هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
انشغل العالم طوال الشهور الثلاث الماضية بأخبار انتشار مرض «كوفيد 19» المشهور بفيروس كورونا، الذي تسارعت معدلات الإصابة به لتتجاوز مائة وخمسين ألف شخص، وقضى نحبه بسببه أكثر من خمسة آلاف وستمائة شخص، غالبيتهم الساحقة في الصين، كما انشغلنا نحن به في مصر، واضطرت الحكومة إلى وقف التدريس بكل المدارس والجامعات لمدة أسبوعين، وقاية من أخطاره التي امتدت من الصين وإيران وكوريا الجنوبية إلى إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، التي اتخذت كلها إجراءات متشددة لوقف انتشاره، خصوصا بعد أن أصبحت القارة الأوروبية هي بؤرة انتشاره الجديدة. وامتد إلى الوطن العربي وإلى إسرائيل، كما انشغل الرأي العام المصري أيضا بما أطلق عليه اسم «عاصفة التنين»، التي نجمت حسب علماء الأرصاد من التقاء منخفضين جويين في جنوب شرق البحر المتوسط، أحدهما جاء قبل موعده، وجاء الثاني متأخرا، وواجهته الحكومة بمطالبة المواطنين التزام منازلهم ثلاثة أيام، ومع أنهم لبوا نداءها حذرا، إلا أن عشرين مواطنا لقوا حتفهم بسبب موجة الأمطار الغزيرة التي ضربت البلاد، وخصوصا يوم الخميس، اليوم الأول لوصول العاصفة المخيفة إلى أجواء مصر، وعلى الرغم من عدم صحة هذا التفسير، إلا أن البعض ربط بين هذه العاصفة التي لم تشهد مصر مثيلا لها منذ ثلاثة أو أربعة عقود، وظاهرة تغير المناخ.
آثار فيروس كوفيد 19 لم تقتصر على صحة وفرص الحياة لعشرات الآلاف من البشر، ولكنها ضربت الاقتصاد العالمي، بوقف السفر بين الدول وداخلها، وانهيار قطاع السياحة في الدول التي انتشر فيها هذا المرض، أو خوفا منه في دول أخرى، واضطربت شبكات العرض العالمية في إطار امتداد حلقات الإنتاج إلى دول عديدة، وانهارت أسعار النفط إلى قرابة نصفها، وهبطت أسعار الأسهم في أسواق المال العالمية إلى حد يهدد بدخول العالم في موجة كساد جديدة، ربما تفوق ما عرفه منذ أزمة الكساد الكبير التي بدأت في بورصة نيويورك في يوم جمعة في سنة 1929، ولم يتعاف العالم منها إلا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. وأصبح فيروس كورونا موضوعا للاهتمام على مستوى التنظيم الدولي، ولكن توارى في التصدى له الفرع السياسي الرئيسي لهذا التنظيم، وبرزت الوكالات المتخصصة التي تهتم بالجانب الوظيفي أو التقني لهذا التنظيم، وفي هذه الحالة تحديدا منظمة الصحة العالمية، التي أصبح رئيسها الإثيوبي تيدروس أدهانوم وجها مألوفا على شاشات التلفزيون في كل أنحاء العالم، كما تصدت لموضوع تغير المناخ كل من منظمة الأرصاد العالمية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.
الأبعاد غير العسكرية للأمن القومي
ماذا يعني ذلك كله بالنسبة للأمن القومي الذى يحمله عنوان هذا المقال؟ لا شك أنه إذا كانت تهديدات الأمن القومي تترجم في نهاية المطاف باحتمال تعرض حياة المواطنين للخطر، فإن انتشار الأوبئة على صعيد العالم قد أدى في الماضي إلى مصرع مئات بل وعشرات الملايين من البشر، وحتى قبل أن يعرف العالم ظاهرة العولمة، كما أن شيوع البطالة والفقر في أعقاب الأزمات الاقتصادية، يرفع بالتأكيد من احتمالات الوفاة المبكرة، كما أن هذه الأزمات تولد أسبابا لعدم الاستقرار الداخلي وزيادة التوتر بين الدول، وهو تحديدا ما أدت إليه الأزمة الاقتصادية العالمية في العقد الثالث من القرن الماضي، التي كانت سببا قويا في وصول الحركة النازية للحكم في ألمانيا، وانتشار أفكارها المتطرفة في عدد من الدول الأوروبية، ثم انخراطها في مغامرات عسكرية انتهت بنشوب الحرب العالمية الثانية، التي لقي فيها عشرات الملايين من البشر حتفهم. ولذلك فقد أدرك علماء الاستراتيجية منذ عقود، أن الأمن القومي لا يتهدد فقط بالنزاعات المسلحة أو بالثورات، ولكن له أيضا أسباب غير عسكرية، وأشاروا إلى أن الأمن القومي ليس فقط أمن نظم الحكم أو حتى أمن حدود الدول، ولكنه أيضا أمن المجتمع، وتوسع بعضهم ليدعو إلى أن يكون مفهوم الأمن الصحيح الذي ينبغى أن يكون موضع الاهتمام من جانب الحكومات والباحثين هو أمن الإنسان، باعتبار أن تحرر البشر من الخوف ومن الجوع هو أمر مهم فى حد ذاته، وكذلك لأن افتقاد أمن الإنسان يؤدي فى النهاية إلى تقويض الأمن الوطنى، وفي حالة الوطن العربي، فقد حدد تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ثمانية مصادر لتهديد أمن الإنسان في الوطن العربي، ثلاثة منها تقترن بالاستخدام المباشر للعنف، مثل الاحتلال الأجنبى، والأساليب القمعية التي تعتمدها الحكومات طريقا للحكم، والنزاعات الإثنية، وخمسة منها تهدد بقاء البشر على نحو غير مباشر، مثل البعد عن التعامل الرشيد مع الأوضاع البيئية، والبطالة والفقر، وانتشار الجوع، وافتقاد الرعاية الصحية، والحرمان من الأمن الشخصي بسبب الجريمة والقيود الاجتماعية.
وإذا كان البعد العسكرى بصوره الثلاثة ما زال قائما كمصدر لتهديد أمن الإنسان في الوطن العربي، فإنه يشترك مع بقية دول العالم في بروز التهديدات غير العسكرية لأمن من يعيشون على أرضه، هو يعاني من هشاشة الأوضاع البيئية الناجمة عن ارتفاع درجات الحرارة، والتغير المناخي، والفقر المائي، والتصحر، وانخفاض التنوع الحيوي، وارتفاع معدلات تلوث المياه والهواء والتربة. طبعا تتفاوت خطورة هذه التهديدات من دولة لأخرى، ونحن في مصر نعاني منها كلها، نحن قد دخلنا منذ سنوات مرحلة الفقر المائي الذى هو حال كل الدول التي يقل فيها نصيب الفرد عن 1000 متر مكعب سنويا، فلا يتجاوز هذا المعدل فى مصر 700 متر، بل إنه حتى لو تصورنا نجاحنا في تأمين حصولنا على نصيبنا الحالي من مياه النيل وهو 55 مليار متر مكعب سنويا، فهذا لا يخرجنا في الوقت الحاضر عن تحديات الفقر المائي، الذي لابد أن يتضاعف عندما يصل عدد السكان إلى 120 مليونا، في أقل من عقد من الزمان إذا استمرت معدلات الزيادة الحالية، وفضلا على ذلك فآثار ارتفاع درجات الحرارة فى البحار والمحيطات لا يقتصر على ذوبان الثلوج في القطبين الشمالي والجنوبي، ولكن بعض سيناريوهات التغيرات الناجمة عن ذلك تشير إلى احتمال غرق مساحات واسعة من الدلتا، بما يترتب عليه من هجرة ستة ملايين من البشر، وانخفاض الإنتاج الزراعي، وتعرضهم للبطالة والفقر، وتدهور مستوياتهم الصحية، وزيادة التوتر بينهم وبين سكان المناطق التي سيهاجرون إليها. وعلينا أن نتصور أيضا أن آفاق تغير المناخ تعني تحول بعض الأقاليم الجافة إلى أقاليم مطيرة، وتحول الأقاليم المطيرة إلى أقاليم جافة. سوف نعاني في الحالتين. مرافقنا الأساسية لم تبل بلاء حسنا أمام موجة أمطار متوسطة كما شهدنا منذ أيام، فما بالنا عندما نتعرض وعلى فترات طويلة، لمستويات من الأمطار تقترب مما تعرفه مناطق استوائية؟ وهل نتحمل ارتفاع درجات الحرارة على مدى العام لما يقرب من 40 درجة مئوية؟ وهل سنتمكن في ظل هذه الأوضاع من خفض معدلات الفقر الذي يصل فى الوقت الحاضر إلى ثلث السكان؟ وهل سيستمر الفقراء في بلدنا على صبرهم الجميل، ويتحملون بشجاعة أو باستسلام الأوضاع غير الإنسانية التي يعيشون في ظلها في الوقت الحاضر، والتي لا بد أن تتفاقم، إذا لم ننتبه من الآن لخطورة هذه التحديات على أمن الإنسان، وبكل تأكيد أيضا على أمن الوطن.
مؤسسات الدولة والمفهوم الواسع للأمن القومي:
في كل الحالات، تقتضي المواجهة الناجحة لهذه التهديدات غير العسكرية للأمن القومي تبني مؤسسات الدولة لهذا المفهوم، والابتعاد عن تركيز الجهد على محاربة طواحين الهواء التي يتوهمها البعض تحت دعوى الشائعات المضادة وحروب الجيل الثالث والرابع التي لا نسمع عنها في مراكز الأبحاث الدولية الجادة. طبعا هذا لا يعني أن التهديدات ذات الطابع العسكرى قد انتهت سواء كان مصدر هذه التهديدات هو الشرق أو الغرب أو الجنوب، أو أنه لا قيمة للتنبه لخطر الجماعات الإرهابية، أو لأهمية اتباع الحكومة للمعايير الصحيحة لحقوق الإنسان التي تلتزم بها أمام المجتمع العالمي، وتعلن أمامه أنها تحترمها. ولكن إدراك هذا المفهوم الواسع لتهديدات الأمن القومي يقتضى منها رسم الخطط وتحديد المؤسسات التي يقع على عاتقها دراسة هذه التحديات، وتنبيه الدولة مبكرا لتبعاتها، والمشاركة في وضع خطط التصدى لها.
وفى هذا السياق، يصبح من الضرورى إدراك أن مراكز البحث العلمي فى الجامعات وخارجها، هي المسؤولة أولا عن استكشاف تفاصيل هذه التحديات الجديدة، ووضع الخطوط العريضة لقيام مؤسسات الدولة بالأدوار المنوطة بها في ظل هذه الخطوط، للوقاية من الآثار المحتملة لهذه التحديات والاستعداد المبكر لمواجهتها، ولن يقدر لهذه المراكز النجاح إلا إذا أدركت كل قيادات الدولة أنه لا سبيل لإدارة الدولة في ظل هذه الأوضاع إلا بالعلم، وإلا بأن تكون مؤسسات العلم المصرية في مقدمة المشاركين في وضع السياسات، بعد أن تتوافر لها الموارد الكافية وتحظى بالاستقلال في إدارة شؤونها، وينهض على إدارتها من هم جديرون بذلك على أساس علمهم وخبراتهم الإدارية.
وبطبيعة الحال، هذا لا يمكن أن يقلل من أهمية دور القوات المسلحة ومراكزها البحثية، ولا من ضرورة أجهزة الأمن، ولكنه يوزع المهام بينها ومؤسسات الدولة الأخرى على أساس من التخصص وتقسيم العمل، الذي يعزز من كفاءتها جميعا ويخدم المصلحة الوطنية على أحسن وجه.
عن صحيفة "الشروق" المصرية