داهم "فيروس
كورونا" العالم وهو غارق في صراعاته وتناقضاته، ومن المؤكّد لسرعة انتشار هذا
الفيروس واقتراب إحاطته بالوجود البشري حيثما كان، ومن ثمّ (لو طال أمده) آثاره
المتوقعة على الاقتصاد العالمي. وفي كلّ الأحوال، النتوءات التي تركها على الوجود
البشري الهشّ، وعلى صورة القوى العظمى في هذا العالم، من المؤكّد أن تساهم في
إعادة تشكيل الصراعات والتناقضات في العالم.
لا يمكن للوجود
الإنساني أن ينفكّ عن الصراع، الذي سمّاه القرآن "التدافع"، ومن
المفارقات أن يُدخِل الفيروس أبعادا جديدة في الصراع، في الوقت الذي تجد فيه
البشرية
نفسها مهدّدة من عدوّ واحد. هو هذا الفيروس ذاته، الذي ستحتويه البشرية بعد وقت
غير طويل، وسيصبح فيما يأتي من الزمان من الأمراض التي تُذكر دون أن تحدث أيّ خوف
يُذكر، ولكنه دليل ماديّ على الأعداء الذين يستهدفون البشريّة برمّتها، وتجد نفسها
مضطرة لنوع من الوحدة في مواجهتها، فاحتمالات ظهور أمراض جديدة سريعة الانتشار
وفتّاكة قائمة دائما، وكذا مخاطر أخرى مخفية في غيوب الزمان.
الإنسان بطبعه
ضعيف الاعتبار، وهو على ضعفه شديد الغرور. وقد اجتاحت البشرية في أعمارها المديدة
أوهام أسكرتها بإمكانية التخلّي عن الإيمان، لصالح قدرة الإنسان على التحكّم في
الوجود، ثمّ ما كانت تلبثُ تلك الأوهام حتّى تتراجع لصالح الحقيقة التي تقول إنّ هذا الوجود أكثر تعقيدا من أن تفكّكه، فضلا عن أن
تسيطر عليه معارف البشر المتنامية، وقدراتهم العلمية، ثم يعود الإنسان بنفسه يبحث
عن الأوهام التي تمدّ غروره، وتصنيمه لذاته، بالحياة وسبل البقاء، ولعل النسيان
مما يجعل شحوب الاعتبار أسهل دائما.
لا يقلّ
الاجتماع الإنساني تعقيدا عمّا هو عليه الكون الماديّ المنظور، وبقدر ما تتكاثر
العوامل المؤثرّة في البنية الماديّة للكون، هي كذلك متكاثرة ومتداخلة ومتضافرة
بالنسبة للاجتماع الإنساني والبشر متداخلون، بما يجعل مصيرهم متلاحما، وقضيتهم
واحدة، وعدوّهم واحدا، رغم كلّ هذا الصراع الذي يحكم وجودهم، فصراعهم من تلك
القضيّة الواحدة التي تتحكّم في مآلاتهم.
يؤكّد القرآن
على أنّ أتباع الأنبياء، هم أمّة واحدة، وذلك بالرغم من اختلاف أقوامهم، وتباعد
أزمنتهم، وتعدّد أماكنهم، ويجلّي هذا المعنى النبي، صلّى الله عليه وسلم، بقوله:
"إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة
من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا
اللبنة وأنا خاتم النبيين".
كان الأنبياء،
بمن كان معهم، يشقّون التاريخ طريقا للدفق البشري، في صراعهم المرير مع الشرور
المنبثّة في العالم، للوصول بالمسيرة الإنسانية إلى المنعطف الذي تنتقل منه إلى
الاستقلال بنفسها، بالاهتداء بالوحي دون تدخّل نبويّ مباشر. كانت تلك اللحظة هي
لحظة محمّد صلّى الله عليه وسلم، الذي جمع بين ختم النبوات والرسالات، وبين أنّ
رسالته شاملة للبشريّة كلّها، وهكذا تصبّ أنهر الأنبياء في بحره، في تعبير عن وحدة
وظيفة الأنبياء، وعن وحدة قضيّة البشريّة، في مواجهة عدوّها الواحد، الذي يدركه
بعضها، ويجهله أكثرها، "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّا".
إنّ كلّ مراغمة
للشيطان، مهما بدت صغيرة، هي قطرة تصبّ في خير البشرية، مهما اتّسعت هذه البشرية
وتوزّعت. وإنّ كلّ شرّ يقترفه الإنسان يتجاوز حيّزه الصغير لتتأذّى به البشريّة
كلّها، ولعل في التداخل بين الوجود الإنساني والوجود الكوني ما يعدّي شرّ الإنسان
إلى سوى جنسه (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ). وفي الحديث: "والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب"،
وهذا الإدراك يحول بين المرء والإحساس بالعجز. فالقيام بالواجب، وإن كان في أصله
ينهض على مجرد الاستجابة للأمر الإلهي بالخير، إلا أنّه مؤثّر في الحقيقة، ولو كان
تأثيره غير مرصود، ولكنه عنصر من جملة آلاف العناصر التي تصبّ في خير البشرية،
فكان ينبغي على المرء ألا يحقر من المعروف شيئا.
يتمركز الفعل
الشيطاني في التحريش بين الناس، وفي تغيير الفطرة الآدمية. والعلاقة بين الفعلين
تبادليّة، فالتحريش بين الناس، يعني ظلمهم بعضهم لبعض، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان
هو حطّ من الكرامة الآدميّة، فأنزل الله مع الرسل الميزان ليقوم الناس بالقسط؛
الميزان الذي يُشكّل معيارا للفطرة الآدمية، ومرجعا لعلاقات الناس.
إنّ البشرية
اليوم وهي تعيش معركة واحدة ضدّ فيروس كورونا، ويبدو كلّ فعل في مواجهته، أو في
الاستهتار به، مؤثّرا على مستوى وجودها الشامل، فإنّها من قبل وإلى خاتمتها، تواجه
في الحقيقة عدوّا واحدا، يحرّش بينها، ويغيّر في فطرتها. وفي هذه المعركة التي
يغفل أكثرها عنها، لا يوجد عمل قليل أو غيّر مؤثّر. وفي حين قد تتواجه تكتّلات كبرى للخير والشرّ، فإنّ أفعال الأفراد الصغيرة في صراع
مفتوح، يدفع فيه عملُ خير عملَ شرّ وإن لم يتواجها أمام العين الناظرة. وإنّ فزع
البشرية أمام ما تسفره الغيوب من بعض خفاياها، يكشف زيف غرورها، وحاجتها لذلك
الميزان الذي تناقلته عبر الرسل، واستقرّ في الوحي الخاتم.