هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يتعرض المواطن العربي اليوم لهجمة دعائية كبيرة، ممولة ومدعومة من قبل بعض الحكام العرب، بغية تضليل البسطاء وغير المطلعين من عامة الشعب لقلب معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، وجعل الضحية هو المشكلة التي يجب التخلص منها، والمجرم المعتدي هو الضحية التي يجب التعايش والتطبيع معها.
حملات التضليل الصهيونية هذه ليست جديدة، فمنذ إنشائها عام 1897 في أوروبا، اعتمدت المنظمة الصهيونية على سياسة التضليل والخداع، لتحقيق مشروعها الذي حددته بشكل صريح، بأنه مشروع استعماري استيطاني يهودي في فلسطين والعالم العربي، يهدف، كما كتب أب الصهيونية ثيودور هيرتزل، إلى طرد الشعب الفلسطيني من وطنه، وإقامة إسرائيل الكبرى على ما أطلقوا عليه «إيريتز إسرائيل» أي أرض إسرائيل، التي حدد هيرتزل حدودها «من النيل إلى الفرات».
فكانت أولى خِدَعِها موجهة لليهود في أوروبا، لإقناعهم بدعم مشروعها وتقديم الأموال له، فحولت اليهودية من دين إلى قومية، وجعلت من اليهود «شعبا»، ورفعت شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وأن فلسطين خالية من البشر بانتظار «عودة» اليهود، مدعية زورا أن يهود أوروبا هم أصلا من فلسطين، وأن لهم حقوقا تاريخية فيها، وأن اللاسامية ضد اليهود هي متأصلة في الآخرين، والخلاص الوحيد هو في «عودتهم» وإقامة دولة يهودية في فلسطين.
ولنيل دعم وتعاطف الهيئات الكنائسية والمسيحيين، صَهيَنوا التوراة، مدعين أن الله قد وعد اليهود بإعطائهم فلسطين، الأرض المقدسة. في الوقت الذي إن كنا نريد أن نأخذ ما جاء في التوراة محمل الجد، فإن ذلك الوعد أعطي لإبراهيم وذريته، أي إنه يشمل العرب وليس اليهود فقط، ولكن عنصرية التوراة والتلمود لا تعترف بإسماعيل، ابن سيدنا إبراهيم، وإنما فقط بإسحاق، رغم أنه عندما أعطي ذلك الوعد، كان هناك إسماعيل فقط من ذرية سيدنا إبراهيم، فإسحاق لم يكن قد ولد بعد.
ومن أجل الحصول على دعم وتبني قوة كبرى لتحقيق المشروع الصهيوني، تعهدوا بحماية مصالح تلك الدولة في العالم العربي، مقابل مساعدتهم للسيطرة على فلسطين. وجدت بريطانيا ضالتها في المشروع الصهيوني، فتحالفت معه ووعدت بتقديم كل ما يتطلب لإنجاز المشروع متجاهلة الشعب الفلسطيني وحقوقه. من هنا بدأ الصهاينة توجيه دعايتهم نحو العرب، لتضليلهم ونيل تعاطفهم، مدعين أنهم أبناء عم وأن هدفهم هو التعايش، وإيجاد مأوى للمساكين اليهود، في فلسطين، وأنهم سوف يجلبون معهم الخير والمال والتطور والازدهار والمنفعة لفلسطين والعرب. وجدت تلك الدعايات في الثلاثينيات والأربعينيات من يرددها ويروج لها في الإعلام العربي، إما عن طيبة خاطر وجهل بالمشروع الصهيوني، أو عن خبث مقابل مصالح ومنافع شخصية.
عندما حصل الصهاينة على قرار تقسيم فلسطين عام 1947 بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، وما مارسته من ضغط ووعيد وتهديد الدول الفقيرة، ادعوا تكتيكيا موافقتهم على قرار التقسيم، ولكن ما إن ثبتوا أقدامهم في فلسطين عن طريق هجرات مشرعنة بريطانيا وغير مشرعنة، شنوا حربهم متجاوزين قرار التقسيم، محتلين 78% من فلسطين، طاردين أكثر من 70% من الشعب الفلسطيني، سارقين وطنه وأملاكه وبيوته المفروشة، وغيروا اسم فلسطين ومحوها من خرائط العالم وسموها إسرائيل، وادعوا أن العرب هم من شن الحرب عليهم، وأن الصهيونية هي «حركة تحرر الشعب اليهودي»، وأن إعلان قيام الكيان الإسرائيلي هو «إعلان الاستقلال»، وبذلك تقمصوا شخصية وكينونة الشعب الفلسطيني، الذي كان يناضل ضد الاستعمار البريطاني من أجل استقلاله، وأصبحوا هم الشعب الأصلي للبلاد، وكأنهم ليسوا دخلاء محتلين، وإنما هم محررو البلاد من الاستعمار البريطاني، هذا الاستعمار الذي خلقهم ودعمهم ودربهم وسلحهم وسلمهم زمام الأمور في فلسطين، الذي قمع شعبها وجرده من أي سلاح يدافع به عن وطنه وأملاكه وعائلاته، وقتل خلال سنوات احتلاله حوالي 50000 من أبنائه ومناضليه، وشنق 196، وسجن الآلاف، 300 منهم مدى الحياة، حتى يتسنى للصهاينة احتلال فلسطين والسيطرة عليها.
عندما رفضت هيئة الأمم قبول عضوية إسرائيل، ما لم تنسحب إلى حدود قرار تقسيم فلسطين حسب قرار 181، وتسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى بيوتهم وأملاكهم، وتعوض لهم حسب قرار 194، وافقت إسرائيل على تنفيذ القرارين، ولكنها ما إن حصلت على العضوية في هيئة الأمم، رفضت تنفيذ القرارين، بل قامت بتدمير 531 مدينة وقرية فلسطينية لمنع اللاجئين من العودة إلى وطنهم وبيوتهم.
وخلال اجتماع رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير مع وفد من البرلمان البريطاني عام 1969 قالت لهم بكل وقاحة: «لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني، وكأن هناك من يعتبرون أنفسهم فلسطينيين، وجئنا وألقيناهم خارجا وأخذنا وطنهم منهم، إنهم لم يكن لهم وجود». لم يتوقف تضليل الصهاينة، فروجوا دعاية حول العالم ادعوا فيها أن «فلسطين كانت صحراء وأنهم جعلوا من الصحراء جنة». هذا في الوقت الذي كانت فيه فلسطين منذ آلاف السنين فعلا جنة عامرة، متطورة زراعيا وعمرانيا، قبل أن تطأ أرجل العبرانيين تلك الأرض التي أتوها لاجئين مع أبينا إبراهيم عليه السلام من بلاد أور (اليمن والعراق الآن)، وبشهادة توراتهم نفسها التي وصفت فلسطين (الأرض المقدسة) بأنها أرض اللبن والعسل. وادعوا أن العرب يريدون تدمير إسرائيل ورمي اليهود في البحر، في الوقت الذي دمروا فيه فلسطين ومحوا اسمها من الخرائط، وألقوا الفلسطينيين في البحر والصحراء. وادعوا أنهم يريدون السلام، ولكنهم شنوا الحروب والعدوان والمذابح، من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 إلى عدوان 1967 على مصر والأردن وسوريا، إلى عدوانهم على لبنان عام 1982، وادعوا أنهم قبلوا تطبيق قراري 242 و338 اللذين يطالبهما بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلوها عام 1967، ولكنهم في الواقع لم يتوقفوا يوما عن بناء مشروعهم الاستعماري، لإقامة إسرائيل الكبرى التي تتوسع حدودها يوما بعد يوم، وسنة بعد سنة، إن كان في ضم مدينة القدس والجولان السوري، أو في بناء المستعمرات اليهودية، وقريبا غور الأردن، تحضيرا لمرحلة توسع جديدة.
لا يوجد حد للتضليل الصهيوني، الذي وصل الآن لأن يروج أن اليهود العرب في إسرائيل هم اللاجئون، وأن الدول العربية سرقت أملاكهم وعليها التعويض لهم، وكأن إسرائيل لا تريد اليهود، ولم تعمل جاهدة على ترحيلهم من أوطانهم بشتى الوسائل، بما في ذلك رمي القنابل على معابدهم ومقاهيهم، وزرع الشقاق بينهم وبين بقية الشعب، عبر عناصر الموساد لإجبارهم على الرحيل كما فعلت ضد يهود العراق والمغرب.
هذا جزء ضئيل من أكاذيب الصهاينة، دهاة التضليل والنفاق. إسرائيل قامت على الكذب والخداع. إنهم يقومون بابتكار كذبة ويكررونها بشكل مستمر، لكي تصبح حقيقة يصدقها الناس، ويبدؤون بتردادها، حسب قاعدة «السياسة هي فن التكرار». مطبقين نظرية غوبلز النازية، أنه كلما كبرت الكذبة صدقها الناس، وكلما كررت الكذبة صدقها الناس أكثر. وها نحن نشاهد الآن من يردد ويروج الدعايات الإسرائيلية التي لم يبرحوا يرددونها، منذ أن خلقوا مشروعهم الاستعماري الصهيوني في فلسطين، عاكسين الحقائق، بهدف لوم الضحية وتحميلها وزر كل مصائب العالم العربي، بدل إسرائيل، وزرع العداء والكراهية ضد الشعب الفلسطيني، في بث دعايات كاذبة خبيثة مثل، إن الفلسطينيين باعوا أرضهم وبيوتهم لليهود، وإن الفلسطينيين والقضية الفلسطينية هي عبء وسبب مشاكل العالم العربي، وليس إسرائيل، ما يعني أن اليهود لم يسرقوا فلسطين ولا أملاك الشعب الفلسطيني، وإن التخلص من الفلسطينيين وقضيتهم والتطبيع والسلام (اقرأ الاستسلام) مع إسرائيل، سوف يحل مشاكل الدول العربية الاقتصادية والأمنية، وهو التضليل الجديد وعكس ما حصل مع مصر وغيرها.
في الوقت الذي تقوم فيه جهات عربية بتبييض وجه إسرائيل والمجرمين الصهاينة، تقوم إسرائيل بالمزيد من العدوان والقمع والإجرام والعنصرية، وبناء المستعمرات، وهدم البيوت، وقتل الشبيبة الفلسطينية والتحريض ضد العرب والمسلمين، وخلق صورة نمطية عنهم لدى اليهود، وفي عقول شعوب العالم من خلال المنظمة الصهيونية.
المشروع الاستعماري الصهيوني لم يأت للعالم العربي بالخيرات كما كان يدعي، ولم يأت بالازدهار والأمن والاستقرار للدول التي أقامت السلام معه، بل على العكس من ذلك، ولم يأت حتى بالأمن لليهود أنفسهم، حيث جعلوا من فلسطين أخطر مكان يكونون فيه، وبثوا الكراهية لليهود في أنحاء العالم بسبب التخفي وراء اليهود في كل جرائمهم التي يرتكبونها باسمهم. إن ترديد الدعايات الإسرائيلية المغرضة في العالم العربي وترويجها، من قبل بعض حكام دول الخليج العربي لتبييض وجه إسرائيل القبيح، والتغطية على جرائمها وعنصريتها وتضليل البسطاء وغير المطلعين من جانب، وزرع العداء والبغضاء ضد الشعب العربي الفلسطيني من جانب آخر، ليس وليد صدفة؛ وإنما هو مخطط يدعمونه ماديا وسياسيا من ضمن مخطط «صفقة العصر» الإسرائيلي الأمريكي سيئ الصيت لتصفية القضية الفلسطينية والتطبيع مع إسرائيل، وتمهيد الطريق لتوقيع اتفاقات سلام معها، دون اعترافها بحقوق الشعب الفلسطيني، وعودة اللاجئين إلى وطنهم ومدنهم وقراهم.
هذه الأبواق الدعائية من بعض الشواذ ومن يقف وراءها ويشجعونها، يجب فضحها وتعريتها والتصدي لها، كونها كرّست نفسها للتغطية على أكبر جريمة في العصر البشري، ارتكبت ضد الشعب العربي الفلسطيني. وهو واجب يقع على عاتق كل عربي حرّ شريف ينتمي لشعبه وأمته، ويغار على مصالحها.
إنهم لا يخونون فقط الشعب الفلسطيني وحقوقه العادلة، وإنما يخونون الشعب العربي وأمنه واستقراره وحقوقه العربية والإسلامية في فلسطين، ودماء مئات الآلاف من الشهداء، الذين ضحوا بأرواحهم من أجل تحرير فلسطين وحماية العرب، وصون كرامتهم ومستقبلهم ومستقبل أجيالهم.
(القدس العربي اللندنية)