هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بعد ثلاثة عقود من وفاة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، كانت الفتوحات الإسلامية قد وصلت إلى جنوب غرب آسيا وشمال شرق أفريقيا، وكان من نتاج ذلك، توحيد مصر وبلاد الشام مع بلاد الرافدين وفارس وما بعدها.
نتج عن ذلك تطورات اقتصادية انعكست على كافة مناحي الحياة، فأدخلت صناعة الورق إلى العالم الإسلامي على يد أسرى صينيين في النصف الثاني من القرن الثامن ميلادي.
كيف انتقلت الفلسفة من اليونان إلى العالم الإسلامي؟
مع الفتوحات الإسلامية والتطورات الاقتصادية، كان المناخ الفكري متحررا، فقد تابع العلماء في مراكز العلم (الرها، قنسرين، نصيبين، الموصل، جنديسابور) يتابعون دراستهم دون وجود وجهة نظر أرثوذكسية رسمية كما يقول ديمتري غوتاس.
ومع أن الكثير من الباحثين ذهبوا إلى أن الفلسفة اليونانية لم تدخل إلى الفضاء الثقافي الإسلامي إلا في عهد الخليفة العباسي المنصور، ومن بعده زمن الخليفة المأمون، إلا أن الأبحاث الحديثة بينت أن اتصال العرب بالثقافة اليونانية حصل قبل ذلك، مع عملية الفتح الإسلامي لأمصار حافظت على مراكز البحوث الفلسفية فيها كما هو الحال في الإسكندرية، قبل أن تنتقل عملية التدريس العلمي (فلسفة، فلك، رياضيات) إلى أنطاكية وحران زمن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز.
العصر الأموي
يقول سامي النشار إن اتصال العرب بالعلوم والفلسفة اليونانية حصل في القرن السابع، حيث ترجمت كتب أرسطو على يد مارابا ويوشع بخت ودنجا وطيماوس الأول الجائليق، وفي مدينة جنديسابور، كان ثمة مدرسة علمية تضم العلوم اليونانية والسريانية والفارسية والهندية.
يتماه رأي النشار مع ما ذهب إليه الشيرازي والسهروردي وابن كثير الذي أكد أن عملية التواصل الثقافي بدأت خلال المئة الأولى.
يذكر ابن النديم في الفهرست:
عندمـا خطر ببال خــالد بن يزيــد الصنعة،
أمر بإحضار جماعة مــن فـلاسفة اليونان
ممن كـانوا ينزلون في مدينة مصر، وقــد
تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب فـي
الصنعة مـن اللســان اليوناني والقبطـي
إلــى العربـي، وهـذا أول نقل كـان فــي
الإسلام من لغة إلى لغة.
اتسمت عملية الترجمة هنا بطابع فردي ـ فضولي حسب الباحث محسن المحمدي.
وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، جرت عملية ترجمة بدوافع شخصية أيضا، فقد طلب الخليفة عمر من الطبيب اليهودي ماسرجويه ترجمة مجموعة أوراق في الطب لـ آهرون الإسكندري.
لم تكن عملية نقل التراث الفكري اليوناني في بدايتها عملية مباشرة من اللغة اليونانية إلى العربية، بل تمت من خلال الترجمات السريانية.
وكان المسلمون يعون آنذاك أن الحكمة اليونانية تحتوي على عناصر غريبة عن الإسلام، لكنهم كانوا مقتنعين أن هذه العلوم ستساعد في ترسيخ الإيمان، كما أنهم كانوا على قناعة بأن كل معرفة إنما تنطوي على شيء قيم، وهذه الفكرة الأخيرة وجدت المسيحية صعوبة في اكتشافها يقول كلود كاهن.
ولم تكن هذه الترجمات ذات دقة علمية، حيث شابها الكثير من الأخطاء، إما بسبب غير مقصود (ضعف الترجمة) كما جرى مع تاسوعات أفلوطين التي نسبت خطأ إلى أرسطو وكتاب التفاحة وكتاب الإيضاح، أو بسبب مقصود (تلفيق الأفكار والتصورات).
يقول محمد علي أبو ريان إن مدرسة أفلوطين تفرعت إلى مدرستين: الأولى في أثينا بزعامة أبرقلس والثانية في الشام بزعامة يامبليخوس.
فر فلاسفة المدرسة الأولى إلى جنديسابور وهناك عكفوا على ترجمة التراث اليوناني إلى الفارسية، أما المدرسة الثانية فكانت من نصيب السريان، ومنهم حنين بن اسحاق وقسطا بن لوقا البعلبكي.
انعكس ذلك بشكل واضح على الفلاسفة الإسلاميين الذين تداخلت عندهم الأفكار المشائية مع الأفكار الأفلاطونية المحدثة (أفلوطين).
لم تحل هذه المشكلات إلا مع بدء الترجمة اليونانية مباشرة إلى العربية أثناء حركة الترجمة الكبيرة.
باختصار، لم يكن الواقع السياسي ـ الثقافي في العهد الأموي بحاجة إلى الترجمة العلمية ـ الفلسفية، بقدر حاجته إلى تعريب الدواوين من أجل تطوير الدولة الناشئة.
العصر العباسي
شهدت عملية ترجمة التراث اليوناني إلى العربية في العصر العباسي عدة مراحل:
1ـ زمن خلافة المنصور والمهدي والرشيد من عام 753م إلى عام 813م: ترجم كتاب إقليدس في الهندسة وكتاب طيماوس لأفلاطون، ثم ترجمة الكتب العلمية على يد يوحنا بن ماسويه.
ينقل يحيى وهيب الجبوري عن صاعد الأندلسي، ولع أبي جعفر المنصور بالعلوم:
كان يوما ممعودا، فتكلف بعلاجه الطبيب
جرجس بن جبرائيل وشفـي علـى يديه،
فطلب المنصـور منـه أن يترجم لـه كتبــا
طبيـة، ففعـل، حيث نقــل لـه كتبــا مــن
اليونانية.
في عهد المهدي خليفة ابن المنصور تمت ترجمة مقولات أرسطو إلى العربية عبر السريانية عن طريق البطريرك النسطوري طيماثاوس الأول.
استمرت عملية الترجمة زمن هارون الرشيد الذي جلب إلى بيت الحكمة في بغداد ما وجده في عمورية وأنقرة وسائر بلاد الروم.
وتقول بعض الروايات أن الرشيد كان يشترط على الأمم المغلوبة أخذ الكتب التي يرديها.
2ـ في هذه المرحلة الممتدة بين عامي 813م ـ 912م ازدهرت عملية الترجمة، خصوصا في عهد المأمون الذي تقول الروايات أنه رأى مناما شاهد فيه أرسطو، وكان هذا المنام سببا في دعم الرشيد لترجمة التراث اليوناني.
يقول ابن النديم في الفهرست:
رأى المأمون في منامه رجـلا أبيض اللون،
مشربــا بـحمرة، واســع الجبهــة، مقــرون
الحـــاجب، أجـلح الـرأس، أشهــل العينين،
حسـن الشمــائل، جـالسا علــــى سريره.
قـال المـأمون: وكـأني بين يديه قــد ملئت
لـه هيبة، فقلت مـن أنت؟ قـال أنا أرسطـا
طـاليس، فسررت بــه وقلت: أيهـا الحكيم،
هـل أسألك؟ قال: سل، قلت: ما الحسن؟
قال: ما حسن في العقل؟ قلت ثم ماذا؟
قـال: ما حسن في الشرع؟ قلت ثم ماذا؟
قـال: مـا حسن عند الجمهـور؟ قلـت: ثــم
ماذا؟ قال: ثم! لا ثم.
بطبيعة الحال، لا يمكن اعتماد الحلم سببا لدعم وتوسيع عملية الترجمة، فرؤية أرسطو في المنام لم يكن لها أن تحدث ـ إن حدثت أصلا ـ لولا انشغال المأمون المسبق بالتراث اليوناني.
لقد كان المأمون تلميذا لأحد شيوخ المعتزلة، وأطلع من خلاله على كتب الفلاسفة اليونان.
وتمت في هذه المرحلة ترجمة كتب الفلك والطب والفلسفة والمنطق وما وراء الطبيعة (المجسطي ترجم كتاب الفلك لبطليموس، وكتب أبقراط وجالينوس في الطب، وأرسطو في المنطق وما وراء الطبيعة).
وقد تكون المرة الأولى في التاريخ التي يطالب بها سلطان من سلطان آخر إعطاءه مجموعة عظيمة من الكتب، فقد عرف عن سلاطين الروم أنهم منعوا أخذ كتب الفلاسفة اليونانيين أو ترجمتها.
لقدر راسل المأمون إمبراطور الروم شخصيا وطلب منه كتب أفلاطون وأرسطو وأبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس.
يذكر صاعد الأندلسي:
تمم المأمون ما بدأ به جده المنصور، فـأقبل
علـى طلب العلم من مواضعه، واستخراجه
مـن معـادنه، بفضل همته الشريفة، وقــوة
نفسه الفـــــــاضلة، فــداخل ملــوك الـروم،
وأتحفهم بالهدايــا الخطيرة، وسـألهم صلته
بما لديهم من كتب الفـلاسفة، فبعثــوا إليه
بمـا حضرهـم مـن كتب أفـلاطون وأرسطـو
طــاليس وأبقـراط وجــالينـوس وإقليـــدس
وبطليموس.
3ـ استمرت المرحلة الثالثة من عملية الترجمة بين عامي 300 هـ ـ 350 هـ، واستمرت في هذه المرحلة ترجمة كتب أرسطو، واشتهر من المترجمين أبو بشر متى بن يونس وأبو سليمان السجستاني.
وفي زمن المأمون تحولت بيت الحكمة إلى مؤسسة علمية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فأصبح لديها خزانة كتب ضخمة ومراصد فلكية ونساخون ومترجمون مهرة.
الدور العربي
لم يأخذ المسلمين كامل التراث القديم، لأن جزء من هذا الترث كان قد تم نقله في المدارس القديمة، كمدرسة الإسكندرية، وكانت شعوب الشرق قبل الإسلام، قد ترجمت إلى لغاتها (السريانية، الفارسية) بعض كتب القدماء، واستمرت عملية الترجمة هذه حتى بعد الإسلام جنبا إلى جنب مع الترجمة إلى العربية.
وكانت هذه الترجمات هي نفسها التي يترجمها مترجمون جدد إلى العربية، لأن المعرفة بالسريانية كانت شائعة آنذاك، ولم يتم الرجوع إلى المؤلفات الإغريقية
إلا في مرحلة لاحقة.
لم يكن العرب مجرد ناقلين وشارحين للتراث اليوناني فحسب، بل أثر هذا التراث في نشوء الفكر الفلسفي الإسلامي، وفي الإنتاج المعرفي بشكل عام، سواء في اللغة أو في علم الكلام أو في الفلسفة أو في الفلك.
ويذهب ديمتري غوتاس إلى أن عملية الترجمة في العصر العباسي تحديدا جاءت بسبب حاجات هذا العصر على ما تنعكس في بنيته وأيديولوجيته المترتبة على ذلك.
ومن الصعب تفسير عملية الترجمة على أساس النظريتين السائدتين:
الأولى، أن حركة الترجمة كانت نتيجة حماسة علمية لدى نفر من المسيحيين الناطقين باليونانية.
الثانية، تشجيع الحكام المتنورين لعملية الترجمة.
يذكر أنه في الفلسفة الإسلامية برزت 3 أسماء كتبت وشرحت في هذا العلم هي ابن سينا والغزالي و ابن رشد.