لازال سؤال النهضة العربية والإسلامية يؤرق النخب السياسية والفكرية على حد سواء.. ولئن سعى مفكرو النهضة العربية مطلع القرن الماضي للجواب عن سؤال شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وقدموا أطروحات متعددة ومتنوعة حاول السياسيون ترجمتها على مدى عقود الاستقلال، لكن كل ذلك كان بلا جدوى على أرض الواقع.
وقد عاد الحلم ليظهر مجددا منذ نهاية العام 2010، عندما تمكن التونسيون ومن خلال ثورة شعبية من إسقاط نظام استبدادي دام ثلاثا وعشرين سنة، وهي ثورات امتدت لتشمل غالبية الدول العربية معلنة عن ميلاد عهد سياسي عربي جديد يطمح لتأسيس نموذج ديمقراطي جوهره حرية الإنسان وكرامته وحقه في تقرير مصيره.
لكن هذه الثورات، وإن اختلفت الآراء والتصورات حولها، لم تفلح هي الأخرى في التأسيس لنهضة عربية وإسلامية حقيقية، بل إن كثيرا من دول العالم العربي والإسلامي غرقت في فوضى عارمة لم تخرج منها بعد.
أبو يعرب المرزوقي فيلسوف عربي تونسي، متخصص في الفلسفة العربية واليونانية والألمانية، وله توجه فلسفي إسلامي في إطار وحدة الفكر الإنساني تاريخيا وبنيويا، انخرط في العمل السياسي ضمن المجلس الوطني التأسيسي في تونس عن حركة "النهضة" نهاية العام 2011 لكنه سرعان ما استقال واعتزل العمل السياسي لصالح الاستمرار في مهمته الفلسفية.
أبو يعرب المرزوقي يحاول في سلسلة مقالات تنشرها "عربي21"، البحث في أسباب تعثر النهضة العربية والإسلامية، على الرغم من كل التحولات السياسية التي عرفها العالم بما في ذلك المنطقة العربية والإسلامية.. وهي مقالات مطروحة على المفكرين العرب لمناقشتها والتفاعل معها.
علّة العلل في أزمة الحضارة العربية والإسلامية
وصلنا إلى القسم الثاني من البحث وهو غايته في المحاولة التي نسعى فيها لفهم علل تعثر الأمة في استئناف دورها بما يناسب العصر الحالي بعد بيان عدم جدية التفسير العرقي والتفسير الثقافي منفصلين أو مجتمعين. فهما تفسيران عنصريان عضويا وروحيا يسودان لدى النخب التي ورثتهما عن الرؤى التي بدأت في الغرب وقابلت بين الشعوب بهذين العاملين، ثم لما صارت هذه النخب حاكمة تصرفت تصرف المستعمر مع الشعوب على أنها أنديجان، وبررت بها سلوكها لأن الحكام يستمدون قوة الاستبداد والفساد ممن يستعبدهم ليستعبد بهم شعوبهم. وهما تفسيران يردان إلى تأسيس خرافتين على نظرية المعرفة ونظرية القيمة القائلتين بالمطابقة.
وقد سلكت في محاولة التحرر من هذين التفسيرين طريقة يراها من يعتمدون بادئ الرأي الذي فرضه الكاريكاتوران ـ التأصيلي والتحديثي المزعومين اللذين يزعمون أن رؤية الأول للدين ورؤية الثاني للحداثة واعتمادهما كلاهما على التنافي بين الأمرين اعتمادا على موقفيهما اللاواعيين في نظرية المعرفة ونظرية القيمة القائلتين بالمطابقة فأفسدوا دور الدين ودور العلم بهما ولم يفهما استحالتهما من منظور ديني سابق ومن منظور فلسفي لاحق. فيعسر أن يفهم الكاريكاتوران أن المسألة التي يرونها إيديولوجية هي بالإساس مسألة تنتسب إلى نظرية المعرفة (ابستمولوجية) وإلى نظرية القيمة (اكسيولوجية).
وإذا كنت قد بينت في التمهيد الذي صدرت به الفصل السابق ـ الواصل بين جزئي البحث ما تؤدي إليه المطابقتان من وحدانية العالم المردود إلى الإدراك الإنساني المزعوم علميا وهو في الحقيقة عامي، وأن عدم التحرر من وهم الإحاطة الإنسانية المزعوم دينيا وهو كذلك عامي وليس دينيا، فإن ما يتكلم عنه ابن خلدون من دور للدين في علمه هو ما يترتب عن استحالة تخلص الإنسان من عاملي الاعتراف بدور الغيب في حياة البشر، وهو يتجلى خاصة ما ينتاب الإنسان من شعور بمحدودية علمه وعمله وحاجته إلى ما يستكملهما به لا يطرحه على المستوى الأيديولوجي بدليل نفيه كل تأسيس للسياسة عليه نفيا يبلغ حد السخرية من راكبيه واعتبارهم حمقى مجانين بل على المستوى الأكسيولوجي (ما يترتب عن عدم المطابقة القيمية) والابتسمولوجية (ما يترتب عن عدم المطابقة المعرفية) لا غير..
علة العلل وداء الأدواء في أزمة الحضارة العربية الإسلامية ابستمولوجية وأكسيولوجية بهذا المعنى: النزول منهما إلى الأيديولوجيا العامية قديما بالمطابقة الأفلاطونية الأرسطية وحديثا بالمطابقة الهيغلية الماركسية. فما يعنيني في المقام الأول ليس البعد الإيماني من الدين ـ فهذه مسألة شرعية وعقدية وليست موضوع بحثي ـ بل دور رؤية الإسلام والفلسفة النقدية للمطابقتين في سلوك الإنسان الذي نسعى إلى فهم سلوكه الخلقي في التربية (التحرر من الوسطاء) والسياسي (التحرر من الأوصياء) في الحكم.
وابن خلدون وصل الأول بالضمير الخلقي أو ما يسميه بالوازع الذاتي، ووصل الثاني بالقانون أو ما يسميه بالوزع الأجنبي أو الأحكام السلطانية، واعتبر فساد معاني الإنساني علته ما يصيب هذين الأمرين من علل بسبب العنف في التربية وفي الحكم. وذلك ما يجعلني أتكلم في الأمر من حيث بما سميته بالفتنة الصغرى واعتبرته أساس الفتنين الصغرى والكبرى التي رددتها إلى الصغرى في الفكر الباطني وأرجعتها إلى القول بالمطابقتين اللتين تجعلان الصراع بين القائلين بهما يتحول إلى تناف بين دور الديني والفلسفي في الرؤية الأبستمولوجية والأكسيولويجة فيحول دون فهم سلوك الإنسان فردا وجماعة كما حدده ابن خلدون في الباب الأول من المقدمة وما غابت دلالته عن الكاريكاتورين.
بداية ما بعد الحداثة
فالتناظر بين ما كان سائدا في الفلسفة القديمة والوسيطة أعني الرؤية الأفلاطونية جزئيا والأرسطية كليا وما نكصت إليه الفلسفية في غاية الحداثة أعني الرؤية الهيجلية جزئيا والماركسية كليا هو الذي يعنيني في رد الإشكالية التي تعلل الفتنتين الكبرى أي الصراع بين رؤية الإسلام والثيوقراطيا والصغرى أي الصراع بين الإسلام والانثروبوقراطيا هو موضوع بحثي الذي أرده إلى القول بالمطابقتين.
فما مثلته فلسفة أفلاطون جزئيا وفلسفة أرسطو كليا من قول بالمطابقة المعرفية والمطابقة القيمية هو الذي أفسد الفكر القديم والوسيط وخاصة في الإلهيات الكلامية وفي الإلهيات الفلسفية، وهو عينه ما أفسد الفكرالحديث في غايته، أعني ما تمثله فلسفة هيغل جزئيا وفلسفة ماركس كليا وبهذا بدأ التوجه إلى تحول الكلام إلى فلسفة (هيغل) والفلسفة إلى كلام (ماركس) وتلك هي بداية ما بعد الحداثة التي لم تعد بحاجة للقول بالمطابقتين ولا بنفيهما أصلا، لأن الحقيقة نفسها لم تعد مما يطلب وراء ما يسمى بالسرديات.
الإسلام هو البلسم الذي لا يريد من يتصور نفسه قويا ليخفي مرضه أخذه: نعم الإسلام هو الحل. وهو ليس الحل لمشكل يخص المسلمين دون سواهم. هو الحل للإنسانية كلها.
ولست غافلا عن كون هذه التكوينية يعسر قبولها ممن نكصوا إلى المطابقتين بعد التنصل من النقد الكنطي في المثالية الألمانية التي كان همها الاول والأخير التحرر من المقابلة الكنطية بين الظاهرات والباطنات بدعوى المطابقتين في النظر وفي العمل. وكل من بقي فكره عاميا ولم يفهم أن هذا الفصل الكنطي هو بالجوهر عين ما تتحد به الفلسفة والدين عندما لا يقبلان بالرؤية العامية لنظرية المرعفة ولنظرية القيمة فيعتبران فكر الإنسان مرآة عاكسة لما عليه الأشياء في ذاتها.
فذلك هو سر فساد الفكر الحديث في غايته (هيجل وماركس) الذي نكص إلى فساده الفكر القديم والوسيط في بدايته. وكل ما يعتبر ما بعد هيجل وماركس عاد إلى الفكر القديم والوسيط فأصبح صراعا بين الثيوقراطيا والأنثروبوقراطيا جمعا بين الفتنتين في العالم كله وليس في دار الإسلام وحدها. ونفس هذه العلة هي التي حالت في الحضارة الأسلامية دون فهم محاولات المدرسة النقدية العربية تجاوز أفلاطون وارسطو في غاية العصرالوسيط وتفسر ما يحول دون فهمها من فكر العرب الحالي لأنه تهيجل وتمركس بل وصار بعضهم يدعي أنه ما بعد حديث غنيا عن المطابقتين وعن نفيهما لأنه لا يوجد مسرود وراء السرد إذ حتى السارد معدوم.
ومن علامات الحمق تجاوز ما لم يحصل عندهم: فالمتكلمون على ما بعد الحداثة لا يدرون أنهم يثبتون المحاكاة القردية لأن القفز من دون ما هي ما بعده يعني "كسر أعناقهم" المشرئبة لما لا يتوفر لها شرطه. لذلك فغالبا ما تجدهم أجهل الناس بالفكر الفلسفي قديمه ووسيطة وحديثه ويرتمون في ما بعده. وعندي أن ابن تيمية أهم من ابن خلدون رغم علم الجميع باعجابي به اعجابا لا يقدر. وعلة اعجابي به أنه لم يكتف بنقد المعوقات مثل ابن تيمية بل طبق نتيجة نقده بأن انتقل إلى المرحلة الإيجابية فأسس البديل وهو ما حاولت شرحه في كلامي السابق بمفهوم الـ"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له".
ابن تيمية قلب المدرسة النقدية العربية
ومع ذلك يبقى ابن تيمية أهم وهو قلب المدرسة النقدية العربية بين الغزالي وابن خلدون جناحيها. والعلة عندي أنه هو الذي أنهى أسطورة المطابقتين بمراجعة فلسفة أفلاطون وارسطو ووضع لبنات تجاوز القول بالمطابقتين وضعا صريحا ومن ثم حررنا من الفتنة الكبرى باستكمال رد الغزالي لها إلى الصغرى. فغالبا من يركز الناس في علاقة الغزالي بالفلسفة على كتاب تهافت الفلاسفة. وكان ذلك علة موقف حداثيينا-اتباعا لمقالة بلوغ فيه وفي ابن رشد-إذ اعتبروه علة انحطاط الأمة لأنه عارض الفلسفة لكأن الفلسفة وخاصة تلك التي يتكلمون باسهما هي علة تقدم الأمم. لكن ثورته في مفهومين غيبتهما العجلة.
أولهما جاء في المنقذ وهو مفهوم "طور ما وراء العقل" قياسا على العقل بوصفه طور ما وراء الحس. ورغم أن هذا المفهوم بقي غامضا لأنه قابل للتأويل بمعنى الكشف بديلا من العقل والمعرفة الصوفية بديلا من المعرفة العلمية فإنه يعد بداية لتجاوز المطابقة المعرفية على الأقل في الفكر الفلسفي. ولما كان اشعري المذهب فقد جمع بذلك المطابقة المعرفية مع رفض المطابة القيمية لأن الأشاعرة يرفضون التحسين والتقبيح وشرطه رفضها أي إن تقييم الإنسان للقيم ليس مقبولا لكونه مشروط بالتقييم الشرعي بخلاف الاعتزال الذي يقول بالمطابقتين مثل الفلاسفة.
والمفهوم الثاني وهو ما اعتبرته بداية رد الفتنة الكبرى إلى الفتنة الصغرى رغم أن هذه الاخيرة لم تكن موجودة في الفلسفة العملية بصورة صريحة لكنها ضمنية في الرؤية الباطنية كما بين الغزالي في فضائح الباطنية ـ وهي نفي دور الدين في السياسة إلا توظيفيا وليس جوهريا ـ فإن كتاب فضائح الباطنية طرح المشكل طرحا مبدئيا وجعله ابن تيمية موضوع علاج فلسفي صريح. ولهذه العلة اعتبرت"فضائح الباطنية"الذي يبدو كتابا دفاعيا طلبه الحكم السني في بغداد للرد على الحكم الشيعي في القاهرة ثورة فلسفية كبرى لأنه وضع الاشكالية المضاعفة: علاقة الفلسفة بالدين في حالتيهما السوية والمحرفة أي في حالتهما بوصفهما طالبين للحقيقة وبوصفهما موظفين من السياسة.
يبقى ابن تيمية أهم وهو قلب المدرسة النقدية العربية بين الغزالي وابن خلدون جناحيها.
لن أطيل الكلام في أهمية هذه النقلة الثورية في كتاب فضائح الباطنية. أريد أن أرى كيف تحولت إلى ثورة صريحة جعلت ابن تيمية ينهي قصة الفتنة الكبرى والفتنة الصغري برد الأولى إلى الثانية وردهما معا إلى القول بالمطابقتين الممتنعتين على الإنسان لأن من شرطهما ادعاء العلم والعمل المحيطين. وهكذا فما كان جدلا كلاميا عند الغزالي ولم يتحول إلى فكر فلسفي يعالج مسالة الأحاطة في العمل والإحاطة في العلم صار عند ابن تيمية مسألة أكسيولوجية في العمل ومسألة ابستمولوجية في النظر. وقد خصص للأولى رده على ابن المطهر في منهاج السنة وخصص للثانية رده على الرازي في درء التعارض.
وقبل الغوص في ثورة ابن تيمية الفلسفية في مجاليها أي في الأكسيولوجيا (نظرية القيمة شرط العمل) وفي الأبتسمولوجيا (نظرية العلم شرط النظر) ينبغي أن نفهم علة وصلي الأولى بالرد على ابن المطهر في منهاج السنة ووصلي الثانية بالرد على الرازي في الدرء. وهما برهان تجاوزه القول بالمطابقتين. ملخص الرد على ابن المطهر هو دحض الحاجة إلى الوساطة في التربية وإلى الوصاية في الحكم.فما يقابل منهاج السنة هو الزعم بأن الإنسان يحتاج إلى وسيط بينه وبين ربه وهي سلطة روحية كنسية ينفيها الإسلام. وأن الإنسان يحتاج إلى وصي عليه في شانه الدنيوي وهو الحكم بالحق الإلهي (عصمة الأيمة).
منهاج السنة
منهاج السنة: لا وساطة بين الإنسان وربه ولا وصاية على الإنسان في أمره. وسلبا منهاج السنة ينفي الكنسية وينفي الحق الإلهي في الحكم. وهنا نجد الغزالي وابن خلدون حول ابن تيمية قلب المدرسة النقدية. فالحكم بالاختيار وليس بالوصية (الغزالي) والإنسان رئيس بمقتضى الاستخلاف (ابن خلدون). فيكون منهاج السنة صوغا فلسفيا للرؤية السنية في العلاقة بين الإنسان وربه وفي علاقته بأمره: فمن حيث هو إنسان علاقته مباشرة بربه وهو رئيس بمقتضى الاستخلاف أي ليس لغير الله عليه سلطان إلاما يستمده من الإسلام أمرا ونهيا في حكم الجماعة لنفسها والنائب يكون عاملا لديها وليس سيدا عليها.
أما كتاب الدرء فهو علاج للمسألة الأبستمولوجية أي نظرية المعرفة التي تحررها من القول بالمطابقة ببيان استحالة الإحاطة وبدحضها النسقي في النظر وفي ا لعمل وتلك هي ثورة ابن تيمية الابستمولوجية والأكسيولوجية وقد حصلت في الرد على من جمع بين الكلام والفلسفة لما بلغا تمهما عند الرازي. ولا أنوي عرض هاتين الثورتين الأكسيولوجية في الرد على ابن المطهر والابستمولوجية في الرد على الرازي فقد خصصت لثورتي ابن تيمية الكثيرمن المحاولات وخاصة في الضميمة على ترجمة موسوعة المثالية الألمانية لكني أردت أن اختم المحاولة في علل تعثر النهوض والاستئناف وربطه بمنزلة الإسلام.
فبخلاف ما يتصوره أعداء الإسلام عداؤهم لا يدل على ضعفه بل على قوته: اليوم أزمة الإسلام والمسلمين ليست أزمتهما بل هي الدليل على الإنسانية تتصرف حاليا تصرف الطفل المدلل الذي يرفض أخذ الدواء: الإسلام هو البلسم الذي لا يريد من يتصور نفسه قويا ليخفي مرضه أخذه: نعم الإسلام هو الحل. وهو ليس الحل لمشكل يخص المسلمين دون سواهم. هو الحل للإنسانية كلها. فالمرض ـ ومثاله ما يسببه فيروس كورونا ـ لا تحول الحدود السياسية والعرقية والثقافية دون الكونية.ومرض الإنسانية الحالي هو ما يدفعها إلى الحرب على الإسلام ظنا أنه الداء وهو في الحقيقة علاج كل الأدواء التي تعاني منها.
فهم أولا: 1 ـ يرفضون النساء 1 بالعنصرية لأنهم لا يقبلون قول القرآن إن البشر كلهم من نفس واحدة أي إنهم اخوة. وهم ثانيا: 2 ـ يرفضون الحجرات 13 وما يترتب على ذلك من ضرورة التعارف معرفة ومعروفا، 3 ـ ويرفضون ما يترتب على الآيتين من ضرورة حصر التفاضل في التقوى أي المساواة أمام القانون. ولا يريدون أن يكون الإنسان معمرا لا مدمرا وأن يكون خليفة لا ربا وأن يكون قويا بذاته لأنه لا يقبل أن يكون مستضعفا لأنه ليس فقيرا لغير الله. فيكون راعيا لذاته وللعالم. والقوي بذاته لا يمكن أن يستضعف غيره لأن من يسعى لاستضعاف غيره ينفس عن ضعفه لغيره: فأكثر الناس عنفا هم أجبنهم.
وأكتفي بدليلين على ذلك: فلا يوجد من هو أجبن من حكام العرب ومن النخب التي تخدمهم بالطبل والزمر أو بالاعلام والخبرة المزعومة. فهم أكثر الناس تعنيفا لشعوبهم وتبديدا لثرواتهم واستهانة بتراثهم وخدمة لأعدائهم وذلا أمام أدنى مثليهم حتى إنهم صاروا يحتمون بقواعدهم فيمولون احتلال بلادهم. ولعل أبرز الادلة على ما أقول هو ما يحدث الآن في حرب التحرير الجارية في أدلب وفي طرابلس. فالشعوب فهمت أنها تتعلق بشروط عودة الأمة إلى دورها التاريخي والحكام والنخب العملاء ما يزالوا في عصر التفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخي الذي هو علة العجز أمام تحديات عصر العماليق من حولنا.
شروط اكتمال نظرية ابن تيمية
ولا بد هنا من توضيح الأمر الذي كان ينقص المدرسة النقدية حتى تتمكن من تحقيق شروط ثورتها. فعندما قابل ابن تيمية بين علم الموجودات التي في الأعيان وبين قصوره دون البرهان باعتباره لا يمكن أن يكون مطابقا وعلم المقدرات الذهنية الذي هو الوحيد القابل للكلية والبرهانية والمحضية في رده على الرازي كان يتكلم على العلوم النظرية. فلم يكن له نظير المقدرات الذهنية النظرية مقدرات ذهنية عملية.
وذلك ما اضطررت لافتراضه سدا لهذه الثغرة. فالمقدرات الذهنية النظرية هي الرياضيات والمنطق. وهما مبدعات عقلية يكون فيها الإنسان مبدعا للعلم ولموضوعه الذي هو ليس من الموجودات الطبيعية الخارجية بل هو "مجهول الطبيعة" كان ارسطو يتصوره معاني مجردة من الأشياء الطبيعية ومن الأجرام بالذات أي من حدودها عند إطلاق التجريد المستقيم والسطح والجرم ذهابا من الأكثر تجريجا إلى الاقل أو عودة من ألأقل إلى الأكثر في كلامه على الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق.
لكن تعدد الهندسات بين خطأ هذه الرؤية لأن ما يقوله أرسطو يبدو مطابقا لما عليه هندسة اقليدس لكنه لا ينطبق على الهندسات اللااقليدية فضلا عن اصناف الرياضيات الأخرى التي لا علاقة لها بالاجرام وبالتجريد لأن موضوعاتها ليست طبيعية بل يمكن أن تكون أي مجال يقبل أن "يقال" بها. وبذلك تبينت صحة نظرية ابن تيمية القائلة إن المعاني الكلية ليست مقومات للأشياء بل هي رموز مثلها مثل المفردات في اللسان وهي إذن لغة من جنس أرقى اتمكن قول شيء على شيء.
عندئذ افترضت الأمر المكمل لسد الثغرة في نظرية ابن تيمية: وضعت نظرية في المقدرات الذهنية العملية أو القيمية التي من دونها يستحيل التعبير عن الظاهرات الانسانية الأكثر تعقيدا من الظاهرات الطبيعية. وسميتها مقدرات ذهنية عملية مناظرة للنظرية أو القيمية مناظرة للمعرفية ومنها الأديان والآداب التي هي ليست فنونا تخبر عن شيء من عالم الشهادة الطبيعي ولا حتى التاريخي بل هي مبدعات عقلية نجهل طبيعتها كما نجهل طبيعة المبدعات العقلية الرياضية وبها نستطيع الكلام عما يضيفه الإنسان للعالمين الطبيعي والتاريخي من إبداعات لمعان كونية تمكنه من قولها.
والقرآن يعتبر الرسالة مذكرة بمعان موجودة في ما فطر عليه الإنسان هي التي بها يبدع الأمرين اللذين سمتها فصلت 53 آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، والأولى هي ما يمكن أن يتعلق بالمقدرات الذهنية النظرية التي تكلم عليها ابن تيمية والثانية هي ما يمكن أن يتعلق بالمقدرات الذهنية العملية التي اتكلم عليها: وكلاهما يرد إلى "علم آدم الأسماء كلها" أي هذه القدرة على إبداع ما يمكن اعتباره حقيقة الفطرة التي فطر عليها الإنسان وهي "الكود" الذي يجعل الإنسان قادرا على قول الأشياء التي في عالم الشهادة وفي ما ورائه سواء كان طبيعيا أو تاريخيا.
إقرأ أيضا: مقدمات علمية في فهم فلسفة التاريخ وواقع العرب والمسلمين
إقرأ أيضا: لماذا تراجع العرب والمسلمون؟ الأسباب البعيدة والمباشرة
إقرأ أيضا: في تفسير تعثر نهضة العرب والمسلمين.. العصبية والعولمة
إقرأ أيضا: ملاحظات منهجية عن الوجود والجذع المشترك بين الفلسفة والدين
إقرأ أيضا: عن علمي العمران والاجتماع والدين.. قراءة مفاهيمية نقدية