أخبار ثقافية

البياض السرمدي في "العربون" لشفيق النوباني

من القصص اللافتة للنظر في "العربون" قصة "ثورة الظلال" التي تدور حول جريمة قتل ارتكبها ظلّ بحق صاحبه- عربي21
من القصص اللافتة للنظر في "العربون" قصة "ثورة الظلال" التي تدور حول جريمة قتل ارتكبها ظلّ بحق صاحبه- عربي21

لا ضمان يقود إلى الطمأنينة والسلام، لا وجهة تسير دون الانتهاء إلى عدم؛ الخضار يصير يباسا، ولا يسلم أيّ امتلاء أو حركة من الانفجار أو الجمود.

 

حالة عجيبة من اليأس وصوره التي غلبت على كلّ الرؤى والمشاهد تسود مجموعة العربون (الصادرة عن دار الكندي 2011) للقاص الأردني د. شفيق طه النوباني، فكلما حلّ أملٌ في أيّ من قصص المجموعة الأربع عشرة انهزم أمام كيانات الوجود وأقداره. 

 

ليس القدر التجريدي أو المحض دائما هو السبب في هذه التصورات، بل تشكل غالبا يد بشريّةٌ لعبة النهاية، سواء كانت بيّنة أو خفيّة.

 

ففي "القرش اللامع" يفرح الصبي فرحا لا مثيل له بالقرش الذي سقط من أحدهم أو رماه آخر، فهو "أجمل قرش رآه في حياته،" ثمنا لأحلى بالون.

 

يدور البالون دورة حياة سريعة ينفخ فيها أربع نفخات، يكبر فيها أمل الصبي ليطير به فوق النخيل، ويكبر أكثر ليصير منطادا ويقطف به النجوم، إلا أن النفخة الرابعة تعلن انتهاء دورة الخيال والفرحة بـ"بم..... انفجر البالون.

 

"ظهر البالون صدفةً وانتهى صدفةً وعبثا، دون أن يحفظ فرحة الطفولة والبراءة أو أن يترك غير الفراغ. قصة العربون مثل قصة "القرش اللامع" لا تشير بنية القصة بأصابع الاتهام إلى أيّ جهة أو علّة، وحدَها طبيعة الأشياء تعود إلى التلاشي. 


في "العربون" يسيطر البرد على زيدون، فلا يهبط به إلى مستوى التجمد ولا يرقى إلى الدفء، حالة ينعدم معها الإحساس بالزمن "... سنة ... أو يوم ... أو شهر ... فالأمر سواء." كل ما حوله متأثر بالبرد والجمود، حتى إن البلاد كلها توقفت عن الحركة، وصارت الطرق كلها انحناءات.

 

رغم أن الحافلة تسير بزيدون وبالركاب الآخرين، إلا أنها كعجوز "سقطت من شعره آخر شيبة،" يحفها فراغ شاسع وهدوء مميت.

 

إلا أن هذا الصمت يهتزّ قليلا بصوت قطع النقود التي وضعها أحد الركاب في يد جامع الأجرة، وعلى زيدون الآن أن يدفع كالآخرين.

 

غير أنه يدفع قطعة نقدية واحدة، فتزداد حيرة الصمت بالنظرات بينه وبين جامع الأجرة. "عربون... إلى أن توصلني إلى غايتي..." كل حركة في العربون تعلّل هذا الشك في الوصول إلى الغاية، وتقود إلى المرأة التي آلت إلى شكل جليدي أو الشكل الجليدي الذي آل إلى امرأة، حتى تصل الحافلة إلى غايتها فتشلّ وتعجز عن العودة إلى الحركة مرة أخرى، ويتدانى زيدون إلى مستوى التجمد.

 

ولا بدّ هنا من الإشارة إلى المسافة الفاصلة بين البرودة والتجمد، تلك التي تتحرك بها الكينونة، لكنّ هذه الحركة لا تعني بالضرورة أنها تسير إلى مستوى الدفء واليقين، وهو مستوى افتراضي لا يمثّله أيّ من مكونات القصة.


وعلى الرغم من أن "حافة البياض" تشترك مع القصّتين السابقتين في إسناد التلاشي إلى القدر، إلا أنّها مختلفة قليلا ببعدها عن الرمزية والكثافة التعبيرية التي سيطرت على العربون والقرش اللامع وسواهما من القصص.

 

فهي تعالج - بصيغة أقرب إلى الذاتية والذكريات الشخصية - صورة الفقد والمشاعر الناجمة عنه، على الرغم من وجود بعض المفارقات الملائمة لطبيعة الحدث، كحرمان الأم من الدراسة "والمدرسة جوا الدار."


أما عموم القصص الأخرى فتشفّ بنيتها عن أن الرؤية السوداوية تأتي بفعل فاعل. وكلمة "تشفّ" في هذا السياق هامة؛ كون معظم القصص في العربون تتميز بكثافة رمزية على مستوى البنية والحدث اللذين يجسدان الرؤية دون التصريح مباشرة عنها بشكل مباشر مجرد (باستثناء قصة حافة البياض).

 

ولعل فيرو، القطّ الوادع في القصة المعنونة باسمه "فيرو"، يدل دلالة واضحة على العنصر البشري الذي يفسد أشياء الحياة. فيرو يجسّد، من خلال سلوكه ومظهره، البراءة والوداعة من ناحية، والاتزان والرزانة من ناحية أخرى، حتى أنزله الراوي وأصدقاؤه منزلة البشر.

 

لكنّ يد أحد الرفاق تفسده وتخرجه عن صفاته بقرصة في ذيله خلسة عن الراوي، فيخرج القط عن سجيته وتفسد طبائعه، فيقع الراوي في دوامة من التساؤلات عن هذا التحول، دون أن يهتدي إلى سرّه.

 

يخسر فيرو منزلته شبه البشريّة وكل طباعه الدالة على ذلك، ما يؤدي إلى السؤال الختامي "هل فيرو قط؟" وبالإضافة إلى طبيعة الحدث الرمزي في فيرو، يخبر الرواي بما حدث لفيرو وبسرّ تحوله عن سيرته الأولى، لكنّه يخلق مسافة بينه وبين هذه المعرفة؛ فهو يعرض الحدث ولا يعرفه، فكأنّه عرف بما حدث في وقت لاحق بعد أن تمّت القصة كلّها، دون أن نعلم كيف ومتى تمّت هذه المعرفة أو أن يؤثر ذلك على عرض بقية القصة، وهذا استخدام لطيف ومتقن للراوي أضفى الكثير من الحيوية على تطور الحدث.

 

وتضيف السخرية في قصة مصلح سمتا مختلفا عن القصص الأخرى يكمل ويتضافر مع الرمزية الشفافة التي تفضح تضخم "الأنا" والترهل والفساد في العمل الأكاديمي، حيث تبدو صورة الدكتور مصلح، الذي لا نصيب له من اسمه، كاريكاتورية تجسد طبائعه الشخصية والسلوكية، وهو ما يظهر في تصورات الآخرين عنه. ونتيجة لما له من سلطة يعتقد أن مداهنات الآخرين له حقيقة وخصائص في شخصيته.

 

ومن ذلك لقبه "البحر"، فهو نابع من علمه الذي بضخامة البحر، فقد أخبر طلّابه عن الكتّاب الذين فشلوا لأنهم لم يتّبعوا نصائحه وعن آخرين سطعت أسماؤهم في سماء الشهرة والنجاح لأخذهم بمقولاته.

 

وبالطبع تخفى عليه تعليلات الآخرين لهذا اللقب كضخامة أنفه أو نظارته أو "كرشه." وعلى الرغم من أن السخرية في مصلح وحدة أساسية في بنية القصة ولافتة للنظر بشكل عام، إلا أنها تأتي هادئة معبّرة دون صخب.

 

لابدّ أن أستثني هنا موقفا واحدا وهو السخرية التي يقوم بها مصلح نفسه حين سمّى أحد طلابه بـ "العصر التركي" نتيجة لكبر سنه بين الطلاب الآخرين وشبه شكله برجال الدولة العثمانية، فهي سخرية حادة تقود ذلك الطالب إلى ترك الدراسة معللا نفسه بأنّ أولاده أحقّ بالمال من هذا الهراء. 

 

اقرأ أيضا : قراءة في رواية "صانع المفاتيح" لأحمد عبد اللطيف

 

ومن القصص اللافتة للنظر في "العربون" قصة "ثورة الظلال" والتي تدور حول جريمة قتل ارتكبها ظلّ بحق صاحبه، الأمر الذي ينشر الرعب بين الناس. ولا تنجح كلّ الوسائل الرسمية في السيطرة على الخوف من ثورة الظلال على أصحابها إذا ما اكتشفت القوة الكامنة فيها.

 

بالطبع لا تخفى علاقة هذه الرمزية بثورة الشعوب على الفساد والاستبداد إذا ما عرفت القوة الكامنة فيها وخبرتها.

 

لا تنفع كل وسائل مقاومة الظلال على الرغم من كونها تابعة مطيعة في كل الحركات والسكنات، فأخذ الناس يتقافزون خوفا من ظلالهم.

 

وبعد إدانة الظلّ المتهم، حكم عليه القاضي بأن يبقى بقية حياته مقيدا إلى حزمة الضوء، إلا أنّ مصدر قوة الظلال في أنّها تحلّ في كل جسم، الأمر الذي يجعل القاضي يقفز للأعلى فزعا ويتمايل يمنة ويسرة.


وتشارك الألوان في مجموعة العربون في رسم الرؤية الكلية للقصص عموما، إذ تشير إلى الإحساس بالفراغ والفقد والأسى.

 

ففي حمّى في ليلة ماطرة يغطي الأسود كل شيء، رغم أن ثوب الممرضة أبيض، وكذلك الكمّادة بيضاء، إلا أنّ أثرها في سياق الألم لا يبتعد كثيرا عن لون الكفن، أو السواد الذي يظهر أثره ليس فقط في القدرة على الإبصار، وإنما أيضا على الحواس الأخرى: "للتو كان اللون الأسود يغطي عينيّ دون أن أتمكّن من سماع أيّ صوت." وفي قصة حافة البياض لا يجد الراوي أيّ صعوبة في اختيار ملابسه، فهي كلّها تلائم الحداد؛ ملابس سوداء، وبنيّة، وزرقاء غامقة.

 

وهي الألوان التي يجد أنّها تصلح للحياة اليوميّة كما تصلح لمناسبة حزينة مثل العزاء. أكياس الزراعة سوداء، وبنقص الماء تصير الخضرة خلف البيت يباس. البياض الوحيد هو ذلك الثوب السرمديّ الذي يلفّ الرّاحلين.

0
التعليقات (0)