تعيد جائحة "كورونا" ترتيب الأسئلة من جديد، وتفحص تصوّراتنا التي راكمناها في العقود الأخيرة كلّها. وبالرغم من محاولاتنا المرّة والدؤوبة لتثبيت تصوّرات جديدة تتسم بالثّقة، إلا أنّ غياب اليقين هو سيد الموقف. فكما كان غياب اليقين يطبع التحوّلات السياسية في منطقتنا العربية مرورا بالإقليم وصولا إلى ذروة العالم سابقا، فإنّ غيابه هو أصدق الحاضرين بين حروفنا المرتجفة والمتردّدة اليوم ونحن نتداول أمر هذه الجائحة.
ذلك بمعزل عمّا يقال عن شكل العالم بعد "كورونا"، ولكنّه عن شكل العالم اليوم مع "كورونا". فالصين، القوة الاقتصاديّة الصاعدة، التي طالما بشّر كثيرون بإمكانية إزاحتها الغرب عن موقع قيادة البشرية، ينقسم الناس إزاءها إلى فرقاء، منهم المعجب بقدرتها على احتواء الفيروس، وبالاستناد إلى دعايتها فحسب، ومنهم من لا ينسى لها أن العدوّ الغامض ظهر في أرضها أوّلا، وتكتّمت عليه فترة، حتّى اجتاح بغموضه البشريّة كلّها.
حال الغرب، بشقّيه الأوروبي والأمريكي، لا يبدو أحسن، ليس لأنّ الناس تتصيّد الفرص لإثبات وجهات نظرها السياسية والأيديولوجية فحسب، ولا لأنّها، في عزّ عجزها واستعصاء تحوّل التاريخ؛ لا تنفكّ عن التمسك بحبال الدخان، وإنّما لأنّ جائحة كهذه؛ حقّها أن تدفعنا لإعادة النظر، فيما قيل عنه قمّة الإمكان البشري في التدبير، حتّى هؤلاء الذين يكرهون الغرب يعتقدون فيه، فيما يُسمّى بـ"نظرية المؤامرة"، التدبير المحكم الذي يدير العالم كلّه، ونفاة تلك النظرية لا يبتعدون عنها كثيرا، فهذا الغرب عندهم في غاية من التقدّم، على الأقل في ما أبدعه من نظم سياسيّة واقتصاديّة، وفي ما بلغه من تطوّر علميّ، ورفاهية معيشية، وأنظمة صحيّة.
تلكأ الغرب كثيرا في الاستعداد للجائحة، وفي حين يُرجِعُ البعض ذلك لما يسمّونه بالداروينية الاجتماعية، التي ستحافظ على وتيرة معقولة لخطوط الاقتصاد، وتُكسِب الشعب مناعة طبيعية، مع التخلّص من عبء رعاية كبار السنّ، فإنّه من المحتمل أنّ الأنظمة الغربيّة لم تكن مستعدة بالمعرفة الكافية للتعاطي مع هذا الفيروس.
هذا التلكؤ والتردّد، واختلاف نماذج التعاطي مع الفيروس، بالتأكيد أضرّ ببقية شعوب العالم، ليس فقط لأنّه حوّل البلدان الغربيّة إلى مصدّر للمرض، وبؤرة أخرى للجائحة، ولكن أيضا لأنّ ثقّة البشر بالنماذج الغربيّة، أربكت الخطط البشريّة، وصارت النماذج الغربية جزءا من حجج المتشكّكين في خطر الفايروس، والداعين لعدم الاستعجال في إجراءات العزل الجماعي للسكّان، وهو أمر لم يتوقّف بالرغم من دخول أكثر العالم الآن في العزل الجماعي، لاعتقاد سائد بأنّ الأنظمة المختلفة في العالم، تعيد بسط نفوذها وهيبتها واحترامها من خلال إجراءات العزل الجماعي!
وبصرف النظر عن أسباب التردّد والتأخّر الأوروبي، وكذا الأمريكي، في الاحتراز من الفيروس، فإنّ انهيار منظومات بعض البلاد الأوروبيّة الصحيّة، أو عجزها عن استيعاب الأزمة بكلّ معطياتها، لا يتركّ مجالا للاختلاف في عجز ذروة التفوّق البشري المادي، في توقّع أزمة كهذه، ثمّ في التعاطي معها. ولا ينبغي أن يغيب عن الاعتبار هنا، أنّ من أسباب هذا الفشل، لا غياب التوقع فحسب، بل والأنظمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، التي تجعل السوق والربح هو مدار المنظومة بأبعادها المتعدّدة. فما هو غير مربح؛ يخرج تماما من الحسابات، والاستعداد بمخزون كافٍ من الأقنعة الطبيّة والأسرّة في المستشفيات وأجهزة التنفس الصناعي وأجهزة الكشف عن الفيروسات، هو عملية غير مربحة، تعيد التعبير عن نفسها، حين الأزمة، بالسطو والسرقة، كما حصل في عدد من الشحنات التي اتجهت إلى دول، وسطت عليها دول أوروبية أخرى!
لسنا بصدد الحديث عن أخلاق الفزع، المتردّية على مستوى الدول والأفراد، ولكن عن النموذج الفتّان نفسه، الذي يفقد سحره وبريقه الآن، بالرغم من أنّ العالم لن يخلو ممّن يتمسّك في أطروحاته بقشرة الإنجاز الغربي، دون النظر إلى جوهره من حيث القصور الأخلاقي الذي يمنح الأولوية للسوق بقيمه التي فتنت البشريّة، ومن حيث القصور المادي. فالدعاية التي تسيّد العالم باسمها أقلّ من القدرات الحقيقية، وحتّى حينما ننظر إلى قصور بقيّة العالم اليوم، فإنّه غير منفكّ عن التاريخ الاستعماري للغرب، بقيمه التي تراوحت بين السيطرة على الوجود، والتلذّذ به، مما قدّم تفاهات غرائزيّة اجتاحت العالم، على حساب ضرورات الإنسان المنهوب!
ولنتخيّل الآن لو كانت هذه الجائحة أشدّ فتكا وأسرع انتشارا، لنتصوّر حجم الانهيار الآدمي، وبدايات فنائه المروّعة، ومع ذلك وبهذا المستوى من الفتك المحدود والانتشار السريع، ولو كان الأمر متوقّعا، فهل يمكن الاستعداد له بتجهيزات تنتظر عشرات ملايين المصابين الذين يحتاجون عناية سريرية دون أن تتعطل عمليات النظام الصحي اليومية الاعتياديّة؟! نتساءل هذا التساؤل لنوسّع من دائرة الإدانة، حتّى لا تقتصر على العجز الغربي، الذي قصدناه بالحديث أولا، لأنّه النموذج المُقدَّم في العالم كلّه!
إنّ الثروات الهائلة التي راكمها البشر، والقدرات العلميّة التي فاقت الخيال نفسه، وأنظمة التدبير السياسي والاجتماعي التي قيل إنّها ذروة الممكن ونهاية التاريخ.. مرتبكة للغاية أمام فيروس صغير شلّ البشرية، التي لم تجد لها بدّا من قطع قدميها والانحباس عن الحركة مؤقّتا في إعلان عمليّ عن قصور الإنسان، واستحالة بلوغه تدبيرا كاملا لاجتماعه وعلاقاته وأنظمته، وهو أمر يدعو للاستمرار في تطوير التدبير، وتجاوز الأنظمة القائمة، ولكن بتواضع وإدراك لضعفنا، وتغيير للقيم الماديّة التي حطّت من الإنسان وكرامته، وإن زيّنت ذلك بلبوس مخاتل يظهر العكس ويُبطن الاحتقار للجنس الآدمي!
قد تسقط هذه الأنظمة إذا لم تتواضع، ولم تعترف بقدرتها المحدودة وحاجتها إلى التكاتف أمام هذا المخلوق الضعيف، وواصلت التنافس فيما بينها لإظهار نجاحاتها البسيطة المؤقتة، حتى يخيل لسامع تصريحات مسؤوليها أنها تقول "من أشد منا قوة". وعلى الشعوب أن تدرك هزال هذه الأنظمة، وألا تحميها لأنها لم تفكر في حياة الشعوب إلا بعد أن حاق بها وبمصالحها الخطر، وأن تستعد لسقوطها، بل أن تسعى لعزلها بمقاطعتها والانعزال عنها، وأن تتبع أسلوبا مختلفا عن الأسلوب الحالي الذي يصنع استبدادا مغلفا بصناديق الانتخابات وتعدد الأحزاب، ويضيع أصوات الشعب، حتى يقبل الناخب بقاء عاجز ووصول سيئ حتى لا يصل خصمه أو من هو أسوأ منه أو تحصل فوضى، فلا يختار مرشحا يقتنع به وببرنامجه، بل يعتمد على استطلاعات الآراء، ويختار من يبدو أكثر شعبية وقدرة على إقصاء الخصم.
مالك طه
الأربعاء، 25-03-202010:52 ص
أحسنت أيها الكاتب، تضع إصبعك على جراح بمهارة الطبيب الجراح