لا شك في أن الدول الكبرى وغيرها تتسابق الآن إلى اكتشاف علاجات لأجل القضاء أو الحد من تفاقم جائحة
كورونا التي اجتاحت دول العالم تباعا، نظرا لما خلفته وتخلفه من ضحايا بشكل متسارع بلغ تقريبا 24 ألف وفاة ليوم 26 آذار/ مارس وإصابة أكثر من نصف مليون إنسان، وأخذت الدول تتخذ إجراءات عديدة لمواجهته.
لقد آل الخطر على
المجتمع الدولي وبدأ التحول من انفتاح العولمة إلى الانغلاق القطري. فمع إغلاق الحدود ومنع السفر والطيران وحظر التجوال وغيرها، باتت الدول تواجه الفيروس وحدها وبإمكانياتها الصحية المختلفة، مما حدا بالأمين العالم للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريس للقول إن البشرية تواجه خطرا يهدد وجودها.
وتتسابق الدول فيما بينها لإبراز قدرتها على مواجهة الفيروس، متخذة من الإعلام وسيلة لإيصال تصريحات مسؤوليها عبر شاشات التلفزة، بأنها تحقق الظفر بإيجاد لقاح أو علاج لفيروس كورونا (كوفيد-19)، وتنتهز هذه الفرص لتعزيز مكانتها الدولية بالظهور بمظهر الدولة التي تحمي وتحافظ على حياة البشرية. لقد أفرزت أزمة فيروس كورونا فارقا شاسعا بين التقدم العلمي والاستثمار الاقتصادي في جوانب بعيدة عن الاهتمام بالعلوم الطبية، وإيجاد العلاجات الناجعة لأغلب الأمراض والفيروسات التي اجتاحب البشرية خلال العقود الماضية. الطاعون أواخر القرن التاسع عشر، وسارس عام 2003، والحمى الإسبانية التي راح ضحيتها ملايين المواطنين.
فأمراض مثل الإيدز "فقد المناعة البشرية" (HIV/AIDS) والسرطان (Cancer) ما زالت الأبحاث لم تتوصل إلى علاجات تقضي عليها، بل وجدت علاجات تخفف الأعراض، لكنها لا توفر علاجا شافيا في أغلبية الآلام المزمنة.
وبدل أن تتوجه الدول للتعاون، اتجهت للتنافس ودخلت في حروب ونزاعات بسبب تضارب مصالحها القومية، وهنا تبرز أهمية التعاون بين الدول لأن فيروس كورونا لم يميز بين الدول العظمى في مجلس الأمن (الولايات المتحدة الأمريكية والصين وبريطانيا وفرنسا وروسيا) والدول القوية (إيطاليا وإسبانيا وكندا، وألمانيا.. إلخ) والدول الضعيفة في بلدان العالم الثالث.
لقد حث ميثاق الأمم المتحدة على التعاون ما بين الدول الأعضاء؛ فقد جاء في (المادة 1) الفقرة 3 من الميثاق على "تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا، والتشجيع على ذلك إطلاقا بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء".
كما جاء تأكيد هذه المادة في نص الفقرة "ب" من المادة 13 أولا، "إنماء التعاون الدولي في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية، والإعانة على تحقيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة، بلا تمييز بينهم في الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء". والتعاون هنا في مجال مهم ألا وهو الصحة، وأفرز عنها وكالات ومنظمات متخصصة تابعة للأمم المتحدة مهمتها التعاون الدولي في المجال الصحي، منها منظمة الصحة العالمية.
وفي الفصل التاسع المخصص للتعاون الاقتصادي والاجتماعي، جاء في المادة 55 الفقرة (ب) النص على تيسير الحلول للمشاكل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية وما يتصل بها، وتعزيز التعاون الدولي في أمور الثقافة والتعليم.
كما حث مجلس التعاون الاقتصادي والاجتماعي في المادة 62 من الفصل العاشر من الميثاق على القيام بدراسات ووضع تقارير في المسائل الدولية، ومنها الصحة والتنسيق مع الوكالات الدولية المتخصصة في تطبيق مبادئ الأمم المتحدة وأهدافها.
إلا أن الدول ركزت اقتصادها عبر الاستثمارات في الطاقة وصناعة الأسلحة بمختلف أنواعها النووية منها والبيولوجية، بهدف التفوق العالمي والهيمنة على مناطق النفوذ المهمة. لقد فشل النظام الدولي ومعه منظمة الصحة العالمية على مدار شهر في احتواء فيروس كورونا، رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها المنظمة للتقليل من الخسائر البشرية في مواجهة أزمة فيروس كورونا.
فقد أشار المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في مؤتمره الصحفي بتاريخ 25 آذار/ مارس الحالي؛ إلى أن هناك فرصة لمنع الانتقال المجتمعي المحلي، وتفادي التكاليف الاقتصادية والاجتماعية الأفدح التي اضطرت بلدان أخرى إلى تكبدها. فالبلدان الأضعف قد تنهار نُظمها الصحية تحت وطأة الأعداد الهائلة من المرضى التي شاهدناها في بعض البلدان، التي تشهد انتقالا محليا للعدوى.
هناك دول تضررت جراء هذا الوباء اقتصاديا واجتماعيا، لما خلفه من آثار على اقتصادها وبنيتها الاجتماعية. فقد نبه الكثير من الاقتصاديين إلى أن هذا الفيروس قد تكون عواقبه أكبر من الأزمات السابقة، كالأزمة الاقتصادية (الكساد الكبير Great Depression) سنة 1929، أو الأزمة المالية العالمية سنة 2008. كما جاء في تحذير المديرة العامة لصندوق النقد الولي كريستالينا جورجيافا، خلال مؤتمر لمجموعة العشرين عبر الهاتف، الاثنين (23 آذار/ مارس)، أن الانكماش العالمي جراء فيروس كورونا المستجد، قد يكون أسوأ مما كان عليه بعد الأزمة المالية عام 2008.
لقد أفرزت الأحداث عودة الاهتمام والاعتبار لمكانة الدولة وضرورة الاكتفاء الذاتي لها اقتصاديا في قطاعات الصناعة والزراعة وغيرها، والعمل على تنويع مصادر دخلها، والاهتمام بالتنمية المستدامة، وتطوير التعليم في الجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث، وبناء المستشفيات والمراكز الصحية في جميع مدنها، ترافقها تغييرات في سياساتها الداخلية.
وبعض الدول قامت بإطلاق سراح السجناء لديها خوفا من العواقب الوخيمة على أرواحهم، جراء اكتظاظ السجون بهم دون رعاية صحية مناسبة، كبادرة إنسانية ملحة، ودول وزعت حصص غذائية للعوائل ذات الدخل المحدود، وتقديم معونات مالية للعوائل المعوزة في ظل طروف الحجر المنزلي.
كما أفرزت الأزمة
التضامن الاجتماعي بين الدول من خلال إرسال المساعدات للدول المتضررة، مثل إرسال الصين معونات طبية وعينية للدول المتضررة، كذلك قيام كوبا بإرسال أطباء وممرضين إلى إيطاليا، وسبقتها روسيا وبعض الدول كنوع من التعاون والتضامن في ما بينها، وقُدمت تبرعات من بعض الشخصيات القيادية والرياضية ورجال الأعمال والشركات المساهمة، لدعم جهود مكافحة فيروس كورونا والتقليل من الخسائر الكبيرة التي سببها.
فهل نحن مقبلون على تغيرات في النظام الدولي جراء فيروس كورونا؟ البعض من فقهاء وأساتذة القانون الدولي وعلم السياسة يقولون إن الوقت ما زال مبكرا للحكم على المتغيرات التي سوف تطرأ على النظام الدولي، والبعض يقول بأنه أخذ بالتحول لصالح الدول التي سوف تنجح في كبح وباء كورونا، الذي هو سبب من الأسباب وليس كنتيجة. فمن الذي يتبوأ النظام الدولي القادم؟ هذا ما سوف تكشفه الأحداث القادمة.