هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يُروى أن الشاعر مسكين الدارمي، وهو شاعرٌ أمويّ، قد اعتزل الشعر ومجالسَ اللهو، واعتكف في المساجدِ وزهد في دنياه، حتى قدِم أحد التجّار من الحجاز يبيعُ الخُمر، فلم يشترِ أحدٌ من النساء الخُمُر السوداء، فشكا للشاعِرِ وطلب مساعدته في إنقاذ بضاعتِهِ وظلّ يرجوه حتى قبِل الشاعرُ أن يقدّم له المساعدة، فأنشد أبياته الشهيرة التي تُصوّر عابِدًا يرتاد المساجدَ إلى أن اعترضت طريقه امرأة ذات خمارٍ أسودٍ فهامَ بها، وطُلب ممن يملك صوتًا جميلًا أن يغنّي بها في السوق، فشاعَ أن مسكين الدارمي قد ترك حياة الزهدِ بعد أن رأى امرأةً ترتدي خمارًا أسود، فأقبلن على شراء الخُمر السوداء.
تقول الأبيات:
قُل للمليحةِ في الخمار الأسودِ ... ماذا فعلتِ بزاهدٍ مُتعبّدِ
قد كان شمّرَ للصلاةِ إزارهُ ... حتى وقفتِ له ببابِ المسجدِ
رُدي عليه صلاته وصيامه ... لا تقتليه بحقّ دينِ مُحمّدِ.
لطالما كان الفنُّ نصيرًا للإنسان، صحيحٌ أنّه يتفوّه بمرارةِ الحقائق ويُعرّي الجراح ويدعكها بالمِلح، إلا أنّه في ذاتِ الوقت يُعدّ ملجأً حانِيًا، ليس فقط لأنه ينطِقُ بما يخالج عوالمك الداخلية، بل لأنه قد يهمسُ لكَ أيضًا بما ينبغي عليك القيامُ به، فيتسلّل إلى وعيِك كالسّحر، ليس كما يأمرُك رئيسُك في العمل، ولا كما يُزعجك الطبيب بالتعليماتِ الصارمة، ولا تتجرّعُه كالدواء المُرّ، بل يُمتِعُك.
في ظلّ الانبهارِ بمخرجاتِ العصرِ والتسابقِ في ميادينه، وطغيانِ المادة والآلة وتوغلّهما في حياتنا رغمًا عنا، ظل الأدب واقفًا بالمرصاد مؤكدًا على فشل الحداثة في حل مشاكل الإنسان، بل إنه قد يشيرُ بأصابع الاتهام لما يُسمّى عالمًا حديثًا بتسببهِ بتلك المُشكلات، فبينما يتغنّى العصرُ بالاختراعات والاكتشافات والتطاول في البنيان والإتيان بالمعجزات الطبيّة والعلمية، يبكي الأدب الاغتراب الإنسانيّ وغياب الفضيلةِ والفقر والعجز وذوبان الروح في جسدِ المادةِ وأنهارِ الدماء.
اقرأ أيضا : إطلالةٌ على "ملحمة الحرافيش" من منظور ثنائيّة البناء والهدم
فالأدب جهاز الحس لدى الجنس البشري، ولا يزال يمزق الوجه الزائف للعالم الحديث رغم ما يستعرضه الأخيرُ من رفاهيةٍ وقوةٍ في الإنتاج وتطورٍ تكنولوجي في كافةِ المجالات، صحيحٌ أن التكنولوجيا استطاعت بناءَ عوالمَ حديثة قامت بتشييدِ أنظمةٍ ساهمت في حلّ مشاكلِ الإنسان، إلا أن يد قدرتِها لا تستطيع أن تُصلِحَ ما هو أكثر سُموّا من الجسدِ والآلة، ولا يمكنها أن تُلبّي سوى احتياجاتِه الماديّة المختلفة.
ونلحظ أن دورَ الأدبِ قائمٌ حتى فيما يتعلّق بما هو ماديٌّ بحت، إذ لا يُمكنُ للعالمِ مهما بلغ من الحداثةِ ورقمنةِ كل ما تقعُ عليه عيناه، أن يستغني عن الدور الفعّال الذي يُقدمه الأدب أو الفنّ، ولا أن يُنكر تأثيره المباشر وغير المباشر على الإنسان، إن الأدب، وتحديدًا الشعر كما في القصةِ السابقة قامَ بدورٍ تجاريّ مُتقن، ولا يزال يُطلب منه القيامُ به حتى يومِنا هذا.
في إحدى حلقات المسلسل السوريّ المعروف (الفصول الأربعة) هرع "مالك بيك الجورابار" الذي يمثل قمة الهرم إلى الاستعانة بـ"برهوم" شاعر العائلة الفقير، بعد أن وجد نفسه في منافسة شرسة مع إحدى الشركات الكبرى، وقد أعلنت حربها على "مالك بيك" من خلال إعلان ضخم عُرض على التلفاز، حيث امتازَ الإعلان بكلماتٍ دعائيّةٍ مؤثّرة، فما كان من مالك بيك إلا أن يستعين بـ"برهوم" ليسطر له كلمات إعلانٍ عالي المستوى، مصرّحا بكل تواضع أمامه بحاجته الماسة إلى شعره، و بأن مصيره التجاري بين يديه، معلنًا في ذات الوقت عن أسفه، معتذرًا عن تلك الأيام التي سخر فيها من الشعر دون أن يدرك أهميته، فقد عُرِف مالك بيك طوال حلقاتِ المسلسلِ بماديّته ورغبتهِ المستمرّة في تجميعِ الثروةِ و مواكبةِ العصر و تطوراتِه، عدا عن استخفافه المُعلن لبرهوم الشاعرِ البائس، لكنّه وجدَ نفسه في أزمةٍ لن ينقذه منها إلا الشاعر برهوم، فأبدى أسفَهُ و ندمَه الشديدين، و كل ذلك وسط دهشة "برهوم"، وأفراد العائلة!
كما قد أعطى الكاتب البرتغالي " أفونسو كروش" في روايته "هيا لنشتر شاعرًا" الشعر دورَ البطل المخلّص، وذلك رغم كل السخرية التي تعرّض الشاعر لها، فقد صور الكاتب الشعراء و الأُدباء و الفنّانين كذلك في عالم يباعون فيه كما يباع المتاع، و يعتبر الشاعر فيه غريب الأطوار لأنه لا يفهم لغة المادة و الأرقام، وقد بيع أحد الشعراء لطفلة طلبت شراءه من والديها، إلا أن الشاعر بطريقة غير مباشرة حلّت عباراته الشعرية مشاكل العائلة المادية والشعورية، فقد أعادت قصيدته حبيبة أخ الطفلة إليه، وكان قد كتب للأم عبارة تقول: "التجاعيد هي ندوب العواطف التي تجتاحنا"، فلم تعد الأم تنظر لنفسها على أنها آلة بلا كرامة، وعادت إليها ثقتها بذاتها.
لكن أهم عملية إنقاذ قام بها الشاعر، إنقاذه مصنع الوالد من الإفلاس والانهيار عندما أوحت عبارته الشعرية للأب بفكرة وضع مدفأة في مصنعه ليشعر العمال بالدفء مما سيزيد من إنتاجية العمل: "القُبلة هي الأنجع لحرارة الجسم".