شاع عند الكثيرين تعريفهم للسياسة على أنها فن الممكن، فقد أخذه هذا الجمع على أنه تعريف مسلم به، وتم التعامل مع
السياسة على أنها فعلا فن الممكن، وهذا يعني أن الممكن هو ميدان السياسة، الذي تعمل وتتحرك فيه، والمرمى الذي تسجل فيه أهدافها، والهدف الذي تصوب نحوه سهامها.
وهذا يعني أيضا أنها غير موجودة أو غير مطلوب منها أن تكون موجودة خارج ميادين الممكن، أو لنقل بعبارة أخرى أنها غير ملومة إن لم تخض ميادين غير ممكنة، فهذا الفن غير فنها، وخارج عن إمكانياتها.
أعتقد أن هذا التعريف توصل إليه ساسة عاجزون عن التحقيق، ولا قدرة لهم على
الإنجاز، وتحقيق الأهداف المامولة، والمتوقعة منهم في تصدرهم المواقع السياسية، فذهبوا حتى يعذروا أنفسهم ويخرجوها من دائرة اللوم والعتب والنقد، إلى هذا التعريف، الذي ينتصب كعلاقة يعلق عليها العاجزون عن الفعل من الساسة المبتدئين مفتقري التجربة والخبرة عجزهم وتقصيرهم.
فن الممكن هو فن السهل البسيط المتاح للجميع، ولا يصلح هذا الفن لمن يتصدرون صفوف الناس والمجتمعات، كقيادات تحكم وتقود، ولا يملك الناس أمامهم إلا السمع والطاعة، والانقياد لحكمهم، وهذا الأمر بحد ذاته ليس ممكناً، ومتاحاً لمن رغب به أو طلبه، بل دونه مشقات وصعاب وتحديات كثيرة، وبهذا ليس مقبولاً أن تكون السياسة فن الممكن، ولو كانت حقا السياسة فن الممكن والمستطاع لركب موجتها كل عابر سبيل، وحقق في ميادينها الإنجازات، غير أن كثيراً ممن ركبوا موجتها، من غير تمكن وقدرة، أغرقتهم وقتلتهم شر قتلة، ذلك أن السياسة ليست فن الممكن والمستطاع، بأي حال من الأحوال.
والسياسة مرتبة عالية، ولعلها الأعلى بين المراتب الدنيوية، فللساسة تسند مهمة سياسة شؤون الناس، ورعايتها، وانتظام حياتها، فلما كانت بهذه المكانة العالية، فلا يصلح لها أن تكون فن الممكن، ولا يصلح لتبوئها غير الأكفاء من أعلام الناس وأعيانهم، الذين امتازوا بالذكاء والقوة والقدرة، فكما قال المتنبي:
ولا تحسبن المجـد زقـاً وقينـةً ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وقول الآخر:
إذا ما علا المرء رام العلا ... ويقنع بالدون من كان دونا
ولذلك حين قيل لأحدهم وقد كان رجلاً: لنا حويجة، تصغير حاجة، أي، جئناك تقضيها لنا، فأبى وقال: اطلبوا لها رجيلاً، تصغير رجل، فالرجيل تشبع نفسه بعمل اليسير، أما هو فهمته عالية، قد رصد نفسه لضخام الأعمال، ويأنف من صغارها.
فمن الظلم أن نذهب بالسياسة إلى ميادين الممكن، فنسهل لكل من ضعفت قدراته، ووهنت إمكانياته، دخول ميادينها، وتسول له نفسه أنه من أربابها وفرسانها. وهذا للأسف ما حصل لاحقاً، فتقدم الصفوف من حقه آخرها، وتصدر الناس أراذلهم همة ومكانة، وما كان لمثل هؤلاء أن يتقدموا الصفوف، لو كان التقدم مرهوناً بقدراتهم الذاتية، ومهاراتهم الشخصية، وإمكانياتهم العقلية، فليس لهم بهذه الموازين قيمة أو وزن يذكر.
فتقدموا الصفوف معتمدين على قوة السلاح بالانقلابات العسكرية، والعون الخارجي، فكانت عدتهم في مكوثهم في حكمهم إرهاب الناس وإخافتهم، فضخموا الجانب الأمني في حكمهم، وكان أعظم إنجازاتهم بناء السجون، والزج بالأحرار والرجال خلف القضبان، إن نجوا من القتل والاغتيالات.
نعم، السياسة فن، لكنها بالتأكيد ليست فن الممكن، بل هي فن التحويل، والترويض، والتغيير، تحويل المستحيل إلى ممكن، والصعب إلى سهل، والضعف إلى قوة، والفوضى إلى نظام، والتمرد والعصيان إلى طاعة وانتظام.
نعم، هي فن، لكنها فن تفجير الطاقات، واستغلال المواهب، وتوظيف القدرات، وصناعة الحياة، وتحصين الشعوب بالأمن والأمان.
نعم، هي فن، لكنها فن تحقيق المصالح والمكتسبات، وتطبيق القانون، وسيادة مفهوم الجماعة، وروح التعاون والتسامح ومقاومة الظلم والتمييز.
نعم، هي فن، لكنها فن الدمج بين القوتين الناعمة والخشنة، بأسلوب مقبول، عبر عنه داهية السياسة والحكم معاوية بن أبي سفيان صاحب الشعرة في السياسة، والتي راحت مثلاً تضرب، فيقال شعرة معاوية، فحين قيل له كيف حكمت الشام أربعين سنة، ولم تحدث فتنة، والدنيا تغلي؟ فقال: "إنّي لا أضع سيفي حيث يكفينى سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفينى لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها".
أرأيت فناً أكثر تعقيداً وصعوبة من هذا الفن؛ أقصد فن السياسة، هذا الفن الذي يلزمك أن تتخذ للمقام المقال الذي يناسبه، وللمقال الموقف الذي يناسبه، وأن تتنقل بين المواقف بكل سهولة وليونة ويسر، وتختار من الأساليب المتناقضة المتعاكسة ببديهة وحنكة تضمن لك استقرار حكمك في البلاد، مع دوام محبتك في قلوب العباد؟
ولعلك تدرك بعضاً من المصائب التي حلت بالأمة، حين حكمها نفر من أبنائها المؤمنين بمقولة، أن السياسة هي فن الممكن، فانحدروا بها وبنا إلى قاع القاع.