طوال
فترة الصراع العربي
الإسرائيلي، كانت الشعوب العربية عصيّة على الانخراط في موجات
التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني، وشعوب الخليج العربي كانت رائدة في
دعم فلسطين وقضيتها. ولا يمكن للمرء أن ينسى حملات التبرع التي تبلغ الملايين خلال الانتفاضة
الثانية، وما بعدها، وقت أن كانت الحكومات الخليجية تسمح بذلك، وقبل أن تنخرط في
استرضاء الصهاينة، لكن تبدُّل موازين القوة في الإقليم العربي أحدث تغيّرات سياسية
واجتماعية كانت غير مُتَصَوَّرة من قبل.
ارتبطت
التحولات الإقليمية بصعود حماس وحزب الله كـ"حركات مقاومة" تجاوزت نطاق
السلطة الرسمية، ومهم جدا التفرقة بين التنظيمات المسلحة التي تواجه النظام
السياسي الداخلي، وبين الحركات الوطنية التي تواجه محتلا، إذ الأولى ربما تجد
أنصارا وحتما ستجد معارضين لها داخل المجتمع، بينما الحركات الوطنية تجد الأنصار
ونادرا ما تجد معارضين لها، فهي تجد حواضن شعبية وروافع اجتماعية تعطي لأعضائها
مزايا معنوية بين أفراد المجتمع، وهذه الحالة تمثلت في حماس وحزب الله، مع الأخذ
في الاعتبار تورط حزب الله اللاحق في سوريا وما أحدثه من خسارة كبيرة لشعبيته، على
الأقل عربيا.
انشغلت
دوائر صنع القرار العربية بتلك الحركات، وسعت إلى تقليص دوائر نفوذها في المجتمع
العربي، وتزامن ذلك مع تحولات عربية تجاه الحركات السياسية الإسلامية، خاصة
الإخوان المسلمين، وبدأ التغير تجاهها عقب أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر
بصورة أكثر وضوحا، فتوافقت الرغبة الصهيونية مع المزاج الأمريكي مع خوف القيادات
العربية الاستبدادية من الحركات السياسية الإسلامية. وانطلقت المعركة ضد هذه
المكونات، وضد أفكارها وشعاراتها المركزية، وبالطبع كانت القضية
الفلسطينية ذات
أولوية، فتم تشويهها بدافعين؛ دافع الاسترضاء الأمريكي، ودافع ضرب الحركات
السياسية الإسلامية.
عقب
انتفاضاتٍ لشعوب عربية مطلع 2011 وصعود الإسلاميين للسلطة، توافقت الرغبات
الصهيونية والأمريكية مع التخوفات في الخليج العربي خاصة
السعودية والإمارات،
وكانت التخوفات الخليجية من أن تطالها رياح الانتفاضات أقوى من أي اعتبار آخر، فحدث
أحط تحالف تشهده المنطقة بين ممالك الشر ودولة الاحتلال، وما لبثت مصر أن لحقت بهم
عقب الانقلاب العسكري منتصف 2013، لنصبح أمام ثالوث الشر العربي الذي يواجه أي
تطلع إلى الحرية في المنطقة. والإشكال الأكبر أن قرار الثالوث أصبح مرتهنا للإمارات
التي يحكم شعبها الودود أبشع نظام حكم في المنطقة، فكان التغير في موازين القوة
العربية مثيرا للاشمئزاز؛ كونه انتقل إلى من لا يعرف من السياسة سوى الاستجداء
والانبطاح وتمرير رغباته بالرِّشى، أيا كان نوع الرِّشوة ومدى انحطاطها.
دعمت
مملكتا الشر (الإمارات والسعودية) كل صور الاستبداد، سواء على المستوى الداخلي أو
على مستوى الإقليم، ولغض الطرف عما يجري لديهما وفي المنطقة، تعمّقت التحالفات مع
العدو الصهيوني باعتباره بوابة الرضا الأمريكي والغربي، ليفاجأ الشعب السعودي
بوقاحة تطبيعية غير مسبوقة، تتجاوز ما سمحت به الإمارات التي تدير ذلك المشهد
الوضيع، وأصبحنا نشاهد كتابات سعودية على مواقع
التواصل الاجتماعي تمدح دولة
الاحتلال، وزيارات لصهاينة داخل المملكة، وفيديوهات قصيرة لبعض السعوديين على
صفحاتهم الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي تدعو إلى التطبيع.
وأخيرا
انتقلنا إلى ذم الفلسطينيين في
المسلسلات الرمضانية ذات المشاهدة المرتفعة، فتُلقي
هذه
المسلسلات باللائمة على الذين اغتُصبت أرضهم، وتدعو إلى التعايش مع المحتلين، ويجري
ذلك بمباركة نظام الملك سلمان وابنه اللذين جلبا العار للبلد العزيز على قلب كل
مسلم. ولا أَدَلَّ على مباركة النظام السعودي لتلك الخطوات من القيام بتخيّل مقارنة
فيديو قصير لشخص ينتقد النظام داخل المملكة، بآخر من هذه الفيديوهات التي تشيد
بدولة الاحتلال، فالأول يمكنك أن تحسب "دقائق" بقائه خارج أسوار السجون
السعودية سيئة السمعة، والآخر لن تبحث أصلا عن اعتقاله.. والأول لن تجد من يكرر
سلوكه لأنه يعرف عاقبة فَعْلَته، والآخر ستجد تكرارا واضحا في مُحاكاته.
كان
لمصر، للأسف، السبق في التوجه نحو التعامل مع دولة الاحتلال. وعلى مدار أكثر من
أربعة عقود، يبدو خواء الأثر الإعلامي في تزييف وتبديل وعي المجتمع المصري.
ففلسطين لا تزال حاضرة في الفؤاد، ويكفي أن تذكر اسمها لتجد فيضان العاطفة الذي
يتوجه نحوها. كما أن المصريين يحيون هذه الأيام ذكرى الانتصار العظيم على الصهاينة
في حرب العاشر من رمضان، وكانت المساجد لا تدع فرصة كهذه للاحتفاء بها في خطب
الجُمَع أو حلقات التدريس، فالعداوة متجذرة رغم كل محاولات إخراجها من القلوب، وإذا
كانت
تجربة التطبيع أخفقت على مدار عقود، فلا بد أنها لن تُفلح أبدا في مصر
وغيرها.
رغم
ما يجري من تسارع في خطوات التطبيع مع دولة الاحتلال، فإن الفؤاد لا يزال موقنا
بأن الشعوب العربية ستظل رافضة لوجود دولة الاحتلال على أرضنا، وأن أي تحرر من
الاستبداد سيصب في صالح قضية تحرير الأرض من الاحتلال، واقتحام سفارة دولة
الاحتلال في مصر عقب الثورة المصرية مؤشر واضح على حجم الكراهية التي يختزنها كل
عربي حر في قلبه تجاه دولة الإجرام والقتل، وستبقى كل محاولات التطبيع محصورة في أروقة
القصور المهترئة بفعل الاستبداد.
twitter.com/Sharifayman86