة للطوارئ، بغرض منع
المصابين بالفعل من نشر الفيروس. وبمعنى آخر أدى الوباء إلى تقوية «دولة
المراقبة»، كما يحلو للكتاب الغربيين وصف الصين، من خلال شرعنة كفاءة جهاز
المراقبة التابع لها، كما ساعدت البيروقراطية المركزية في البلاد على تنفيذ
إجراءات تأمين جذرية، وزيادة الموارد اللازمة لمكافحة الوباء، وحشد القوى العاملة
لدعم البنية التحتية الصحية أو تعزيزها.
وبمجرد تراجع عدد الحالات، أعلنت الحكومة
الصينية عن تدابير أكثر قوة وتشددا للتعامل مع الأزمة، وجاءت زيارة الرئيس الصيني
لـ«ووهان» في 10 مارس لتكريس منطق «الحرب الشعبية» من خلال إظهار الزعامة في جولته
في المدينة معربا عن تقديره للمواطنين على التزامهم البقاء في منازلهم والمشاركة
في المعركة.
والحال على ما تقدم بالنسبة للصين، قلَل
الرئيس ترامب في البداية من الخطر إلى أدنى حد ممكن متبنيا خطابا يعكس القلق من
التداعيات الاقتصادية المحتملة الناجمة عن انتشار الجائحة والتدابير المتخذة
لمكافحتها، أكثر من الاهتمام بالصحة العامة. وكان من الصعب على ترامب إقناع السكان
بالتخلي عن حرياتهم الفردية، لافتقادهم الثقة في قدرات إدارته وتخبطها الفعلي في
إدارة الأزمة من البداية، بجانب الثقافة الأمريكية التي تميل إلى تفكيك السلطة
لصالح تكريس الفردية. وفي غمرة اشتداد الأزمة لم ينس ترامب حربه التجارية
المتواصلة ضد الصين، عندما استدعى قانون الإنتاج الدفاعي، وهو قانون من مخلفات
الحرب الباردة يمنح الرئيس سلطة الرقابة على، والتحكم في، الموارد الضرورية للدفاع
الوطني، وهو ما يشمل ــ في ظروف كالجائحة ــ حظر توريد معدات طبية، بما في ذلك
أدوات الاختبار والأقنعة وأجهزة التنفس الصناعي. وتزامنت أهمية هذه المعدات مع
الوعي المتزايد بمدى حالة الاعتماد المتبادل لسلاسل الإمداد العالمية التي تشكل
مواطن الضعف التي تعاني منها كل دولة على حدة.
ومن المؤكد أن التصعيد بين البلدين يحرم
المجتمع الدولي من فرصة كبرى للتعاون والتضامن الدوليين للتعامل مع الجائحة تحت
قيادة منظمة الصحة العالمية، وبالتالي ليس من مصلحة المجتمع الدولي استمرار
الاتهامات المتبادلة بين الاقتصادين الأقوى في العالم وسط فراغ في الحكم العالمي.
فمن الواضح أن واشنطن غير راغبة الآن في الاضطلاع بالدور القيادي الذي لعبته في
أزمات مماثلة كالإيدز والإيبولا، مفضلة تأجيج الصراع التجاري من خلال إقامة الحواجز
وفرض القيود وتقويض المؤسسات المتعددة الأطراف الرئيسية والمعنية بالتجارة
العالمية وبالصحة، بما فيها وقف تمويل منظمة الصحة العالمية. وبالنسبة للصين، ورغم
قيامها بتقديم الدعم والمساندة الطبية والدوائية والخبرة للعديد من الدول
والمنظمات الدولية، إلا أنها لا تبدو مستعدة للقيام بهذا الدور أيضا. ولم يدعّ
المسئولون الصينيون في أي وقت لبلادهم هذا الدور وما يزالون متمسكين بشدة بانتماء
دولتهم للعالم النامي رغم كون الصين القوة الاقتصادية الثانية عالميا والأولى
تجاريا.
أخيرا ورغم التوترات الجارية والخلافات
المحتدمة بين البلدين التي تشمل أيضا الأوضاع في بحر الصين الجنوبي وشبه الجزيرة
الكورية وتايوان، وانزعاج الصين من التدخل الأمريكي في النزاعات الأمنية في الجوار
المباشر للصين، إلا أن البلدين قد وصلا إلى حال من الاعتماد الاقتصادي والتجاري
المتبادل يتعذر معه نشوب نزاع مسلح بينهما، وإن ظلت المناكفات والحرب الإعلامية
بينهما على ما هي عليه طالما بقي ترامب في الحكم، وهي توترات مرشحة للتصعيد في عام
الانتخابات بحثا عن كبش فداء للتغطية على إخفاقات الرئيس على جبهات عدة.
(الشروق المصرية)