هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تستهدف رواية "الزوجة المكسيكية"، للكاتب إيمان يحيى، طموحا فنيا خاصا. لعله غير شائع في محيط الرواية العربية، فهي رواية مبنية على تتبّع خيوط رواية أخرى قديمة، وهي رواية "البيضاء" ليوسف إدريس، التي نشرها على حلقات في جريدة الجمهورية، سنة 1959، قبل أن ينشرها في كتاب سنة 1970.
استنطق إيمان يحيى رواية إدريس، مستكشفا أبعادا تاريخية غير معروفة عن ملابسات الرواية، التي أثارت بعض الجدل، لأن توقيت نشرها على حلقات في جريدة الجمهورية تزامن مع تنكيل السلطة باليسار المصري، الذي عمد إدريس إلى كشف بعض سوءاته في الرواية، بحيث شعر البعض كأن إدريسَ يعلن توبته للسلطة القائمة، متبرّئا من ماض نضالي اعتقل بسببه سنة 1954.
باذلا جهدا كبيرا، تتبّع إيمان يحيى أسرار رواية "البيضاء"، خاصة مسألة زواج إدريس من مهندسة معمارية مكسيكية شهيرة، هي روث ريفيرا، ابنة فنان الجداريات العالمي دييجو ريفيرا. مع إن إدريس لم يشر إلى زواجهما في "البيضاء"، ولا إلى كثير من تفاصيل العلاقة.
كان إدريس قد التقاها في مؤتمر أنصار السلام في فيينا سنة 1952، فاشتعل الحب في قلبيْمها، وتزوجا زيجة قصيرة جاءت فيها روث إلى القاهرة، ثم انفصلا، وتزوجت بعده من فنان مكسيكي، ثم رحلت باكرا بسبب مرض السرطان.
اختار يحيى استراتيجية مناسبة لمعالجة روايته. أولا اصطنع بطلين موازيين لسرد الأحداث، هما سامي أستاذ الأدب في الجامعة الأمريكية وسامنثا تلميذته، التي اختارت رواية البيضاء موضوعا لأطروحتها.
من هنا بدأت الاكتشافات، التي بدأتها سامنثا، التي شاركت في مظاهرة معارضة لحكم حسني مبارك، تحت مظلة حركة كفاية، وانتهى الأمر بترحيلها فجأة، لكن الأستاذ كان قد تورط في غواية البحث بدوره، فاستكمل التنقيب متحريا عن الحكاية.
من المهم الإشارة إلى أن إدريس لم يتحدث علانية عن تلك الزيجة، ولم يشر إليها في مقالاته أو حواراته الصحفية على كثرتها، باستثناء صحفية روسية اعترف لها بالأمر لسبب غير معروف. من هنا كان البحث شاقا على إيمان يحيى مؤلف الرواية، الذي أنطق سامي بطله بالكثير من استقصاءاته.
مما ناسب ذلك أن يتعدد صوت الراوي، فأحيانا يكون يحيى مصطفى طه (البطل الذي اختاره إدريس لرواية البيضاء، والذي يمثل إدريس لدى إيمان يحيى) هو راوي الأحداث من زاويته، وأحيانا تكون روث هي الساردة، وفي بعض الأحيان تبادلا سرد الحدث ذاته، من منظور كل واحد منهما.
كما حفلت رواية الزوجة المكسيكية باقتباسات من رواية البيضاء، تناسب أحداث الزوجة المكسيكية أو تضيئها.
أراد الكاتب إيمان يحيى، من خلال السرد، توثيق هذا الجانب المهم من تاريخ مصر الحديث، بداية بحركة الضباط الأحرار في يوليو 1952، وتحديدا سنتيْ 53 – 54 مرورا بالحراك السياسي، الذي انتهى بإحكام قبضة الضباط على المجال السياسي العام، والتنكيل بمعارضيها وتحريك الجماهير للتظاهر ضد الديمقراطية، فيما عرف بأزمة مارس 54 وما بعدها، وانتهاء بالميلاد الحقيقي لدولة يوليو المعادية تماما للديمقراطية، والمنادية بشعارات براقة مثل معاداة الاستعمار وناهبي الشعب، للمداراة على إدارة كارثية تهدر موارد البلد، وتراكم مزيدا من الفقر وهشاشة الإنتاج.
لا يسعنا إلا الاعتراف بالثقل التاريخي الكبير للرواية، فهي تعالج مرحلة سياسية فاصلة، بتفصيل واف دقيق، وتستنطق شخصياتها وتسعى لسبر أغوارهم ومشاعرهم، مثلما ترصد تطور التنظيمات اليسارية السرية وقتها، وأثر ذلك على تكوينها وصراعها مع نظام يوليو وفيما بينها أيضا.
وقد فصّلت الرواية بعض أهم الأحداث السياسية مثل اصطناع المظاهرات المؤيدة لعبد الناصر في مارس 54، التي تورطت إحداها في الاعتداء الفاضح على المستشار السنهوري في مقر مجلس الدولة، وتحولات صبحي التمرجي الذي صار صحفيا في الجمهورية بفضل مشاركته في تلك المظاهرة المشؤومة. كما وصفت الرواية الحياة في المعتقلات السياسية وقتها، ومدى القبضة الأمنية الباطشة.
مع ذلك، قد يبدو ما يميز الرواية أحد مآخذها أحيانا، حيث تكاد تتحول في بعض أجزائها إلى تأريخ سياسي صرف. ولعل ما قوّى هذا الجانب، تكوين شخصيات الرواية. ثمة تواز غير مبرر، في تقديري، بين علاقة سامي – سامنثا اللذين ينقبان خلف القصة الحقيقية لحب يحيى طه وروث وزواجهما، وبين علاقة يحيى – روث.
في رأيي، يكمن هنا سبب أساسي لضعف بنية الرواية. في العلاقتين نشعر بطغيان أسطورة "الرجل المصري المطلوب عالميا"، وهي الأسطورة التي ترددها المخيلة الجمعية المصرية كثيرا، دون سبب منطقي.
فلا تقدم الرواية أي مبرر لانسحاق الشابة الأمريكية الذكية الفاتنة أمام أستاذها المصري، الذي يكبرها سنا ولا تقدم الرواية ما يبرر إعجابها به.
يحق لنا أن نسأل الرواية: لماذا ظلت سامنثا تتحين الفرص، بلا كلل، لإيقاع أستاذها في حبها، من بين الكثيرين المحيطين بها، من النشطاء الأجانب والمصريين، رغم تفننه في صدها؟
اقرأ أيضا : قراءة في رواية "صانع المفاتيح" لأحمد عبد اللطيف
وهذا يمتد، في تقديري، للعلاقة الأكثر محورية بين يحيى طه وروث. نكتشف أن روث تكاد تكون فتاة ريفية مصرية بسيطة، تتعلق بأول رجل تقابله، وتتحمل إهاناته المتتالية التي وصلت إلى صفعها على وجهها وتجاهلها الدائم، بل وحبسها في البيت عمدا... ثم نجدها تلهث بالرغبة في إنجاب أطفال وترديد جمل مثل: "ياهَيا، زَواجٌ يَعْنِى أُسْرَةً وَأَطْفالاً وَاِسْتِقْراراً، وَأَنْتَ لا تُرِيدُ كُلَّ ذ?لِكَ!"
هل هذا رأي أول معمارية مكسيكية وابنة فنان عالمي من روّاد التحرر والتقدمية؟ يبدو ذلك غير منطقي. الأكثر من ذلك أن روث حين تتأمل طلاقهما تعتبر نفسها سببا في انفصالهما، بمازوخية غير مفهومة أيضا: " كانَتْ أَعْصابُهُ عارِيَةً، وَكانَ فِي حالَةِ تَوَتُّرٍ دائِمٍ. أَنا الأُخْرَى كُنْتُ مُتَوَتِّرَةً بِدَوْرِي، أَرَدْتُ كُلَّ شَيْءٍ؛ الحَياةَ وَالحُبَّ وَالفَنَّ وَالأَطْفالَ".
المشكلة أن الرواية تسرد أسبابا كثيرة كافية لإصرارها على الانفصال فورا، كالإهانات التي ذكرتها سابقا.
هكذا نعود للسؤال: هل هي زوجة مكسيكية حقا؟ يبدو ذلك التفكير ملائما لفتاة غير متعلمة، تؤمن أن رسالتها في الحياة إرضاء زوجها وإلقاء أطفال كثيرين في وجه العالم.
يتوازى مع ذلك بعض الإكليشيهات مثل إعادة إنتاج إكليشيه الكاتب المبدع، الثائر عنيفا، الغاضب بجنون، العاطفي للغاية، المشع بالرومانسية... مثلما يُدَوِّر المؤلف صورة الكاتب السجين الذي يقرأ قصته من نافذة زنزانته في حالة من الهياج النفسي فيُفجّر الحماس والثورة لدى السجناء، مما يبدو غير مقنع بمنطق الرواية الواقعية، مثلما يبدو غريبا للغاية أن يُنطِق المؤلفُ أراغون قائلا لحبيبته إلزا خلال مؤتمر أنصار السلام: "الشِعْرُ خُلِقَ عَرَبِيّاً. ثُمَّ يَنْظُرُ فِي عَيْنَيْ إِلْزا فِي وَلَهٍ واضِحٍ، وَيُرْدِفُ: ذاتَ يَوْمٍ سَأَكْتُبُ لَكِ يا حَبِيبَتِي قَصائِدَ لَعِينَيْكِ مِنْ وَحْيِ شُعَرائِهِمْ القُدامَى!".
لماذا خلق الشعر عربيا؟ ما الذي يجعل السيد أراغون معتقدا بذلك؟ وهل قرأ امرئ القيس والمتنبي والبحتري ليستوحي من شعرهم قصائد حب، في سياقه الثوري التقدمي؟